|
عودة الأنوار - قصة قصيرة
محمد بقوح
الحوار المتمدن-العدد: 3159 - 2010 / 10 / 19 - 23:15
المحور:
الادب والفن
(.. مدينة الدشيرة تغيرت كثيرا ، و لم تعد كما كانت في سنوات خلت .. صامتة .. هادئة و خضراء ..). هذا ما فكر فيه ، و هو في طريقه إلى "المارشي" .. ثم تدارك .. (هذا أمر طبيعي .. التطور و التغير سنة الحياة) . . لكن رغم هذا التغير السريع ، الذي عرفته مدينته ، فهي لم تفقد جماليتها المنبعثة من رائحة الدكاكين الصغيرة ، الموجودة على جانبي الطريق الرئيسي .. و السنوات الطويلة و الصعبة ، في كثير من الأحيان ، لم تنل من شوارعها .. و جدرانها .. و كذلك من بعض أشخاصها ..، إلا بصورة أقل مما كان يتصور ، قبل أن يجمع لوازمه في حقيبته الجلدية ، في بلاد الأنوار كما يسميها : بلاد الغربة و العجب ، و يعود متلهفا حتى النخاع ، إلى وطنه و بلدته ..، لكن كما سافر منها ، من مدينته ، في ذلك اليوم المشئوم ، عاد إليها خاوي الوفاض .. هذه المدينة التي كانت في ذلك الزمن الغابر، عبارة عن قرية غارقة في بدويتها ، تتخللها حقول فلاحية ، تخترقها السواقي الجارية و الباردة ..، حيث تعلم الدروس الأولى للسباحة ، مع ثلة من رفاقه المشاغبين أنذاك..، قبل أن يكتشف أمواج البحر الواسعة .. بعملية الأوتوستوب ..
لحسن حظه يملك اليوم دراجة هوائية ، لا يوجد في حيه أصلب منها .. رحم الله أبوه الحاج الحسن التاجر ، الذي زار الديار المقدسة مشيا على الأقدام ، و عندما رجع من بلاد الحج ..، لم يرجع خاوي الوفاض ، كما رجع الآن ابنه البكر السيد عمر ، و بعد "مضي سنتين بالتمام و الكمال – يحكي ل"حجام" الحومة – (استطاع المرحوم أبي أن يجمع ثروة كبيرة ، وأن يبدأ حياة تجارية نشيطة نال منها أرباحا لا تحصى .. لكن أين هو العقل ؟؟، لو فكر جيدا في ذلك الزمن .. لاشترى الدشيرة بترابها و حقولها ، و بنواعرها وأشجارها و طيورها ، و أبقارها و جمالها .. هذه كلها ، التي لم يعد لها وجود اليوم ، في حياة هذه المدينة المليئة بالضجيج و الثرثرة ..).
نزل من دراجته ، بحذر شديد ، ثم أسندها بلطف إلى قضيب فولاذي مشدود إلى الأرض في الجانبين .. الحركة في السوق ككل يوم تكاد لا تتوقف ..، ازدحام الأجساد عند مدخل الباب الوحيد لهذا السوق ( يطلقون عليها السويقة بالتأنيث ، ربما نظرا لصغر مساحتها ، رغم أنها تستقبل من الزوار ما لايمكن تخيله أو تصوره ) ، و هي السويقة الوحيدة في المنطقة كلها . بل باتت أنشطتها التجارية مؤخرا تمتد حتى إلى خارج أسوار السويقة ، التي لم تعد أرضيتها الموسخة ، تكفي لجماهير السكان الذين يحجون إليها كل يوم .. أما خارجها فعالم آخر يطول الحديث عنه .. لهذا فالكثير من العربات تتسابق على أحسن المواقع لعرض سلعها ، و كذلك تفعل بعض الكائنات الآدمية الأخرى .. فتصطف .. أو تذهب و تجيء .. ، كما تصطف العربات المختلفة الأشكال و الأنواع هنا و هناك .. تبحث عن القوت و لقمة المساء بأية وسيلة قبل فوات الأوان ، و هجمة الظلام الذي لا يرحم . . الجميع هنا يلف و يجول في هذه السويقة المشهورة بشعبيتها ، قبل إشراقة الشمس في صباح الغد ، الذي تستريح معه السويقة و الساحة الجميلة المجاورة لها من ثقل و ازدحام الأجساد و ضجيج الأصوات و صراخ الباعة ، قبل العودة السريعة لوجه المساء و الظلام ، لتبدأ حكاية الخفافيش و بحثهم الدائم عن القوت و السمر ..
وضع السيد عمر- هذا هو الاسم الذي عرف به في حيه منذ عودته غير المتوقعة - القفل الأول حول العجلة الأمامية ، بحيث أحكم ربطها بالقضيب الحديدي ، في حين وضع القفل الثاني حول العجلة الخلفية ، التي يعتبرها صاحبنا أهم جزء في الدراجة " لأنه هو الذي يتحمل ثقل الجسد كله " .
إذا بدأ يحدثك عن عالم الدراجات و السباقات التي فاز فيها ، قبل أن يسافر ، أو خلال السنوات الأولى التي قضاها هناك ، في ديار الروم - كما يسميها - و كذلك الأخرى التي فشل في كسبها أيام عنفوان الشباب - كما يقول - فاعلم أنه لن يسكت إلا بعد سماعه للآذان الموالي .. و كثيرا ما كان يجمع حوله الراغب في تحليق الشعر ، و القاطن بالقرب من "الحجام" الحسين ، خاصة منهم المسنين الذين يكونون ، في وقت من الأوقات ، قد ملوا من لعبة "الضاما" ، و عندما يسمعون لصوت السيد عمر يتدفق ، كشلال ضائع يخترق أجواء فضاء "الدكان" ، ينهض أحدهم فيقول للمتحلّقين حول رقعة "الضاما": (توقفوا عن اللعب ، لقد حان وقت الاستماع لمذياع الدشيرة ..) . فيبدأ الصبي الذي يساعد الحجام في جمع "بيادق الضاما" ، ليضعها داخل علبة من خشب الأركان ، فيخرج الجميع منشرحا من الغرفة الضيقة ، المخصصة أصلا للعب و تدخين "الشقوفا" .. ، و شرب كؤوس الشاي "المشحّر" ..، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة في يوم عادي و قديم .. الجميع يعرف نهايته كيف ستكون .. حديث و حكي ، ثم حكايات .. و ضحك فتعليق ، و أحيان نقاش فجدل حول موضوع أقل من تافه .. ثم ضحك فضحك .. فسخرية ثم إغراق في الضحك ..، و أحيان يسمع التصفيق .. فيعود صاحبنا في نهاية المساء ،على متن دراجته الفريدة ، ذات الإطار المعدني الصلب ، هذه الدراجة التي لا يعرف إلا بها في دروب حيه .. و "قفة" أغراض "المارشي" خلفه ، في ما يشبه صندوق خشبي عميق ، ربما لن تجد نسخة منه في جميع الأسواق ، و لدى كل الحرفيين مهما صلت و جلت .. صندوق مصمم خصيصا لدراجة بّا عمر ، و حمل أغراضه .. هو دون غيره ..
و حين يصل صاحبنا إلى رأس "الدريبة" ، ينزل من دراجته ، التي لا لون لها سوى لونه هو ، على بعد العشرات من الأمتار من حيث يقيم . يمشي واثقا من نفسه كالجمل ، ليقول مؤكدا للجميع أنه ما يزال قويا .. و سيعيش أكثر من هذا الشباب الطائش ، و الذي لم يذق طعم الحياة الحقيقية .. لسوء حظه .. غش .. ، و مسخ .. و تزوير.. و هلمّ جرا .. يجد نفسه مارا وسط حشد من أطفال الحي ، الذين يلعبون بكرة صغيرة ، و عندما يشعرون به قادما ، يكفون عن اللعب ، و يتقدمهم الأشطر منهم ، فيحاول استفزاز حفيظة بّا عمر .. الذي هو في الأصل لا يحتك بالأطفال ، و لم يسبق له أن فكر في أن يتزوج ، رغم أنه تجاوز الستين في عمره .. وحين يفتح معه أحدهم موضوع الزواج ، يرد عليه بسرعة و بداهة : ( أعوذ بالله .. المرأة قيد لحريتي ، و لعلنة لمن طلبها .. أنا جد مرتاح هكذا حر طليق كالفراشة .. ) . يتدخل أحد الأطفال مستفزا بّاعمر ، قائلا : - آه .. مسيو عمر .. كيف حالك .. أعطني دراجتك أجربها ، وأعطيك هذه الكرة .. و قبل أن يجيب صاحبنا الصبي المشاكس ، يتابع صبي آخر ما قال رفيقه بنوع من السخرية الواضحة .. - واهلي .. اطلب من مسيو عمر أن يعطيك عينه الثانية ، و لا تحدثه عن دراجته ، هي بمثابة زوجته ، لقد ورثها عن أبيه .. إنها قرة عينه .. و قبل أن ينهي الصبي كلامه ، يدع صاحبنا دراجته تسقط على قارعة الطريق المزفت ، دون شعور منه ، و يجري كالحصان و بشكل طفولي ، مطاردا الأطفال الذين أغضبوه باستفزازهم لمشاعره .. و كثيرا ما تكرر مشهد سقوطه على الرصيف كلما هم بالجري وراء صبيان الحي ، للقبض و لو على الواحد منهم لمعاقبته .. لكن يكون جريه دائما بدون جدوى .. ليعود إلى مكان وقوع الدراجة مزمجرا و غاضبا ، لكن رأسه مرفوعة إلى فوق . فيحمل برفق دراجته و هو يشتمهم و يسب "طاسلتهم" محملا مسئولية ما وقع لآبائهم قائلا :"ينجبون كالأرانب دون السهر على تربيتهم". يمضي بّا عمر إلى سبيله ، و يده اليمنى ممسكة بمقود الدراجة الغريب في شكله ، و الذي يسبب له الكثير من المتاعب مع الناس ، و خاصة الصبيان .."لأنه مقود مثير للسخرية و الضحك في نفس الوقت " ، كما قال أحد جلساءه ذات يوم (.. مقود شبيه بقرني كبش مسن ..).
هذه الدراجة في الحقيقة تمثل الإرث الوحيد - و يسميه بّا عمر الكنز الثمين - الذي انتقل إليه من أبيه ، الحاج الحسين، الذي أفلست تجارته في آخر أيامه . أما ابنه الوحيد عمر ، فقد كان حينئذ كالنحلة ..، يستمتع بزهرات زينة الحياة ، و كان مولعا أكثر بالنساء الشقراوات ، و الأنواع الغالية من النبيذ الأحمر .. و لعبة اللوطو، التي أنهت مع ما تبقى من أجنحته الطويلة و قوة فحولته الشبابية .. حتى في موت أبيه ، لم يمهله الزمن لمصافحته و توديعه .. و لا حتى حضور جنازته . أزيد من أربعين سنة قضاها متسكعا و مستمتعا بسحر الحياة ، و جمال الطبيعة و بهاء و عبقرية العالم الغربي الراقي .. عالم الدهشة و الأنوار.. حسب تعبيره ، إلا أنه بقي أمام هذا العالم ، منذ وصوله في أول يوم إلى باريس ، و حتى اليوم الذي لفظته حروف أهرامها الزجاجية .. عاريا حتى من اسمه و هويته ..، بقي مشدودا و مستغربا و مندهشا .. أمام ما رأت عيناه ، و ما سمعت أذناه ، و ما ذاق لسانه ، و ما لمست يداه من أجساد و أشياء أخرى .. و هلمّ جرا. و عندما عاد .. عاد منكسرا و منهارا. و كأنه طعنته يد الزمن من خلف ظهره .. بّا عمر يبدو اليوم أشيب الرأس ، لكن لايزال يتمتع بصلابة الجسم و قوة اللسان .. سنوات فرنسا الآن باتت من أطلال الذكرى ، غير أنها سنوات لم تحافظ له و لو على ماء وجهه المنكمش ، و لا احترام أطفال حيه و مدينته .. كمن كان ميتا في الماضي ، و عادت إليه الحياة فجأة .. ، لكنها حياة بذوق مر .. أو كمن كان حيا داخل قبر حلم ، استيقظ منه بلا توقع ، لكن يقظتة تلك كانت متأخرة جدا ، إنها أشبه بحياة ديدان التراب .. لكن في الكثير من أحاديث الناس الآخرين ، يبدو بّا عمر كالبطل ، و أنه لم يحدث أن صرح لأحدهم أنه ندم عن المدة الطويلة ، التي قضاها هناك وراء عالم البحار الأنيق ، كما يسميه ، متنقلا بين أنوار بلدان الأنوار و الملائكة ..
#محمد_بقوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحوار المتمدن كمعلمة عقلانية للفكر الحر
-
حجارة السماء
-
جدلية الفكر و قيم الإنحطاط
-
الخفاش الأنيق - قصة قصيرة
-
تيمة الجنون في رواية مدن الملح - نص التيه نموذجا - ( بحث )
-
الكرسي الأعرج
-
قصيدة يسكنها بحر
-
هذا المساء ينقب عن وجهه في الشمس
-
صهيل السبت الأسود
-
غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز
-
بهاء شذرات نيتشوية
-
حديث حول البحر
-
قصة قصيرة الميزان العجيب
-
نص المدينة و أبوابها الأربعة
-
رقصة الأوثان
-
كلاب قبيلة الشلال
-
شهوة الصمت
-
يبس الوقت
-
رجال من تراب
-
المزيف
المزيد.....
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|