|
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-6
ريتا عودة
الحوار المتمدن-العدد: 3162 - 2010 / 10 / 22 - 19:24
المحور:
الادب والفن
يومًا بعد يوم، رحتُ أتابع قضية آدم في المواقع الإلكترونية والألم يعتصر قلبي وأنا أشهد على التعامل غير الإنساني مع زوجته وابنتيه اللاتي مرّت شهور وهن ممنوعات عن مقابلته وجها لوجه، فقد كان التواصل بينهم عبر حواجز زجاجية والكلام عبر هواتف يتم مراقبتها، وعدد الزيارات لا يتجاوز المرة أسبوعيا بشرط أن تكون قد اتصلت زوجته هاتفيا بموظف السجن لتعيين لقاء، ولم يُسمح لأحد سوى من ذوي القرابة الأولى بزيارته في السجن، حسب ما جاء في الصحف الإلكترونية. اشتكت السيدة حياة من عدم تسهيل فرص اللقاء بآدم، حيث كانت تضطر أن تنتظر ساعات، خارج القضبان، محتملة الجو الحار الخانق، إلى أن يسمحوا لها بالدخول. كانت الرسائل وسيلة الاتصال الوحيدة بين آدم وزوجته، كما جاء على لسانها، والتي كان محددًا عدد صفحاتها وعدد مرات استقبالها. لذا كان كل منهما يكتب للآخر بحروف صغيرة كي يتسنى له أن يكتب آكثر. صرّحت حياة أنّها كانت تكتب لآدم عن كل ظروف حياتها خارج القضبان مع ابنتيها، بكل تفاصيلها الصغيرة، حتى أنها كانت تصف له البراعم الجديدة على زهرة الفل في حديقة المنزل كي لا يفقد إحساسه بالمكان. كانت تناضل مستبسلة من أجل إطلاق سراح آدم، متنقلة كما النحلة من منبر لمنبر لفضح المؤامرة التي تهدف لكسر معنويات زوجها ونتف ريش جناحيه. هذا وأعلنت السيدة حياة أن آدم تعرض لتعذيب فور اعتقاله، تم خلاله انتزاع الأقوال التي وضعوها هم في فمه، وتم التحقيق معه مدة ساعات متواصلة وهو مقيد اليدين خلف ظهره، مسمّر فوق مقعد أطفال، غير آبهين بقامته الممشوقة وكلما انتهى طاقم من التحقيق معه، يأتي طاقم آخر لاستبداله.
*
انهمرت الدموع من عينيّ. شعرت بغصّة في حلقي وضيق في صدري، كأنّ الشّعب الهوائية أخذت تضيق والهواء لا يمرّ عبرها. شعرتُ أنّ الحياة َ سجنٌ كبيرٌ، وأنّ الإنسانَ تحوّل إلى جلاّدٍ لأخيه الإنسان. توجهتُ إلى المرناة وأشعلتها . أخذت أنصتُ بخشوع للمرنم وهو بثقة المنتصر يردد:
ضاقتِ الدنيا قصادي واتقفلت الأبواب لكن إنتَ يا ربّي فاتح ليــَّا أعظم باب.
أنت يا ربّ الحياة ومعاك طوق النجاة ابنك لو منــّك تاه أبدا مش رح تنساه
*
أخذتني خطواتي لشجرة الزيتون، فاستلقيتُ فوق عشبِ تربتها الرطبة. أخذتُ أتساءل ووجه آدم يترنحُ أمامي: هل شدّة المحن تصنع الرجال، كما قال ريتشارد نيكسون..؟! "نحن شعبٌ لم يختر قضيته، إنما قضيته هي التي اختارته". هكذا صرّحت السيدة حياة. وأردفت: "المتفائل إنسان يرى ضوءا غير موجود، والمتشائم أحمق يرى ضوءا ولا يصدّقه. نحن الفلسطينيون صرنا جميعنا متشائلين، كما كتب الأديب إميل حبيبي. لسنا متفائلين ولا متشائمين. صرنا نعرجُ بين الفريقين، مع أننا شعب يحبّ الحياة. من فينا اختار هذه الأزمة المصيرية التي وقعنا فيها ، كأننا حبات زيتون، تقطفنا أيدي الاحتلال، وعلى بساط القمع والاضطهاد تلقينا، ثم تجمعنا، وداخل معصرة الحياة تقذفنا.".
*
ما هي الحياة، وما جدواها..؟! راح السؤال يتصاعد كما بخور الكنائس من حولي. أهي قصة يرويها أبله، مفعمة بالضجيج والصخب، وليس لها معنى، كما يدّعي شكسبير..؟! أهي مثل البصل، قشرة تحت قشرة ولا شيء في النهاية إلا الدموع، كما يدّعي الأديب أنيس منصور..؟! أم هي طفلٌ ينبغي ملاطفته حتــّى ينام، كما يدّعي فولتير..؟! هل الحياة حربٌ بين العاطفة والعقل، كما يدّعي مينار..؟! إنّ الورطة التي وقع فيها آدم جعلتني أعتنق فكرة "شاتوبريان" أنّ الحياة تمرُّ سريعًا ولكنها تثقل في مرورها، كما وأتفق مع "اتيان راي" في قوله: (أصبحَ الخوفُ من الحياة شرًّا أكثر انتشارًا من رهبة الموت).
*
أخبروا نابليون يومًا أنّ جبال الألب شاهقة، تمنع تقدّمه، فقال: يجب أن تزول من الأرض. وقال الرب يسوع المسيح: إن كان لديك ذرّة إيمان تستطيع أن تنقل جبال، أي بقليل من الإيمان تستطيع أن تتغلب على أضخم مشكلة، حتى وإن كانت شاهقة كالجبال. ها أنا أقول بإصرار: من أنت أيها الجبل العظيم، أمامي أنا، بنت الربّ، تصيرُ سهلا. لكن، ماذا لو أني لم أعثر على آدم..؟! ماذا لو استقبلتني حياة بعِدَاءٍ ملموس..؟! أين أذهب إن لفظتني الحياة..؟! الحياة بما فيها من معتقلات، وأسلاك شائكة، واحتلال، وشرور من صنع البشر.. أمامي. الدير بما فيه من أمان وسلام وطمأنينة ورجاء.. خلفي. إن قررتُ أن أفتح باب الحياة وأقتحمها ، لن أتمكن من التقهقر، فالباب سيُغلقُ كما الباب في خرافة علي بابا والأربعين حرامي، كما باب الفردوس. رحتُ أسترجع في ذهني تلك الأقوال المشجعة التي درستها في مادة الفلسفة، مع إحدى الراهبات، وأتقنتُ حفظها غيبا: ليس النجاح سوى القدرة على الانتقال من فشل إلى فشل دون أن تفقد حماسك(1). إذا فكـَّر كلّ من الناجح والفاشل في مشكلة ما فإنّ الناجح يفكر في الحل، بينما يفكر الفاشل في المشكلة(2). أنا لن أفكر في المشكلة إنّما في الحلّ. أنا أفكر، إذن أنا أحيا. أنا أحيا لأني أحبّ آدم، وحين تحبّ تبدأ بالسير عكس مصلحتك الشخصية.(3) لم تعد مصلحتي الشخصية تشغلني، إنّما تستحوذ عليّ فكرة أن أكون بالقرب من آدم. لم تعد راحتي الشخصيّة تشغلني، إنـّما يشغلني أن يدرك آدم أني بحثت عنه، وأني حاربتُ طواحين الهواء من أجل الوصول إليه كي أكونَ له عونا في الضيق.
*
حين يمرُّ الحبّ بنا، لا يعودُ أيّ شيء كما كان.(4) الحبّ الذي يستعصي على النسيان، يستعصي أيضًا على التكرار.(5) سأعود الآن للدير وأخبر الأم مريم أني سأغادر غدا للبحث عن آدم. أعظم خطأ يرتكبه الإنسان هو الخوف من الوقوع في الخطأ.( ألبرت هوبارد) وأنا لم أعُد أخشى الخطأ. لقد بدأتُ حياتي بالغيرة العمياء. كنتُ أغار على آدم حتــّى من خيالي إذا لامس خيالـَهُ على الأرض. بدأتُ حياتي بالشكوك وها أنا أنتهي إلى اليقين.(6) يقينٌ أنّي من آدم ولن أكون لسواه ، لذلك سأتحدى كلّ العقبات التي تقف في طريقي للعودة إليه. كلمة ُ مستحيل لا توجد إلا في قواميس المجانين. إلى صدره الدافئ سأعود، بين ضلوعه سأختبئ ، لتعزفَ الطبيعة ُ سيمفونية العودة، ويعمّ الفرح والسّلام الإلهي. سيفتحُ الفردوسُ أبوابه، لتستقبلَ الملائكة بحفاوة آدم وحواء الذ َيـْن ِ كانَ زمنـُهما زمنَ الحبِّ الأوّل.
------------------------ 1- تشرشل 2- أبراهم لينكولن 3- برنارد شو 4- غادة السّمان 5- غادة السّمان 6- بيكون
يتبع، الفصل الأخير من الرواية.
http://ritaodeh.blogspot.com
#ريتا_عودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-5
-
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-4
-
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-3
-
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-2
-
سيمفونية العودة- المشهد الثالث-1
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-16
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-15
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-14
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-13
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-12
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-11
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-10
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني- 9
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني-8
-
سيمفونية العودة- المشهد الثاني- 7
-
سمفونية العودة-المشهد الثاني-6
-
سمفونية العودة-المشهد الثاني-5
-
سمفونية العودة-المشهد الثاني-4
-
سمفونية العودة-المشهد الثاني-3
-
سمفونية العودة-المشهد الثاني- 2
المزيد.....
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
-
رابطة المؤلفين الأميركية تطلق مبادرة لحماية الأصالة الأدبية
...
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|