وليد مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 3143 - 2010 / 10 / 3 - 11:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كانت القدرة العسكرية , وحتى عهد ٍ قريب , هي القاعدة التي تصب ُ فيها تطورات المعارف والعلوم والتي تؤدي بدورها إلى تقدم التقنيات الحربية حتى بعد منتصف القرن الماضي في خضم الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي الاشتراكي والغربي الراسمالي , فيما العلم اليوم يؤتي ثماره في ميادين اكثر خصوبة في حياتنا العامة , مثل الصحة والبيئة والاقتصاد , ولعل الاقتصاد هو اكثر هذه المجالات التي نافست القوة العسكرية وازاحتها بان تكون المقياس الاساس في منعة وقدرة الدول في أن تكون " دولة متقدمة " , إلا إن الاقتصاد بات أول علامات التقدم مطلع القرن الحادي والعشرين خصوصا بعد الازمة المالية العالمية التي كشفت جوهرية وحيوية الاقتصاد في بقاء الامم في الصدارة او تاخرها , أو بسطها للنفوذ على سائر الامم ..
إذ لوحظ بأن عالم " ما بعد الازمة المالية " اصبح عالماً متعدد الاقطاب بعد أن كان عالم الولايات المتحدة فقط ... !
فقد دفعت الازمة إلى تغيير جذري وجوهري في وعي المواطن الغربي بصورة عامة والامريكي بصورة خاصة أدى إلى وصول ذي الاصول الافريقية المسلمة إلى راس البيت الابيض بصورة مفاجئة خلاف التكهنات .. " باراك حسين اوبامـــا " ..
الازمة المالية وحدها هي التي دفعت الاخير إلى تبني سياسة " سحب " القوات من العراق والتمهيد لسحبها من افغانستان ، ما يعني تداعي صورة الشرطي الكوني العملاق المسمى بالولايات المتحدة الامريكية .. هذه التي فقدت نفوذها الدولي بسبب تراجع قدرتها على التسويق بمقابل زيادة معدل الاستهلاك قياسا بدول آسيا عموما والصين على وجه التحديد ..
الحضارة الاستهلاكية تودع التاريخ
فالعلم والتقنية اليوم باتت مسخرة بشكل كامل لغرض التنمية و الاتساع الاقليمي عبر الشركات العابرة للقارات , في عالم ٍ يشهد صعود آسيا واممها كاخطبوط اقتصادي " منتج " عبر تسخير التقنية والعلوم في تحسين الانتاج وتقليل كلفته , آسيا لم ترسل الجيوش عبر قواعد عسكرية وحاملات طائرات تجوب المحيطات والبحار و تنتشر عبر العالم كما تفعل الولايات المتحدة وحلف الناتو الذي تقوده ، لكنها غزت الاسواق العالمية .. بلا رحمة !
فرغم الحروب المتعددة التي تقودها الحضارة الغربية في مناطق متفرقة من العالم في افغانستان وباكستان والعراق و " فلسطين " واليمن و الصومال و شمال افريقيا لمحاربة " الارهاب " الإسلامي كما تصفه في الوقت الذي تحاول فيه بسط نفوذها بشكل مطلق على مناطق الطاقة في خريطة العالم , لكنها لم تستطع استعادة مكانتها الرائدة في الانتاج العالمي , فالتقنيات وما تنتجه من منتجات قادمة من الشرق انسب للاستهلاك وسريعة التطور والتجدد مع إن ابوة العلوم وتقنياتها المعاصرة لا تزال " غربية " , إلا إن الآسيويين باتوا اليوم اكثر قدرة على الاستفادة من العلوم في تنمية الاقتصاد عبر الإنتاج واطئ الكلفة الغازي للاسواق ..
هذا كله يجعلنا نمعن النظر في التاريخ مجددا ً , فالتاريخ بدأ بالزراعة ... وامتد بالجيوش والقوات المسلحة , أما اليوم فيكمل ُ طريقه بالصناعة والتطور التقني , وصدارة الامم في التاريخ المعاصر مرهونة بــ " الإنتاج " و " إمكانية التسويق " لهذا الإنتاج حتى لو امتلكت العلوم والنظم الإدراية القوية والقدرة الإنتاجية الضخمة كما في اوربا والولايات المتحدة , يبقى هاجس التسويق هو المعيار الاول في نفوذ الامم , فالإنتاج غير القابل للتسويق يعني التباطؤ في الاقتصاد ومن ثم تراجعه حتى الركود وقد يجر ذلك إلى " الانهيار ", وبصورة عامة فإن اهم النتائج المترتبة على التباطؤ الاقتصادي والركود هو قلة الإنفاق والإستهلاك , ما يعني تراجع الأستهلاك ، هذا الإستهلاك الذي تفخر به اوربا والولايات المتحدة خصوصا على كل امم البشرية بان مواطنها الفرد يستهلك من الإنتاج العالمي خمسين ضعف ما يستهلكه الفرد في آسيا ، ويصنفون انفسهم بسبب ذلك بانهم " العالم الاول " فيما البقية عالم ٌ ثان ٍ والاكثرية البشرية عالم ٌ ثالث ... !
الصين .. واليابان ونمور آسيا يغيرون معادلات التاريخ , فليس بالاستهلاك وحده تكون رفعت الامم وتقدمها , لم تعد حضارتنا الإنسانية الكوكبية الكبرى حضارة الاستهلاك وفق المسطرة الغربية " الليبرالية – الراسمالية " , بل باتت تجد ُ خطاها نحو عصر ٍ حضاري جديد :
حضارة التسويق .. !
فالحمى الدولية السائدة في البنوك المركزية العالمية هي حمى " تخفيض قيمة العملة الوطنية " , كما تفعل الصين دوما وما تسعى إليه اليوم اليابان حتى أن خبراء الاقتصاد حول العالم باتوا قلقين من اتساع مثل هذه الموجة على نطاق واسع بين الدول الكبرى الصناعية بهدف جعل المنتجات الوطنية رخيصة قابلة للتسويق بما ينذر بحرب ٍ " نقدية " كبرى تلف العالم تؤدي إلى ازمات ..!
هل دخلنا في عصر ٍ جديد ٍ فعلا ً ؟
نعم , بلا شك بدأنا الدخول في عصر ٍ جديد , رغم إن غالبية المثقفين و النخب السياسية العربية غير مقتنعة بذلك , والاصح إنها لا تود الاقتناع بهذه الحقيقة التي يعتبرها الغرب مجرد " حفرة " وقعت فيها الحضارة الغربية وبالإمكان الخروج منها .. !
النخب العربية والحكومات التي تمثلها , وبسبب تبعيتها للمنظومة الغربية الممثلة بحلف الناتو والولايات المتحدة , تعتبر ما يجري من تقلبات في الاسواق وصراعات نقدية على صعيد الاقتصاد , وصراعات نفوذ في المجالات السياسية ما هي إلا " موجة " عابرة سرعان ما تذوي وتمر مثل اي ازمات مر بها الاقتصاد العالمي من قبل .. كما يظن هذا جنرالات الحرب الراسماليون في اوربا والولايات المتحدة !
هذه النخب والحكومات لا تملك في واقع الحال صميم قرارها السياسي وبالتالي , فمن الطبيعي ان لا تمتلك الرؤية الموضوعية لما يجري من تطورات على الساحة الدولية .. فما يجري في العالم من ازمات ليست مجرد " حفر " طارئة يمكن تجاوزها بسهوله , هي بدايات اولية فقط لتصدعات كبرى في هيكل الاقتصاد الكوني ستعيد بناءه من جديد بشكل ٍ يغيب عن أذهاننا بسبب التضليل الإعلامي الذي تديره الماكينة الراسمالية حول العالم كله .. !
فليس بمستغرب ٍ أن نشاهد قنوات هذه النخب الفضائية تتصرف وكانها " البي بي سي " أو " السي إن إن " لسان حال الراسمالية العالمية واليافطات التعبيرية الكبرى عن العنجهية الإنكلوسكسونية في تحليلها لمعطيات ما يجري ورصدها لآراء الخبراء حول المستقبل , فهي الاخرى لا تريد تقبل فكرة ان العالم تغير والتاريخ يتقدم ولن يعود للوراء ابداً .. !
هذا المستقبل الذي لا يمكننا اعتباره قاتما في نفس الوقت الذي لا يجب ان نتفائل به , فغموضه و وقوع حوادثه فجأة كما حصل مع الازمة المالية العالمية يؤدي بالإنسانية إلى واقع مجهول العواقب ..!
على نخبنا العربية والإسلامية وحكوماتها أن تكون صريحة مع نفسها ومع الشعوب التي تحكمها ولتبدأ التحضير لدخول عالم ٍ جديد تدريجياً حتى تصل بشعوبها إلى بر الامان وباقل قدر ٍ من الخسائر الاقتصادية و " السياسية " لا أن تبقى لاهثة وراء اميركا الخاسرة المتعثرة فتقوم بشراء خردوات اسلحتها بالمليارات .. أو تضيق الخناق على الشعب الفلسطيني كأنها إسرائيل !
على هذه الحكومات ان تستفيق من رقدة الافيون الاميركي هذه وتنتبه إلى شكل العالم الجديد وان تسعى إلى ان تكون نداً حقيقيا ً لإسرائيل وإيران لا ان تبقى تزمر وتطبل ليل نهار في فضائياتها متباكية من تغول المارد الشيعي في المنطقة , عليها ان تصل بقدراتها وإمكانياتها ما يوازي إيران بدلاً من ان تبقى تلعنها جهارا نهارا ...
وعلى النخب الحاكمة والمتنفذة في دول الخليج تحديداً أن تعي الدرس الذي وعته شعوب اوربا والولايات المتحدة نفسها :
عصر الحضارة الاستهلاكية ولى إلى غير رجعة ...
بدانا في عصر الحضارة الإنتاجية , والحرب النقدية ... عصر التنين الآسيوي الذي استفاق من رقدة التأريخ !
ربما يكيد الانكلوسكسون لهذه المشكلة كيدا ً , ولا حل عندهم إلا تقليص البشر إلى مليار فقط كي تسهل السيطرة عليهم بعد حروب طاحنة , لكن , ليس هؤلاء الإنكلوسكسون إلا بشراً وسيقعون في شر اعمالهم قريبا , هم ليسوا آلهة التاريخ كما يصورون انفسهم وكما يتصورهم الوعي السياسي الساذج لدى النخب العربية التي تسبح بحول اميركا وقوتها ...
آلهة التاريخ الحقيقية هي الإرادة الإنسانية وثورتها الوئيدة العتيدة في آسيا , وكما لا يخفى على اي متدبر في ناموس الطبيعة :
سنة الطبيعة هي التجدد والتطور والتغيير ..
ولن يبقى الانكلوسكسون على راس هذا الهرم للابد ..
من يدري , ربما تكون قد ازفت الازفــة على هؤلاء وانهم ومن اتبعهم " آتيهم عذاب غير مردود " ...
#وليد_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟