|
بلجيكا في مواجهة الانقسام
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3133 - 2010 / 9 / 23 - 18:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الكثير من فقهاء القانون الدولي المعاصر نظروا إلى التجربة الفيدرالية البلجيكية بنوع من الاعجاب وبخاصة في التسعينات، لاسيما للدول ذات التكوينات القومية أو الدينية أو اللغوية المتعددة، وكانت الفيدرالية البلجيكية، بما فيها فيدرالية بروكسل ذاتها محط دراسة وتجاذب ووجهات نظر مختلفة .
لكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 13 يونيو/ حزيران الماضي حملت معها بوادر انفصال، بحيث يتم فيه عبور حدود الفيدرالية إلى مطالبات بالكونفيدرالية، وقد يصل لاحقاً إلى الانقسام، لدرجة أن أحد قادة حزب المسيحيين الديمقراطيين وهو رئيس وزراء سابق وصف الاحتمالات الوشيكة الوقوع أو المحتملة أو حتى المؤجلة بقوله: إن ما يحدث هو عبارة عن “زلزال مرعب”، إنه خلخلة حقيقية، خصوصاً وهو يتحدث من منطقة الفلانور (الشمال البلجيكي) .
الانتخابات دفعت إلى الواجهة التحالف الفلامنكي الجديد ذا التوجّه اليميني، الذي يعادي التوجهات الاشتراكية لعدد من المسؤولين البلجيك، بل ويتهمهم بما وصلت اليه البلاد من أزمات وفساد وتدهور في الوضع الاقتصادي، خصوصاً في ظل الأزمة العالمية والاقتصادية والمالية الكونية، التي ابتدأت في أواخر العام 2008 وما تزال تداعياتها قائمة إلى الآن ومستمرة .
الجماعة الفلامنكية تدعو اليوم إلى قيام كونفيدرالية بدلاً من الفيدرالية القائمة، وذلك تمهيداً للانفصال التام عن الجنوب في مرحلة لاحقة، وهو الأمر الذي سيصبح واقعاً، حتى إذا كان محذوراً أو محظوراً في السابق، وقد اتّخذت محكمة العدل الدولية مؤخراً قراراً في 24 يوليو/ تموز 2010 بشأن كوسوفو، اعتبرت فيه قرار الانفصال لا يتعارض مع القانون الدولي، في إطار فتوى استشارية، الأمر الذي سيشجع جماعات قومية ودينية، إذا توفرت لها فرصة “تاريخية” للانفصال، فإنها ستتخذ قرارها المصيري تعبيراً وانسجاماً مع قرار حق تقرير المصير، خصوصاً إذا كانت الفرصة سانحة والظروف مواتية والأسباب وجيهة، ولعل القرار حول كوسوفو سيكون سابقة مهمة على هذا الصعيد، الأمر الذي بحاجة إلى دراسة وتفكّر، خصوصاً بشأن العلاقات بين المكوّنات المختلفة في الدول ذات التنوّع الثقافي بما يلبّي الحقوق ويستجيب لإغراء الوحدة، وإلا فإن الانفصال سيكون تحصيل حاصل، لاسيما إذا أصبح العيش المشترك مستحيلاً . إن جذور الأزمة البلجيكية تعود إلى بضع سنوات مضت، لكنها تعمّقت مع صعود التحالف الفلامنكي الجديد وتمكّنه من فرض سيطرته على الفلاندر، لاسيما في الانتخابات الأخيرة، حيث يعيش الفلامنك في الشمال في حين يعيش الفرانكفونيون في الجنوب، وفي الوقت الذي يرغب الفرانكفونيون في الشمال التواصل مع سكان الجنوب، فإنهم يرغبون في الوقت نفسه حماية لغتهم وتراثهم وتاريخهم الخاص، الذي يتعرّض إلى ضغوط الفلامنك وخاصة الساكنين في ضواحي بروكسل العاصمة، والمدعومين من الفلاندر .
ويأخذ هؤلاء مسايرة الفرانكفونيين من جانب الحكومة الفيدرالية وبخاصة في الحقوق الاقتصادية، حيث يتم تحويل أكثر من 10 مليارات يورو من الخزينة العامة سنوياً لتنمية الجنوب، ومع ذلك فالبطالة ما تزال متفشية فيه، حيث تتجاوز 2_% وترتفع أحياناً إلى أكثر من ذلك، وقد تصل إلى ضعف هذا الرقم في المستقبل .
أما في الشمال فإن البطالة أقل بكثير حيث تبلغ نحو 5%، ولعل هذه القضايا عمّقت الخلاف بين الشمال والجنوب، وهذا يذكّر بالخلاف الذي اندلع بين التشيك والسلوفاك (الشمال والجنوب إلى حد ما) والذي قاد إلى الانقسام في 1/1/1993 وقد أطلق عليه اسم “الانفصال المخملي”، لاسيما وقد حدث سلمياً وبعد مفاوضات ولقاءات واستفتاءات لحساب ما لكل طرف على الطرف الآخر .
إن الخلاف الحاصل أغرق بلجيكا في أزمة سياسية طاحنة، وهي ما تزال منذ أشهر تسبح في لجّتها دون التوصّل إلى اتفاق أو الخروج منها في ظل مناخ سياسي متوتر وأجواء ملبّدة بالغيوم وفي ظل حكومة انتهت ولايتها (بعد تقديم استقالتها) .
وعلى الرغم من تكليف الملك ألبرت الثاني القوى الفائزة في الانتخابات (الحزب الاشتراكي وزعيم اليودي روبو) تشكيل حكومة فيدرالية جديدة، فإن هذا الأخير فشل طيلة الفترة الماضية في التوصل إلى اتفاق مع الكتل السبع في الشمال والجنوب، وكأن تجربة عراقية لأوضاع معوّمة ما تزال ماثلة حتى الآن، لكن خلاف التجربة البلجيكية عن التجربة العراقية هو أن الملك سارع لتكليف اثنين من الوسطاء للقيام بالمهمة ولإجراء اتصالات: الأول رئيس مجلس النواب (الاشتراكي) والثاني رئيس مجلس الشيوخ (عضو الحزب الفلامنكي الاستقلالي)، لكنها في الحالة العراقية فلا وجود لسلطة عليا يمكنها تكليف الفرق المتنازعة للاتفاق على القيام بالمهمة، كما أن من يفشل لا يفعل مثلما فعل زعيم الحزب الاشتراكي الذي فشل في مهمته فقدّم استقالته للملك، على الرغم من محاولته تقديم مشروع للاصلاح المالي والمؤسساتي وقضايا المديونية وغيرها . ولعل السبب الأساسي في هذه الأزمة الخانقة هو المواقف الداعية إلى الكونفدرالية التي قد تؤدي للوصول إلى طريق مسدود أو هكذا يُراد له، حيث ما تزال الأزمة مستمرة، وأغلب الظن ألا يستطيع الوسيطان النجاح بمهمتهما التي فشل فيها من سبقهما .
الفرانكفونيون يؤلفون نحو 4 ملايين، في حين أن الفلامنكيين يؤلفون نحو 6 ملايين، وهؤلاء هدفهم المعلن والنهائي هو الاستقلال، ولذلك فإن التعويم السياسي الحالي هو انعكاس لرؤية مختلفة ومتعاكسة بشأن وحدة بلجيكا، واستطاع الفرانكفونيون كسر المحرّم أو المحظور (التابو) الذي ظلّ خطاً أحمر لا يمكن عبوره، إلى أن أصبح الأمر الواقع واقعاً، بإقرارهم أنّه لا يمكنهم تقديم التنازلات من دون ثمن .
ولكن هل يُعلن نهاية وجود الكيان البلجيكي القائم؟ لعل هذا أمرٌ قد يتم بالطلاق البائن بين الفريقين، ولكن أغلب الظن سيكون ودياً وليس عنفياً، فقد وصلت شعوب أوروبا، لاسيما الغربية إلى مرحلة تحترم فيها حقوق ومصالح الجماعات الثقافية القومية والدينية المختلفة وتسعى حتى مع الافتراق للتوفيق بينها، وهو ما حصل في تجربة التشيك والسلوفاك، في حين كانت التجربة اليوغسلافية مأساوية ودموية بامتياز، وتركت مرارات وعذابات لا حدود لها على الجماعات المتنازعة بغض النظر عن حقوق الأطراف وتجاوز البعض عليها ومحاولة هضمها .
وإذا كان سيناريو الافتراق قائماً ومحتملاً وربما مقبولاً اليوم بالنسبة لبلجيكا، فإن تداعيات سيناريو الانفصال قد تصل بوصول الأزمة الحكومية الطويلة الأمد إلى طريق مسدود، بحيث يصبح تشكيل حكومة فيدرالية أمراً مستحيلاً، عند ذلك سينفد صبر الفريقين وبشكل خاص الفلامنكيون، ويجدون في المحظور السابق، مشروعاً في الوقت الحاضر، فيقدمون على إعلان الانفصال، وأمامهم قرار محكمة العدل الدولية بشأن كوسوفو، دافعين بالأسباب على الضفة الأخرى . هكذا قد يبدو التقسيم أمراً واقعاً ويغدو المحظور السابق مقبولاً، في نهاية المطاف، وقد نشهد بدلاً من بلجيكا الموحدة الفيدرالية دولتين في الوقت القريب .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المفارقات الكبيرة بين الرأسمالية المتوحشة والرأسمالية ذات ال
...
-
الحريات الأكاديمية
-
الغزو الأمريكي نجح عسكرياً وفشل سياسياً والفراغ الحكومي يعيد
...
-
ما يريده بايدن من العراق
-
التنمية الموعودة والشراكة المنشودة!
-
اعتقال العقل
-
الحق في التنمية
-
كوسوفو وقرار محكمة لاهاي: أية دلالة مستقبلية؟
-
جديد الفقه الدولي: كوسوفو وقرار محكمة لاهاي أية دلالات عربية
...
-
جرائم بلا عقاب
-
دلالات قمة نتنياهو أوباما نووياً
-
ثلاث سلطات تلاحق المثقف
-
الثقافة رؤية والسياسة تكتيك
-
سلطة المعرفة وتفتيش الضمائر
-
صدام الأصوليات وحيثيات التبرير!
-
هرطقات ديمقراطية صهيونية
-
نصر حامد أبو زيد ومحنة التفكير والتكفير!
-
الثقافة والابداع من أجل التنمية!
-
عن النقد والمراجعة الفكرية
-
هل لا تزال الماركسية ضرورية؟
المزيد.....
-
صور بعض قتلى فاجعة اصطدام طائرة الركاب بمروحية عسكرية في واش
...
-
شاهد كيف ردّ ترامب على سؤال صحفي بشأن رفض مصر والأردن اسقبال
...
-
سموتريتش: إذا تضمنت المرحلة الثانية من الصفقة إنهاء الحرب دو
...
-
من هو محمد الضيف الذي أعلنت حركة حماس مقتله؟
-
تحليل: عندما توجه الجزائر بوصلتها نحو أمريكا كيف يستجيب ترام
...
-
الكشف عن 3 حوادث تقارب جوي سبقت كارثة اصطدام الطائرتين في وا
...
-
إنقاذ 60 شخصا في حريق شمال غربي موسكو (فيديو)
-
للمرة الخامسة على التوالي.. موسكو تسجل رقما قياسيا لدرجة الح
...
-
رئيس الأركان الروسي يتفقد قوات -الشرق- في دونباس (فيديو)
-
مصر.. حريق ضخم يلتهم السفن في السويس
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|