|
مصر... فوق المسجد والكنيسة
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 3149 - 2010 / 10 / 9 - 17:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وقفت مصر على أطراف أصابعها، وكتمت أنفاسها ، بدلاً من المرة مرات خلال الشهر المنصرم، تحسباً لاندلاع حريق طائفى هائل من جراء ملاسنات منفلتة، وتفتقر إلى الحد الأدنى من الإحساس بالمسئولية الوطنية، تورطت فيها رموز كبيرة ومؤثرة تنتمى إلى "الفسطاطين".. الاسلامى والمسيحى. هذا القلق الشديد الذى ساور الأغلبية الساحقة من المصريين ـ مسلمين وأقباط ـ كان ـ ومازال ـ له ما يبرره بكل تأكيد، لأن التراشق بالتصريحات النارية وتبادل الاتهامات الغليظة الطائشة استهدف أكثر المناطق حساسية، ألا وهى منطقة "العقيدة" الدينية، التى علمتنا التجارب التاريخية أن اندلاع أتفه شرارة على أرضها الملغومة سرعان ما يتحول إلى حريق مروع يأتى على الأخضر واليابس، خاصة فى أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفقدان اليقين وغياب مشروع وطنى تلتف حوله الأمة. ولاشك أن هذا القلق واسع النطاق، الذى تجلى فى مظاهر متعددة، يعد فى حد ذاته مؤشراً إيجابياً، من حيث أنه يعكس درجة من الوعى بخطورة الاحتقانات الطائفية، والخشية من استفحالها وخروجها عن السيطرة، فى ظل تنامى نفوذ القوى والجماعات المتطرفة – على الجانبين – فى الداخل، وكذلك فى ظل تربص قوى خارجية وتلمظها للصيد فى الماء العكر وتحين الفرصة لزعزعة الاستقرار والسلم الأهلى فى مصر من أجل خدمة أهداف ومصالح واستراتيجيات لم تعد خافية على أحد. ولاشك أيضاً فى أن التحرك السريع لعدد من الجهات، من أجل إخماد الفتنة فى مهدها وقطع الطريق أمام محاولات البعض – فى الداخل والخارج – النفخ فى نيرانها، يمثل مؤشراً إيجابيا ثانياً لا ينبغى التهوين من شأنه. رغم ذلك فإن هذين المؤشرين الايحابيين – ومع التسليم بأن وجودهما ليس كعدمه – يتضاءل تأثيرهما أمام جبال من السلبيات الخطيرة. أول هذه السلبيات هو رد الفعل المدوى للتصريحات إياها التى صنعت الأزمة الأخيرة. فلو أن نفس هذه التصريحات صدرت فى مناخ أقل تلوثاً بسموم الطائفية لما أحدثت كل هذه الضجة أو ربما مرت مرور الكرام دون أن يعبأ بها أحد ودون أن يلتفت إليها الناس الذين يفترض أن ينشغلوا بأمور حقيقية وأكثر اهمية. بينما واقع الحال فى مصر الآن يعلى من شأن الطائفية وغيرها من الانتماءات الأولية والتقليدية ويعطيها الأولوية على الرابطة الوطنية وكل ما يتصل بها من لزوميات الحداثة. هذا المناخ الطائفى المسموم يعنى – ضمنياً – تراجع مشروع الدولة المدنية الحديثة الذى دفع أجدادنا وآباؤنا ثمنا باهظاً لإرساء دعائمه منذ أوائل القرن التاسع عشر. *** وإذا كان "رد الفعل" الذى رأيناه يحمل هذا المعنى السلبى، فأن الأكثر سلبية منه هو "الفعل" الذى سبقه، والذى ما كان ليحدث أصلاً – ناهيك عن أن يمر مرور الكرام – إذا كانت هناك محاسبة جدية، وإذا كان هناك إعمال للقانون يحفظ للأمة سلامتها ويحفظ للدولة هيبتها ويضمن للمؤسسات الدستورية صلاحياتها التى فرطت الدولة فيها فاختطفها المسجد والكنيسة وقاما بـ "خصخصتها". وهذا معناه أن "الفعل" و"رد الفعل" لم "يفاجئاننا"، بل هما نتاج طبيعى لمناخ الانحطاط الذى ترافق مع التقاعس عن دفع فاتورة بناء الدولة المدنية الحديثة أو حتى الحفاظ على الخطوات التى قطعها آباؤنا وأجدادنا على طريق بنائها. وعملية "التحلل"، أو "التفسخ"، هذه مستمرة وتحدث أمام أعيننا يوما بعد آخر وعاماً بعد آخر بوتائر متسارعة. والنتيجة المنطقية هى أن قوى التخلف والظلام تكسب أرضاً جديدة كل يوم، بما يتضمنه ذلك من تعريض الهوية الوطنية المصرية لخطر الطمس و التشويه، وتعريض الأمة لخطر التفتت والتمزق، على النحو الذى نرى "بروفة" مأساوية له على حدودنا الجنوبية فى السودان الشقيق الذى أصبح أشلاء ممزقة بفضل "عسكريتاريا" يرتدى قادتها بدلة الجنرالات ويضعون على رءوسهم عمامة الإسلام ويملأون الدنيا ضجيجا مفعماً بالغرور والتعالى رغم أن أعظم إنجازاتهم تقسيم الوطن وتفتيت وحدته! وقد حذر الكثيرون من انتقال هذا السيناريو الأسود من جنوب الوادى إلى شماله بعد أن نشط فيروس التفكك واجتاح البلاد، لكن كل هذه التحذيرات ذهبت أدراج الرياح، وقوبلت بالتهوين والتسخيف.. حتى وقع الفأس فى الرأس. *** وها نحن نقف فى مفترق الطرق، "سكة السلامة" معلومة وموصوفة، "وسكة الندامة" واضحة وضوح الشمس. وسكة السلامة هى الدولة المدنية الحديثة بكل استحقاقاتها ومؤسساتها وآلياتها، وفى مقدمتها اعادة الاعتبار إلى القانون والحريات العامة والخاصة والعقلانية والعلم والتسامح والتعددية واحترام التنوع. وهذا معناه ان اجتثاث جذور الأعشاب السامة للفتنة الطائفية يصبح حلماً بعيد المنال، أو بالأحرى سراباً خادعاً، دون إصلاح نظام التعليم الفاسد والفاشل والقضاء على الآمية الأبجدية وإصلاح نظام الاعلام وإصلاح الخطاب الدينى فى ظل التمكين لمبدأ المواطنة باعتباره المبدأ الأكبر فى دولة القانون التى تعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله وتحظر بحسم تسييس الدين وتديين السياسة وتمنع التمييز بين المصريين بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو المكانة الاجتماعية. وهذه كلها أمور لن تتحقق من تلقاء نفسها، ولن تهبط من السماء، أو تأتى "منحة" من حاكم طيب القلب. بل هى بالأحرى مهمة "نضالية" بكل ما فى الكلمة من معنى، تقع مسئوليتها على المجتمع بأسره، وبخاصة على الجزء الناطق من الأمة. وبديهى أن هذه المهمة النضالية هى جزء من "عملية تاريخية"، لا تبدأ من الصفر، لأن آباءنا وأجدادنا قدموا تضحيات عظيمة وحفروا فى الصخر منذ مطلع القرن التاسع عشر من أجل وضع حجر الاساس للدولة المدنية الحديثة. والمطلوب من الاجيال الحديثة أن يبدأوا من حيث أنتهى اسلافهم العظام لا أن يبدأوا من الصفر وكأن شيئا لم يكن. **** والأهم... هو أن من ساهم بطريق مباشر أو غير مباشر فى الانقضاض على مشروع الدولة المدنية الحديثة ومحاولة تقويض ما تم إنجازه على طريقها، لا يمكن أن يكون جزءاً من عملية رد الأعتبار إليها. وهذا ينقلنا إلى الأزمة الأخيرة.. حيث يتم إعطاء مسئولية الخروج من هذا المأزق إلى الذين ورطونا فيه، وهو نفس ما يحدث بصورة أو أخرى فى عملية الاصلاح السياسي والاقتصادى، التى توكل إلى نفس الذين خربوا مالطة! وبطبيعة الحال فأن مهمة التصدى للفتنة الطائفية لا يمكن لها أن تنتظر حتى بناء الدولة المدنية الحديثة، بل هى مهمة يجب أن تبدأ اليوم قبل الغد وتحتاج إلى مبادرات أهلية ومجتمعية على أكثر من مستوى. وربما يكون المستوى الصحفى والاعلامى أهم هذه المستويات حالياً، حيث المطلوب بالحاح ليس فقط إطفاء الحرائق وإنما أيضا العمل على الحيلولة دون نشوب حرائق جديدة. ولا ينبغى أن يكون هذا مجرد "كلام" وشعارات، وإنما يجب على القيادات الصحفية والاعلامية أن تتحرك بسرعة، وأن تبلور مبادرات إيجابية وفعالة دون انتظار "توجيهات" عليا من أى جهة بيروقراطية. فإنقاذ الوطن من كوارث محدقة لا يحتاج إلى إذن من أحد، ناهيك عن أن يكون هذا "الأحد" مسئول عن صنع هذه الكارثة أو مستفيد من وجودها بشكل أو آخر. وغير خاف على كل صاحب فطنة أن هناك من بين كبار البيروقراطيين من يظن أن قدراً محسوباً من التوتر الطائفى ربما يكون "مفيداً" فى تحويل الأنظار عن قضايا حقيقية من غير "المستحب" تركيز الاهتمام عليها، مثل ضمانات نزاهة الانتخابات البرلمانية الوشيكة، أو كيفية التفاف الحكومة على زلزال الحكم القضائى ببطلان عقد "مدينتى" وما يستتبعه من إدانة لاهدار الحكومة للمال العام والحق العام، أو غول الأسعار الذى يفترس المصريين الذين تعانى أغلبيتهم الساحقة سلفاً من الفقر وشظف العيش. ولا ينطوى هذا المنهج على قصر نظر فقط وإنما هو لعب خطير بالنار.. لا يجب السماح باستمراره والعبث بمستقبل هذا الوطن.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اختطاف مصر!
-
محمود محيي الدين.. الدولي!
-
سعد هجرس مدير تحرير«العالم اليوم»: لست من أنصار جمال مبارك..
...
-
موائد الرحمن الرمضانية.. وداعاً .. يحدث في مصر فقط: الفقراء
...
-
لا تتظاهروا بالمفاجأة إذا اختفي الهرم الأكبر.. غداً
-
هل مصر «دولة فاشلة»؟!´-1
-
هل مصر دولة فاشلة؟! (2 -2) .. نكتة أمريكية: جيبوتي أقل فشلاً
...
-
البلطجة تخرج لسانها للقانون!
-
حكومة »الإظلام التام«.. والموت الزؤام!
-
رداً على إحراق القرآن فى فلوريدا .. هل نحرق قلوب أقباط مصر؟!
-
أصل الداء دون لف أو دوران: »الساركوسيست« الهندي.. صناعة مصري
...
-
المغربي.. في »وادي كركر«
-
ملتقى الجونة (2)
-
ملتقي الجونة (1)
-
رغم تقرير الانجازات: الممارسات الاحتكارية.. تخرج لسانها للمن
...
-
تسويق جمال مبارك .. ب -الكردى-!
-
-التميمى- فى النار سبعين خريفاً
-
دراسة علمية خطيرة تدق نواقيس الخطر
-
التعذيب .. بنظام »خدمة التوصيل إلى المنازل«!
-
رسالة عاجلة للدكتور حاتم الجبلي وزير الصحة .. هل وصل التمييز
...
المزيد.....
-
واشنطن -تشعر بقلق عميق- من تشغيل إيران أجهزة طرد مركزي
-
انهيار أرضي يودي بحياة 9 أشخاص في الكونغو بينهم 7 أطفال
-
العاصفة -بيرت- تتسبب في انقطاع الكهرباء وتعطل السفر في الممل
...
-
300 مليار دولار سنويًا: هل تُنقذ خطة كوب29 العالم من أزمة ال
...
-
زاخاروفا ترد على تصريحات بودولياك حول صاروخ -أوريشنيك-
-
خلافات داخل فريق ترامب الانتقالي تصل إلى الشتائم والاعتداء ا
...
-
الخارجية الإماراتية: نتابع عن كثب قضية اختفاء المواطن المولد
...
-
ظهور بحيرة حمم بركانية إثر ثوران بركان جريندافيك في إيسلندا
...
-
وزارة الصحة اللبنانية تكشف حصيلة القتلى والجرحى منذ بدء -ا
...
-
-فايننشال تايمز-: خطط ترامب للتقارب مع روسيا تهدد بريطانيا و
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|