|
عندما ينقطع التيار
جمال بنورة
الحوار المتمدن-العدد: 3131 - 2010 / 9 / 21 - 16:08
المحور:
الادب والفن
عندما ينقطع التيـار بقلم: جمال بنورة
كان صراخ الأولاد وصوت التلفزيون المرتفع على الآخر يصل إلى أذنيه حتى قبل أن يصل البيت … واجهته زوجته قائلةً: - هل من الضروري أن تتأخر كل يوم؟ ثم أضافت: - لا أكاد أجد الوقت للقيام بشغل البيت … قال محتجاً: - يعني … هل أقوم انا بذلك؟ - على الأقل … يمكن أن تأخذ بالك من الأولاد … - إنهم يستطيعون أن يعنوا بأنفسهم … ثم أردف:-أين سامية؟ لماذا هي لا تساعدك؟ - إنها تبكي في غرفتها … - لماذا …؟ - عليها امتحان غداً … ولا تستطيع القراءة … - والصغير لماذا يبكي؟ - لا أحد يريد أن يحمله … ريثما احضر له العشاء؟ - ورياض؟ - إنه مشغول بقراءة القصص في غرفته. عاد إلى الصالة. أخفض صوت التلفزيون وهو يخاطب أبناءه الصغار بوجه متجهم: - استعدوا على دروسكم بدلاً من تضييع وقتكم على التلفزيون. قال عصام وهو ينظر إلى صور الكرتون دون أن يلتفت إلى أبيه: - أنا درست … واكتفى نائل أن يقول: - وأنا …! وعاد لمتابعة صور التلفزيون. نادى على سامية فقدمت من غرفتها تمسح عينيها المحمرتين … - مالك؟ - لا أستطيع القراءة! لم يبق لدي وقت لمراجعة دروسي … قال عصام محتجاً: - لا تريدنا أن نشاهد الرجل الآلي … سوف يبدأ بعد قليل … قالت سامية: - أطلب منهم أن يخفضوا صوته على الأقل … ثم ذهب إلى الصغير الذي يبكي في سريره، داعبه قليلاً … قال رياض: - إنه جائع لا يريد أن يسكت … - ألا تستطيع أن تفعل شيئاً أنت الآخر؟ حمل أخاه الصغير … وأخذ يداعبه حتى سكت … ساد أخيراً جو من الهدوء في البيت … عاد إلى زوجته التي كانت مشغولة في المطبخ. قال لها: - هل سيتأخر العشاء؟ - بعض الوقت، أريد أن اعشي الصغير أولاً … قبل أن ينام … - حسناً … لا داعي للعجلة. سأقرأ الجريدة في غرفتي ريثما تنهين عملك … ****** فتح الصحيفة، وبدأ يتصفح العناوين كعادته، ثم يعود ليقرأ الأخبار التفصيلية. وقرأ العناوين التالية: "لجنة تنفيذية تضم كافة فصائل المقاومة" … "الأسد يفتتح اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني" … " المليشيات الانعزالية تمنع دخول الجيش اللبناني النظامي للجنوب …" "لجنة شعبية ثورية تتولى حكم كمبوديا" "بختيار يفشل في تخفيف حدة الانتفاضة …" ولم يكمل عبارته فقد غشي الظلام عينيه ولم يعد يرى شيئاً … وعلا صياح مفاجئ في البيت … وأصوات احتجاج واستنكار … وامتدت يده بحركة غريزية إلى جيبه. اخرج علبة الثقاب، وأشعل عوداً، وهو ينهض من سريره. اقترب من الباب وفتحه. كان الظلام يسود جميع أنحاء البيت … والأولاد يتصايحون … - انقطعت الكهرباء … لن نشاهد الآلي … - لن أستطيع القراءة … - سوف أسقط في الامتحان غداً … والزوجة تصيح غاضبة: - حتى علبة الكبريت لا أستطيع أن أجدها. وسمع صيحة: - آخ … وتكررت - آخ مع بكاء خافت. وأشعل عودا آخر بعد انطفاء الأول وأصبح لا يدري أين يتجه. - من الذي يصيح؟ - هذه أنا … تعثرت بكرسي … ووقعت … كانت سامية تسير على رجل واحدة وهي تتكئ على الحائط. - ويدها الاخرى على ركبتها المصابة … وتقول وهي تبكي: - دائماً يفعلون بنا ذلك … ماذا أفعل الآن يا ربي …؟! قاطعها والدها: - هل رجلك تؤلمك …؟ - ليس ما يهمني رجلي … إنما الامتحانات التي سأقدمها غداً … قال رياض: - إننا لا نستطيع أن نعتمد على الكهرباء … لماذا لا تجد لنا حلاً؟ - ماذا أستطيع أن افعل …؟ ثم مخاطباً سامية: - هل يمكنك أن تدرسي على ضوء الشموع … كان ما يزال يشعل عوداً جديدا كلما انطفأ العود المشتعل … نادت الأم بأعلى صوتها … - لماذا لا يأتي أحد إلى هنا … إنني لا أستطيع أن أجد شمعة واحدة. دخل الزوج إلى المطبخ وهو يسأل زوجته: - أين الشموع؟ - إنني لا أجد منها شيئاً … أشعل عودا آخر وهو يقول: - أنت دائماً هكذا … لا تفطنين للشيء … الا عند حاجته … ألم أقل لك دائماً أن تحتاطي لهذه الأمور … - ولكن الشموع نفدت منذ يومين فقط … عندما انقطعت الكهرباء أكثر من ساعتين. - ولكنك تعرفين أن التيار صار ينقطع معظم الأيام … فلماذا لا تحتاطين لذلك. وأخيراً وجدوا عقب شمعة. أشعلها. وثبتها في زجاجة فارغة. ثم أرسل رياض ليشتري لهم شمعاً. قالت زوجته ساخطة: - يقطعهم مثلما يقطعون الكهرباء عنا. ثم أردفت بعد قليل: - كل يوم والثاني يقطعونها عنا … وآخر الشهر لا يتأخرون يوما واحدا عن ميعاد دفع المصاري. قال الزوج: - المهم أن نتدبر أمرنا هذه الليلة. قالت الزوجة: - أنا عارفة!! صار الشمع مصروف ثاني علينا … آخر مرة اشترينا الشمعة الواحدة بأربع ليرات. عاد رياض بعد قليل وهو يحمل حفنة شمع. أضيء البيت بالشموع. كما أشعلت ثلاث شمعات في غرفة سامية لتستطيع القراءة. وجلس والدها بجانبها يقرأ الجريدة ليشجعها على القراءة … وأحس بألم في عينيه ودوار في رأسه … وأخذ ينظر إلى الجريدة موهماً ابنته بأنه يقرأ … وهو يختلس إليها النظر … كانت تفتح عينيها على سعتهما … ثم تغلقهما وتعيد فتحهما … لتعود نفسها على النور الضعيف. قالت أخيراً وهي تكاد تبكي: - أنا لا أرى جيداً … عيناي تؤلمانني … أحضر شمعة رابعة وأشعلها. - أيضاً لا يكفي … يا أبي … سأنام وأنهض مبكرة … - ولكن يمكن أن تقرأي على ضوء هذه الشموع … في زمننا لم يكن هناك كهرباء … وكنا نعيش … أنا قدمت مترك فلسطين ونحن ندرس على ضوء لمبة كاز … قالت في احتجاج حزين: - أنت يا أبي دائماً تقول في زمننا … - نعم … لقـد عشنا بدون تلفزيون ولا ثلاجة … ولا … وأكملت سامية، وهي تبكي وتضحك في آن واحد … - وكنت تذهب إلى القدس سيراً على الأقدام وأنت تتعلم في الرشيدية … وكنت ترتدي بنطلوناً مرقوعاً … ولم تأكلوا اللحم أكثر من مرة في الشهر … ماذا أيضاً يا أبي؟؟ قال الوالد في توكيد: - ورغم ذلك … كنا نحمد الله على نعمه … أنتم اليوم لا يرضيكم شيء … - ولكن الزمن تغير يا أبي … هل تريد أن تعيدنا إلى الوراء … ما كنت ترضاه في ذلك الوقت … لا ترضاه اليوم …ولو عشنا في زمنكم … لتحملنا ما كنتم تتحملون. - أنت لا يمكن إقناعك … دائماً عنيدة …! قالت في يأس: - سأنام الآن يا أبي … اطلب من أمي أن توقظني قبل الساعة الرابعة … ستكون الكهرباء قد جاءت حتى ذلك الوقت … قال وهو ينهض: - أنت حرة … "ثم مستدركاً" ولكنك لم تتعشي …! - لا أشعر بجوع …! - انتظري لأرى إذا كانت أمك قد أعدت العشاء. في طريقه إلى المطبخ … كان عصام الذي لم يجاوز السادسة، يحمل شمعة مضاءة ويدور بها في البيت… - ما الذي تفعله؟ - أحب أن أحمل شمعة … أخذها منه وهو ينهره: - لا تتجول بها في البيت … ربما تحرق بها شيئاً … أخذ الولد يبكي … ويطلب من أبيه أن يدعه يحملها، فأعادها إليه … محذراً: - إذا أردت أن تحملها ابق في مكانك … وإلا سوف آخذها منك … كانت الزوجة ما تزال تقف أمام موقد الغاز تعد العشاء. - ألم تنته بعد؟ - ليس بعد … ذهبت إلى الصغير فوجدته نائماً بدون عشاء. - وسامية لا تريد أن تتعشى أيضاً … تريد أن توقظيها مبكرة لتكمل دراستها. - لمن اعمل العشاء إذن … أنا ليس لي نفس أيضا … جاء رياض على صوت والديه … قال محتجاً: - إننا لا نستطيع ان نحتمل هذا الوضع أكثر من ذلك … لماذا لا تفعل شيئاً؟ الأب: ماذا نستطيع أن نفعل؟ ثم مستدركاً بعد لحظة: - لا تنس أن الشركة تواجه بعض المصاعب … وعلينا أن نقف معها. - وهل هذا يبرر انقطاع التيار عنا يوماً بعد آخر …؟ قال الأب مهدئاً: - علينا أن نتحمل بعض الشيء … - ولكننا نتحمل كل شيء … من المؤكد انهم لا يقطعونها عن بيوتهم مثلما يفعلون معنا … بل أنهم لا يدفعون ثمن التيار الذي يصرفونه … لماذا لا يجدون حلاً لهذه المصاعب … على غير حسابنا؟؟ - لا بد انهم يحاولون …! - أنت تعلم أن هذه المصاعب مزمنة … طول عمرنا نسمع عنها … قال الأب ملاطفاً: - هناك قضية عروبة الشركة … - ولكن ماذا فعلوا من اجل ذلك …؟ انهم يشترون 60% من التيار من الشركة القطرية ويبيعونه لنا … - إنهم يتحملون المسئولية … هل حاولت أن تضع نفسك في مكانهم … قال الابن غاضباً: - هل حاولت أن تكون واقعياً يا أبي …؟ أنت تعرف أكثر من ذلك … انظر ماذا يفعلون بنا …! - قلت لك أن الشركة تواجه صعوبات وعلينا أن نقف معها … أن نحس معهم. - ولماذا لا يحسون معنا … مثلما نحس معهم؟! قال الأب متضايقـاً: - إن مناقشتك متعبة … علينا أن نتدبر أمرنا على أية حال. قال الابن في إصرار: - بل علينا أن نتدبر أمر الشتاء كله … علبنا أن نفكر بماذا سنستعيض عن الأجهزة الكهربائية التي لدينا … أمامنا شتاء طويل … والتيار - حتى عندما يأتي - يكون ضعيفاً … حتى التلفزيون لا يشتغل في معظم الليالي … ومدفأة الكهرباء لا فائدة منها … وموتور الثلاجة احترق … - وماذا نفعل …؟ هل نرفع شكوى؟ أم نمتنع عن دفع ثمن التيار. وما أتم ذلك … حتى سطع نور باهر في جميع الغرف وساد جو من الفرح في البيت … وأخذ الصغار ينغمون: - أجت الكهرباء … وصاح أحدهم: - افتح التلفزيون بسرعة … ونادى آخر على سامية إذا لم تكن قد نامت بعد … وصاحت الأم وقد انفرجت أساريرها: - الحمد لله … وقال الأب: - أطفئ الشموع … اعترض رياض: - لا تطفئوا الشموع … انتظروا قليلاً …! وانطفأت الكهرباء ثانية … وصدرت صيحة استنكار من الجميع. ثم أضاءت ثانيةً … وأُطفئت وأضاءت عدة مرات … ثم أضاءت أخيراً … وأُطفئت الشموع ونهضت سامية … وأعدت الزوجة العشاء … وتحلقوا جميعاً مائدة العشاء في سعادة ظاهرة. قال الأب: - ألم اقل لكم …؟ ألا يمكن أن تكونوا أكثر صبراً …؟ قالت الأم متحسرة: - ولكن الصغير لم ينتظر. نام دون عشاء … وقال رياض: - الآن تستطيع سامية أن تستعد على امتحانها. الأم كأنما تعزي نفسها: - وسوف نشاهد التمثيلية. الأب: - والآن نستطيع أن نستمتع بالعشاء … ونقضي سهرة ممتعة. ومد يده ليتناول أول لقمة … ولكن يده لم تهتد إلى الصحن … فقد انقطع التيار من جديـد …!!
#جمال_بنورة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطبيب المناوب
-
برج المراقبة
-
زواج مؤجل
-
الزيارة
-
الاجتياح
-
في المستشفى
-
موعد مع الموت
-
الموت خلف الأبواب - قصة قصيرة
-
لقمة العيش - قصة قصيرة
-
القبر - قصة قصيرة
-
موت الفقراء - قصة قصيرة
-
الدرس الأخير - قصة قصيرة
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|