|
المعنى ومشكلة اللغة
يحيى محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3157 - 2010 / 10 / 17 - 01:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لعل اول ما يواجهنا من مشكل بصدد المفهوم اللغوي او التعريف هو أنه ليس هناك مفهوم او تعريف يمكن اتخاذه لتحديد القضايا الخارجية تحديداً تاماً يتطابق فيه الأمران تطابقاً كلياً. وبعبارة أخرى إن من المستحيل وضع تعريف تام جامع مانع، فهو وإن تطابق مع جملة من المصاديق لكنه يضيف اليها مصاديق أجنبية، بل ويعجز عن التطابق مع مصاديق أخرى يفترض دخولها فيه. فضلاً عن ان التعريف مهما كان فإنه يظل حاملاً لبصمات الإجمال. فطالما ان القضايا الخارجية منزوعة من الواقع المشتمل على تغايرات غير محصورة، فإن التعريف الذي يقابلها لا يمكن حصره هو الاخر. إذ لكي يتحدد التعريف لغوياً ويكون مطابقاً للقضية الخارجية؛ لا بد من تطابق الدلالات اللغوية مع التغايرات الواقعية، ولمّا كانت هذه التغايرات غير محصورة ولا متناهية فإن التعريف الذي يقابلها لا يسعه مطابقتها ما لم يحمل دلالات لغوية غير متناهية هي الأخرى، الأمر الذي يستحيل فعله. وبالتالي فإن التعريف مهما كان فإنه يظل ناقصاً، أو هو ليس بجامع مانع، وأنه يحمل بصمات الإجمال ويلبس لباس المتشابهات ايضاً. وينطبق هذا الذي ذكرناه على الفكر ايضاً. فهو محدود ونسبي في علاقته بالموضوع الخارجي، حاله في ذلك حال اللغة ذاتها، إذ لا يمكنه الإحاطة الكلية بالواقع، ولا يسعه التعبير عنه كما هو، وبالتالي فهو في ذات المشكل من النقص والإجمال. ورغم أنه من الممكن تخفيف حدّة هذا المشكل بزيادة المعرفة وتصحيحها أكثر فأكثر؛ الا ان القضاء عليه كلياً يبقى متعذراً، طالما ظلت أبعاد الفكر محدودة لا يسعها مسايرة ما عليه الواقع. على ان الإجمال الذي يتمشكل به التعريف يصدق في حالتين: احداهما ان عناصر التعريف ومضامينه هي بدورها لو اردنا تعريفها لكان من المحال ان نصل إلى نهاية محددة، أو أنه لا توجد نقطة مركزية مفصلة تفصيلاً مطلقاً يمكن الاستناد اليها. ومن ثم فليس امامنا سوى الإعتماد على المجمل، وهو أمر يصدق مع كل تعريف. كذلك فإن التعريف وإن تطابقت مضامينه مع بعض المصاديق الا أنه يواجه التباساً مع مصاديق أخرى؛ تلك التي تشكل الحدود الوسطى أو التي تقف بين حدين من أنواع المصاديق. إذاً فهناك ثلاث مشاكل تنتاب التعريف، نجملها كما يلي: 1 ـ مشكلة النقص وعدم وجود تعريف جامع مانع للقضايا الخارجية. 2 ـ مشكلة عدم وجود حد مفصل يبتدئ منه التعريف لتتأسس عليه سائر التعريفات للقضايا، سواء كانت خارجية أو تجريدية مطلقة. 3 ـ مشكلة الحدود الوسطى التي تجعل من التعريف بالقضايا الخارجية ملتبساً ومتشابهاً. ويمكن ايضاح المشاكل الثلاث من خلال المثال التالي: عادة ما يعرّف الإنسان بانه حيوان عاقل. وواضح ان المفهوم يشتمل على الناس الناضجين عقلياً، لكن السؤال المطروح بهذا الصدد: ماذا بشأن المجانين والاطفال الصغار من الناس؟ فالتعريف لا يشملهم، وهو بالتالي ليس بجامع ما لم نعتبر هاتين الفئتين لا تدخلان ضمن مفهوم الإنسان. وهو أمر مشكل باعتبار ان النفس البشرية نفس واحدة، فكيف ينضوي بعضها ضمن ماهية والبعض الآخر ضمن ماهية ثانية؟! ومثل ذلك لو افترضنا وجود كائن ليس كهيئة الكائن البشري الا أنه يفكر ويعقل بطريقته الخاصة فهل نعده مندرجاً ضمن مفهوم الإنسان أم نعتبره نوعاً آخر مختلفاً؟ فلو قلنا اننا نلتزم بصيغة التعريف ونصادق عليها كل ما نجده يدخل ضمن هذه الصيغة ونخرج منها ما لا يدخل فيها؛ لأصبحنا - في هذه الحالة - نفترض ماهيات كلية مستقلة قد تعمل على تفريق ما لا ينبغي تفريقه وجمع ما لا ينبغي جمعه. فقد تنضم مصاديق ذات ماهيات مختلفة تحت ظل التعريف، وتزاح مصاديق أخرى تنتمي إلى ماهية واحدة. وبذلك نصبح غير متمكنين من تحديد القضايا الخارجية والكشف عن حقائقها، بل بصدد صياغات ذهنية ولغوية مفترضة. فهذا ما يبرر اعتبار كل تعريف ناقصاً لعدم كونه جامعاً مانعاً. من جهة ثانية، كيف يمكن لنا تحديد الحدود الفاصلة التي تميز بين ما هو انسان وما هو غير انسان؟ فمثلاً ما هو حد فاصل الإدراك ليكون الكائن انساناً أو غير انسان؟ هل الجنين انسان؟ وكذا هل الطفل الرضيع انسان؟ والى أي حد يبلغ فيه الطفل النضج العقلي حتى نلحقه بحضيرة الإنسان، هل في إدراك الجزئيات أم الكليات؟ ثم متى يمكنه فعل ذلك؟ وماذا نقول لو وجدنا كائناً أقوى إدراكاً من القرود، لكنه أضعف من أدنى الناس تعقلاً، فهل نُلحقه ضمن مفهوم الإنسان أم لا؟ قد يقال إن مفهوم الإنسان يمكن تشخيصه عبر ما يحمله من عدد الصبغيات (الكروموسومات) الوراثية الثابتة. إذ في هذه الحالة يتمايز عن بقية الكائنات الحية مثلما يتمايز عن المادة الجامدة. لكن تبعاً لهذا المقياس تكون بيضة الإنسان المخصبة مما يشملها المفهوم، لحيازتها نفس العدد، وهو أمر غير معقول. وكذا نعلم بأن كل خلية من خلايا جسم الإنسان تحمل نفس هذا العدد الثابت؛ فهل يعقل أن يكون كل منها مندرجاً تحت سقف المفهوم السابق؟! نعم قد يقال ان في الأمر شرطاً وهو أن يكون الكائن مستقلاً وحاملاً لهذا العدد. وهنا نواجه مشكلة تتعلق بالإستقلالية ودرجاتها، إذ تجعلنا نقع في ذات المشكل من الحدود الوسطى. فهل الطفل الرضيع كائن مستقل لمجرد خروجه من بطن أمه، أو أنه ليس بمستقل باعتبار أن حياته متوقفة على الحاضنة التي تشبع حاجاته الأساسية من الغذاء وغيره؟ وهل البيضة المخصبة التي تزرع في انابيب صناعية خارج الرحم تعد مستقلة بهذا الاعتبار، أم أنها ليست مستقلة لعدم الاكتمال الجسمي؟ وهل نعد الميت انساناً، حتى وهو ما زال يحمل ذلك العدد من الكروموسومات قبل موت الخلايا الجسمية، أو هو غير انسان لفقده عنصر الحياة والروح؟ هكذا فمن هذه الناحية ان تحديد المفهوم هو تحديد مجمل غير مفصل. كما من جهة ثالثة، يلاحظ ان عناصر التعريف تحتاج بدورها إلى تعريف. فالحيوانية والعقل كل منهما ينطوي على قضايا متفرعة تحتاج إلى تعاريف تجرنا إلى غيرها وهكذا ضمن سلسلة غير منتهية من التعريفات. فمثلاً أن الحيوان بحسب التعريف لو اعتبرناه مجرد جسم ذي حياة متصفة بجملة خصائص كالحركة والنمو والتكاثر وغيرها، لرأينا أن هذه العناصر تحتاج بدورها إلى تفريعات من التعاريف بلا نهاية. فهل يُقصد بالجسم - مثلاً - أنه كل مادة لها أبعاد ثلاثة من الطول والعرض والارتفاع؟ لكن ماذا بشأن المواد الذرية والاشعاعات وغيرها؟ ثم ماذا نعني بالمادة، وكذا الأبعاد الثلاثة.. وهكذا يمكن ان ننجر إلى سلسلة غير متناهية من التحديدات. وسنواجه في هذه الحالة مشكلة منطقية تجعل من التعريف أمراً غير ممكن، إذ كيف يمكن تأسيس تعريف مفيد اذا ما كان كل تعريف ينطوي على ما لا نهاية له من التعاريف الضمنية؟ مع ذلك نرى ان هذا الاشكال يصدق فيما لو اردنا تعريفاً دقيقاً ومنضبطاً غاية الدقة والإنضباط. وهو لا ينطبق على ما لو اكتفينا بتعريف ينطوي على مصاديق مسلّم بها أو مشار اليها بالحس أو المعنى. فمثلاً اذا أردنا أن نحدد مفهوماً معيناً كمفهوم (الكلب)، فسيمكننا تجاوز هذه المشكلة عندما نأخذ بنظر الإعتبار أن المفهوم الذي نقصده هو ذلك المتضمن - على الأقل - تلك المصاديق من الكلاب المألوفة المتصفة بصفات حسية معلومة كهيكلها العام وكونها من آكلات اللحوم وذات اصوات نابحة ولها عدد محدد من الازواج الكروموسومية وما إلى ذلك. فهذا هو الحد الادنى من مقصودنا بالكلب، وهو حد يضمن لنا ان نتحدث عن ماهية أو مفهوم معين نتفق عليه بلا اختلاف ومن غير حاجة إلى دقة مفهومية أو لغوية، فالعبرة بتلك الاشارة الحسية أو المعنوية التي يستلهمها الذهن البشري والتي تشكل حجر الزاوية من التفاهم وصنع المفاهيم، وإن كنا نواجه فيما عدا هذا الحد من الاشارة المصداقية مشاكل مختلفة كالتي سبق ذكرها. وبالتالي يتحتم اعتبار المفاهيم مجملة بلا تفصيل نهائي. إذاً فمرد التعريف يعود إلى الإشارة المصداقية المحدودة من الحس أو المعنى التي يتفق عليها الناس، ولولا هذا المشترك ما كان بالامكان انشاء أي تعريف على الاطلاق، بل ولا أمكن ايصال المفاهيم من فرد إلى اخر، ولا الترجمة ولا التفاهم بين البشر على شيء. رغم ان الأمر يعني من جانب آخر ان المفاهيم والترجمة والتفاهم بين البشر ليست متطابقة المعنى على السواء عند الجميع، فخلف ما يتفق عليه الأفراد من المعنى المشترك للمفهوم تختبئ موارد الإختلاف والإلتباس، وهو ما يبرر صفة إجمالية المفهوم. هكذا نعلم بأن من المحال ان نصل إلى قضية محددة تحديداً بسيطاً ومفصلاً حتى النهاية، فكل قضية مجملة، وصدقها هو صدق مجمل ينطبق على نماذج معينة لكنه يواجه مشاكل مع نماذج أخرى كالحدود الوسطى ودقة التطابق مع المصاديق. فما نراه واضحاً في اول الأمر يبدأ يلتبس عند التفصيل باجراء حالات الانطباق والتوافق. وهو ما يجعل تحديد القضايا، ومنها القضايا الخارجية، قائماً على التحديد الإجمالي. وتعد هذه المشكلة موضع اهتمام المنشغلين بالعلوم الطبيعية، إذ الشعور بأن اللغة التي يتداولونها هي لغة مفعمة باللبس والغموض، وان اللغة العادية أو العرفية لا تفي بحاجة الفهم العلمي. فمثلاً ان عبارة (الماء يتجمد عندما يكون بارداً بشكل كاف) هي جملة تنطوي - على الأقل - على لفظين سائبين، هما: الماء والكفاية. فقد يشير لفظ الماء في الجملة إلى المطر النازل من السماء، والى السائل المستخرج من عيون الأرض والابار، وإلى الجاري في الانهار والبحار. كما قد يستخدم اللفظ بشكل اقل في ما يطلق عليه الماء المضاف؛ كعصير الشاي والفاكهة وغيرهما. أما لفظ الكفاية فهو ايضاً ليس دقيقاً، إذ هناك اختلاف في البرودة الكافية لتجمد الماء بالنسبة إلى المناخ العام إن كان صيفاً أو شتاءاً، وكذا عندما يكون الوقت فجراً أو ظهيرة، حيث تختلف درجة الحرارة. وبالتالي فحيث ان مقدار الحرارة يتغير لذا يكون اللفظ غير دقيق . وهو أمر سبق ان عزيناه إلى الفارق الحاصل في التقابل بين ما هو متناه، كاللغة، وما هو غير متناه، كالواقع. وينطبق هذا الحال على التحديدات الانشائية والقيمية المرتبطة بالواقع الخارجي، فهي كالقضايا التقريرية لا يمكن التعامل معها الا على نحو النقص والتحديد الإجمالي كالسابق. وهنا نعود إلى صلب السؤال المركزي الذي بدأنا به البحث: إذ علمنا ان تعريف القضايا، ومنها الخارجية والقيمية، لا ينفك عن التحديد المجمل كما تدل عليه المشكلتان الأخيرتان من مشاكل التعريف الثلاث الآنفة الذكر، لكن ما الذي نعنيه بالمجمل؟ أو ما هو تعريف المجمل بالذات؟ لا بد من التذكير اننا بصدد تعريف إجمالي، لإستحالة فعل غيره كما قدمنا. كما اننا بصدد قضية مجردة ليست خارجية رغم العلاقة التي تشدها اليها. فكما قلنا ان كل قضية لا تخلو من عناصر مجملة في علاقتها بالمصاديق، وان هناك اختلافاً بين القضايا فيما تحمله من النسب المجملة، فبعضها أشد اجمالاً من البعض الآخر. وبالتالي فلدينا قضايا قليلة الإجمال مقارنة مع قضايا أخرى أكثر تعقيداً واجمالاً، طالما أن القضايا بعضها يتأسس على البعض الآخر. فما من قضية نعدها مفصلة الا وهي مفصلة بالنسبة إلى قضية أكثر اجمالاً منها، مع أنها تظل مجملة بالنسبة إلى غيرها. وهذا يعني ان تحديد المجمل هو تحديد نسبي في علاقته بما يقابله من المفصل. فالمجمل هو ما يتصف بالعموم والاشتراك دون الخصوص والانفراد، وعلى عكسه المفصل. أو يمكن القول ان المجمل من الناحية الاجرائية فيه شيء من التفصيل والبيان وهو ما يبديه من العموم والاشتراك دون ما يقابله من الخصوص. أو هو ذلك المبين من حيث اجماله، لكنه متشابه من حيث تفصيله. أما المفصل فيفترض ان يكون مبيناً في تفصيله من غير تشابه. لكن لمّا تعذر وجود مفصل تام التفصيل، إذ كل تحديد لا يخلو من اجمال، لذلك فإن تحديد المجمل والمفصل هو تحديد اجرائي ونسبي على الدوام. وينطبق ما ذكرناه على النص الديني. وعليه اذا كانت مشكلة هذا النص ذات بعدين: فمن جهة ان لها علاقة بنقص التحديد، حيث لا يمكن تحديد الموضوعات الخارجية بمفهوم دقيق جامع مانع، فيتعذر الحكم عليها بدقة، كما أنها من جهة أخرى ذات علاقة بالالتباس والاجمال، حيث لا يخلو التحديد والحكم من موارد ملتبسة تحمل في طياتها الإجمال.. فاذا كانت هذه هي مشكلة النص الديني وعموم النص؛ فلا مناص - آنئذ - من الإعتماد على عناصر أخرى وظيفتها التدقيق وتلافي النقص المذكور وفك الإجمال قدر الامكان. فهناك عناصر مشتركة تساهم في حل الإشكالية المتعلقة بالنص الديني تحديداً، وتتمثل بكل من الواقع والوجدان والمقاصد. إذ أن عدم مشاركة هذه العناصر في حل الإشكالية المشار اليها سيفضي إلى حدوث التعارض والتضاد بين ما يفهم من الحكم طبقاً للإسلوب اللغوي من جهة، وبين المقاصد والواقع من جهة أخرى، تبعاً للقيود التي تمتاز بها اللغة، ومنها لغة النص، باعتبارها لا تكافئ تغايرات الواقع غير المتناهية .وعليه لا بد من إثارة تساؤلات محددة وإشكاليات حقيقية لها علاقة بما ذكرنا. لنفترض - مثلاً - ان الشارع الحكيم أورد نصاً مفاده: (اكرم العالِم). فالنظر إلى هذا النص يجعلنا ندرك أنه يتضمن كل علامات البيان والنقص والتباس الإجمال معاً. ولنتجاوز في البداية المقصود بالعالم وحدوده، وكذا الإكرام، ولنفترض انهما بيّنان تماماً، مع هذا يستشكل ان يكون المقصود من النص هو مطلق العالم. وبالتالي لا بد من العمل على تقسيمه. لكن التقسيم تارة يكون بعيداً عن الحدس المقاصدي واخرى يندرج ضمن هذا الحدس. فالملاحظ ان التقسيم الأول هو تقسيم فارغ لا يعني شيئاً بحسب الإدراك الوجداني، من حيث ان الشارع الحكيم ليس بصدده، وبالتالي لا جدوى من تفكيك النص إلى نوع من الإجمال إن كان المعني من ذلك مطلق العالم، أم علماء محددين ببشرة لونية معينة أو اوطان أو قوميات محددة. فكل ذلك يعد من التساؤلات غير المجدية لعدم ارتباطها بمقاصد التشريع. فوجداننا الحدسي لا يسمح لنا الأخذ بهكذا تقسيمات على محمل الجد، وبالتالي فالبحث فيها لا يجدي نفعاً. وهو على شاكلة ما وقع به اليهود من تورط عندما سألوا عن شكل البقرة التي أُمروا بذبحها مما ينافي القصد في الامر، لذلك فقد ضيّق الله عليهم كلما زادوا من أسئلتهم العابثة . فالسؤال الحقيقي إنما ينبع من تفكيك النص بما له من علاقة بمقاصد التشريع، وذلك عندما نسأل أسئلة مجدية يمكن من خلالها ان نحدد الأطراف المبينة ونميزها عن تلك المتشابهة. فمثلاً يمكن تقسيم العالم إلى عالم خيّر وعالم شرير، وكذا إلى عالم مسلم وغير مسلم، وبالتالي تصبح لدينا أطراف متعددة هي بحسب تفكيك النص كما يلي:
1 ـ إكرام العالم المسلم الخير. 2 ـ إكرام العالم المسلم الشرير. 3 ـ إكرام العالم غير المسلم الخير. 4 ـ إكرام العالم غير المسلم الشرير.
هذه أربعة أطراف تتفاوت فيها نسب البيان والالتباس، مع أنها تعود إلى نص مجمل واحد هو (اكرم العالم). ولأجل التبسيط سنترك النسب الخاصة بالخير والشر وكذا مستوى العلمية والإكرام وحدود كل من هذه المفاهيم التي لا يخفى أنها تتمشكل بمشكل المجمل المبين، فضلاً عن نقص التحديد. فكل مفهوم يحمل اجمالاً فيما يُقصد به، إذ تكون بعض الأطراف مما يصدق عليها المفهوم بوضوح، وبعض آخر يتشابه الأمر فيها، كما ان هناك أطرافاً لا يُقرر الحال معها بدقة على نحو الجامع المانع. إذاً لنكتفي بتلك الأطراف الأربعة على ما فيها من شبكة المجملات الضمنية وذلك لغرض الايضاح والتبسيط. فالملاحظ ان الطرف الأول هو من المفصل المبيّن بلا أدنى شك، وبالتالي فإن ما يعنيه النص بحسب النظر الابتدائي أنه على الأقل يلزم إكرام العالم المسلم الخير. أما سائر الأطراف فتتفاوت في الحسبان. فمثلاً يستبعد الطرف الأخير من مقصد النص تماماً، وهو الطرف الذي يقع في القطب الآخر المقابل لقطب الطرف الاول. ويكشف هذا الحال عن حقيقة كون النص لا يمكنه ان يتجنب نقص التحديد، أي أنه في هيئته اللغوية ليس بجامع مانع. في حين ان الطرفين المتوسطين لا يصلان إلى نفس المستوى الذي عليه الطرفان المتضادان، أي ان هذين الاخيرين يمتازان بأولوية الحكم المتقابل، وان الطرفين المتوسطين يشوبهما - كلاً أو بعضاً - قدر من التشابه مقارنة ببيانية الطرفين المتضادين. وهنا يأتي دور المقاصد لتفكيك النص ومن ثم معالجته بحسب ما ينطوي عليه من بيان وتشابه. واذا كان البعض من الأصوليين أولى الدليل اللبي - أي غير اللفظي - أهلية لفك مثل هذا الاطلاق أو الإجمال، فإنا نعزو ذلك إلى تصورنا عن مقاصد المتكلم ومنه المشرّع الديني وما له من دور في إعمال ذلك الحل والتفكيك . هكذا يلاحظ في مثالنا السابق ان النص (اكرم العالم) ينطبق على بعض المصاديق مثل العالم المسلم الخير، لكنه نص غير مانع، ففي مفهوم (العالم) وجدنا ذلك المتصف بالعالم غير المسلم الشرير، حيث يتضمنه النص من الناحية اللغوية الصرفة، لكن يستبعد هذا المصداق من النص تبعاً لما تدلنا عليه المقاصد. كما أن في النص شيئاً من الالتباس والتشابه، إذ كيف نتعامل مع العالم الخيّر غير المسلم، فمن الواضح أنه متشابه بدرجة ما، ولا يمكن التخلص من هذا التشابه الا بالرجوع إلى المقاصد العامة وروح الديانة إن كانت تسمح وترجح فضيلة الخير على رذيلة الكفر أم لا؟ إذاً فالنص يتصف بوصفين ملازمين، هما نقص التحديد وإلتباس التشابه، وأن معالجة هاتين المشكلتين تتم عبر تفكيك النص تبعاً للمقاصد وعلاقتها بكل من العقل والواقع. لكن قد يُشكل - هنا - بأنه اذا كانت الاسئلة المجدية هي تلك التي لها علاقة بمقاصد التشريع فما بال السؤال الذي طرحه بعض الصحابة - كما ورد في الخبر - ووجد فيه النبي (ص) كراهية، مع ان له مساساً واضحاً بتلك المقاصد؟ إذ روى الترمذي والدارقطني عن الإمام علي (ع) أنه قال: لما نزلت آية الحج ((ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً)) آل عمران/97؛ قال جمع من الصحابة: يارسول الله أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كل عام؟ قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم. فانزل الله تعالى: ((يا ايها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم)) المائدة/101 . كما روى الحديث آخرون كمسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وبعضهم حسّنه والبعض الآخر صححه . والجواب هو أن من المقاصد الشرعية التسهيل والعفو فيما لم يُصرح به، مثلما ورد ذلك في عدد من الآيات الكريمة والكثير من الأحاديث النبوية، وبالتالي فزيادة السؤال تعد من التشديد، إلى درجة ان الرواية الآنفة الذكر عبّرت بقول النبي (ص) في آخر حديثه >لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتمولو وجبت لكفرتم، الا أنه أهلك الذين قبلكم أئمة الحرجان الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا..< ، وكذا روى أحمد والبخاري عن النبي قوله: >أحب الدين إلى الله الحنيفة السمحة< ، كما جاء في الصحيحين ان النبي (ص) قال: >يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا< .
#يحيى_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرفاء والتنزلات الالهية للوجود
-
جواب على سؤال مطروح
-
المصلحة ودورها في التشريع
-
الواقع وضبط الفتوى
-
نظرية الطوفي والفكر الإمامي
-
مقارنة بين علم الكلام والفقه
-
القراءة الوجودية للنص والفهم السائب
-
العقل والإجتهاد
-
فهم النص ومعايير التحقيق (5)
-
فهم النص ومعايير التحقيق (4)
-
فهم النص ومعايير التحقيق (3)
-
فهم النص ومعايير التحقيق (2)
-
فهم النص ومعايير التحقيق (1)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (5)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (4)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (3)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (2)
-
نظرية الاحتمال ووجهة النظر الجديدة (1)
-
موقف الفلاسفة التقليديين من فهم النص
-
نظرية المقاصد ونقدها
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|