عبير علي
الحوار المتمدن-العدد: 3118 - 2010 / 9 / 7 - 22:13
المحور:
الادب والفن
الطبيعة في ذاتها شأنها شأن أي موضوع إخر ليست جميلة ولا قبيحة في ذاتها ولكنها تتحول بالتعبير الفني إلى شئ جميل يتذوقه الإنسان في لوحة أو في لحن موسيقي أو في قصيدة من الشعر. فهناك دور وجداني تثيره الفنون في نفوس الناس، إذ إنها تذكي المشاعر الجمالية المتنوعة والدقيقة في قلوبهم, وتغدو وسيلة فعالة لإثراء حياتهم, وتغني زادهم الثقافي وتساعدهم على اكتساب الشيم الفكرية والروحية السامية التي يجدر بالإنسان أن يتحلى بها من كل النواحي, كما إنها تغير أفكارهم عبر أدوات الفن وتعبيرات المشاعر المتنوعة, فالقصيدة واللوحة واللحن ..... كل هذه الأدوات وغيرها أصبحت في عالم اليوم من أهم المؤثرات على عقول وقلوب الناس أجمعين. وهذا يطرح علينا العديد من الأسئلة وهي: هل الفن فعل إرادي أو هو حاجة نفسية طبيعية؟ وهل يعكس الفن الطبيعة؟ وهل هناك فائدة من تربية الإنسان وجدانيا وجماليا وخاصة في مجتمعاتنا العربية؟
كانت كلمة art تعني عند قدماء اليونان " إنتاج" سواء كان إنتاجا صناعيا غايته تحقيق فائدة أو منفعة معينة كفنون الحدادة والنجارة والسحر مثلا, أو كانت تحقق متعة جمالية مثل فنون الشعر والغناء والرقص. غير أن آرسطو قد توصل الى تفرقة بين الفنون الصناعية والفنون الجميلة: وذلك حين خص الفنون الجميلة بإسم المحاكاة: أي الفنون الجميلة في مقابل مايعرف اليوم بالفنون التطبيقية. ولم يبدأ النظر الى النحت والتصوير والعمارة على إنها من نوعية فنون الشعر والموسيقى التي تهدف جميعا الى تحقيق البهجة الجمالية إلا في القرن الثامن عشر في فرنسا. وذلك عندما وضع علماء الموسوعة الفرنسية"الإنسيكلوبيديا" تعريف للفنون يشمل ماكان منها تعبيريا كالشعر والموسيقى أو تشكيليا كالعمارة والنحت والتصوير. وجدير بالذكر أن البشر منذ فجر التاريخ وهم يقرنون الوظيفة بالفن ولكن وهذا المهم برغبتهم الخالصة, ودونما تأثير أو أمر من أحد, والتفسير المنطقي لهذا هو أن الإنسان ذواق بطبعه على أن يترك على فطرته التي فطره الله عليها والتدخل هو الذي سيفسد هذا السياق الهرموني الرائع في الإبداع. والحقيقة أنّ "الإبداع" ذا شقى هو ابتكاري وحرفي, والقدرة على الإبداع, ولو أهملنا الجانب الإبتكاري أصبح حرفي وليس إبداع..!! ولكن كيف؟؟؟ يمتاز الفنان بخاصية القدرة على الإنتقاء من بين الموجودات المحيطة به أو التي يتخيلها نوعيات معينة ذات صفات متباينة , ويقوم بنقلها الى المتلقي في صيغة أخرى, وبالتالي النتاجات الفنية بهذا المعنى الإنتقائي ليست تلك النتاجات النمطية أو التي سبق تحديد مواصفاتها أو خصائصها من قبل, فمن يقوم بصب الطمي أو البلاستيك في قالب معين ويقدم نتيجة ذلك الصب تماثيل غاية في الجمال لايعتبر فنانا..!! ولا تعد نتاجاته من الفن في شئ. ذلك لأنه يكون محروما من خاصية الإنتقاء التي لولاها مااعتبر الشخص فنانا, ولما اعتبرت نتاجاته فنا. وكذلك الحال بالنسبة لمن يحمل آلة تصوير يلتقط بها بعض المناظر الطبيعية, أوصورا لبعض الأشخاص, إن ما يلتقطه من صور- مهما بلغ من الدقة والروعة- لايعتبر فنا, ولايعتبر من يشهد هذه المهنة فنانا إلا إذا اضفى على عمله جانبا انتقائيا يشهد به الناس, ولا يكون عمله مجرد إلتقاط الصور للمناظر والأشياء والأشخاص. وكذلك يقال على الموسيقار الذي ينفذ نوته موسيقية موضوعه أمامه فيقرأ ماتتضمنه ثم يقوم بعزفه, إنه لايعتبر فنانا إلا إذا امتاز بشئ انتقائي يختص به, فالفنان يتلقى المؤثرات الجمالية من حوله ثم يعمد الى تخزينها في نفسه ويقيم بينها علاقات جديدة لم تكن موجودة في الواقع البيئي التي استمدت منه. فالفنان هنا اشبه مايكون بالشغالة في خلية نحل العسل التي تقوم بجمع الرحيق من هنا وهناك لكي تحيله إلى مركب جديد وهو عسل النحل. إذن فالفنان هو متلق أولا وقبل كل شئ, وتلقيه ليس مجرد إستيعاب لما يتلقاه, بل هو يتلقى لكي يصنع مايتلقاه من جديد ويحيله الى مقومات فنية جديدة يقدمها بعذ ذلك في صياغات متباينة.
والفن يختلف عن الطبيعة, وهدف الفن ليس تصوير الواقع أو منافسة الطبيعة. وإلا فقد الفن هدفه وهو إحداث المتعة...بل هناك في الواقع أشياء لايستسيغها الإنسان فيحاول بواسطة الفن أن يجعلها مستساغة بأن يعطينا عنها صورة أكثر إنطباقا على قانون رغباتنا الطبيعية, وهكذا يصبح هدف الفن خلق عالم يشبع بشكل خيالي رغباتنا الطبيعية. ومن هنا نستطيع أن نعرف طبيعة المتعة التي يسببها لنا الفن , فالفنون الجميلة هي مظهر الطبيعة وينبغي أن ننتبه ونحن ننظر الى الأثار الفنية الى أنها من نتاج الإنسان وليس من نتاج الطبيعة, فالعمل الفني لايقلد في الحقيقة الأشياء, بل يقلد فقط علاقاتها, هذه العلاقات ليست في الواقع سوى من عمل الروح, وهي تعبير رمزي عن نشاطاته. واذا كان العمل الفني أمينا لهذا المبدا كان جميلا. وويقول المفكر الفرنسي اندريه مالرو في كتابه عن الفن (أصوات الصمت) "لايشغف الفنان بغناء الطيور قدر شغفه بالموسيقى, ولايعجب الشاعر بغروب الشمس قدر اعجابه بقصائد الشعراء عن هذا الغروب" أي لايكون الفنان فنانا لإعجابه بمناظر الطبيعة, بل بزيارته للمتاحف والمعارض الفنية وإطلاعه على أساليب السابقين عليه. حتى يكتمل أسلوبه وطريقته في التعبير. والفنان المبدع لايحاكي ولاينقل, ولكنه يملك القدرة على إضافة الجديد. فالمحاكاة الحرفية للطبيعة لاتخلق فنا ذلك, لأن الفن عالم قائم بذاته له قوانينه الخاصة, إنه عالم بديل لعالم الواقع ينشئه الفنان المبدع بعد أن يكتسب القدرة والوسيلة التي تعينه على إبداع هذا العالم , ولو كان الفنان مجرد ناقل لكان الواقع أفضل, لأن الأصل دائما افضل من الصورة. وعندما صور الإنسان البدائي الحيوانات على جدران الكهوف لم تكن عنايته بالمحاكاة الحرفية لمشاهد الصيد بدافع الإحساس بالجمال فقط, ولكن بدافع عملي مصدره إيمان هذا الإنسان بطقوس السحر التي كانت تفرض عليه إمتلاك مطابقة للحيوان الذي يطارده.
والفن هو مهنة البحث عن الجمال، حتى لو كان هذا الجمال متواريا ومختبئا بين أشياء وعناصر اعتدنا على رؤيتها، ولا نرى فيها أى نوع من الجاذبية, و الأعمال الفنية هي ماتدفعنا الى تذوق الجمال الطبيعي والى الإحساس بالحياة الإنسانية. بل إن كثيرا من الإنفعالات التي تجري بباطن نفوسنا قد لانلتفت اليها لولا أن فجرتها فينا الأعمال الفنية. بل يمكن أن نقول إنه لو لم يتغن شعراؤنا بالحب أو بالوطنية مانتبهنا لحقيقة مشاعرنا بهذه الإنفاعالات, ولربما تجري في باطن شعورنا انفعالات أخرى لانعي طبيعتها, ولانعرف حقيقتها, ولكن حين يجسدها الفن عندئذ فقط نتعرف على طبيعة انفسنا. فالفن يخلق موجودات أشد جمالا وتاثيرا في النفوس من العالم الواقعي, ويرينا الفن الأشياء والحياة والإنسان أوضح وأشد تأثيرا مما نراها في الواقع المحيط بنا
وهنا تبدو الحاجة إلى الفن، وتحديدا إلى التربية الجمالية لما قد تسمح به من تفتح لشخصية الفرد ومن تطوير لملكاته الإبداعية ومن استقلال لشخصيته. حيث تشمل التربية التشكيلية والموسيقية والسينمائية والمسرحية..... وكلها روافد تلتقي عند بؤرة عامة وهي تفتح "الشخصية". فعن طريق التربية الجمالية يتمكن المتعلم من تعميق فهمه للشرط الإنساني المتعدد الأبعاد ويغني مداركه، خصوصاً وأن الفن هو انفتاح على العالم في تنوعه وعلى المجتمع في مختلف تجلياته الرمزية.
وهنا يطرح سؤال: ما الفائدة من التربية الجمالية ومن الفن، داخل مجتمعاتنا التي قد تكون أحوج إلى وسائل العيش الضرورية، منها إلى المتعة الفنية؟ عندما سأل احد القراء العقاد تعليقا عن مقال نشره في مجلة الرسالة عام 1937 يتحدث فيه عن الفنون الجميله وأهميتها. حيث قال له :
تعودنا أن نسمع أن الفنون الجميلة من الكماليات التي ياتي دورها بعد العلم والصناعة في الأهمية.....وفي مقالكم ذكرتم : "علينا أن نبدا بالفنون الجميلة والرياضة لنتعلم الإرادة والعمل" فهل لكم ان تنيروا الطريق لنا بالتوفيق بين القولين.؟ وبعقد مقارنة بين الثقافة ولقمة العيش, حيث أن العقاد يعبر عن الثقافة بملكات الحس كالنظر والسمع والكلام, موضحا أننا نستطيع أن نعيش دون هذه الملكات. لكننا لانستطيع أن نعيش بغير الخبز. ومع ذلك فهو يقرر" لم يقل أحد من أجل ذلك أن الخبز أغلى من البصر, وأن ملكات الحس لاتستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب" فبتقويم السوق الخبز أرخص من الكتاب والتمثال أغلى من الكساء..الخ , وأن قيمة الشئ لاتتعلق بمقدار الحاجة إليه والإستغناء عنه- بل يرى العقاد- بمقدار مانكون عليه إذا حصلنا, بمعنى- يوضح العقاد- أننا " اذا حصلنا على الخبز فأقصى مانبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد وصيانة الوظائف الحيوية, ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب, ولا بأفراد وأناس وحسب, بل نحن أناس ممتازون نعيش في أمة ممتازة, تحس ماحولها وتحسن التعبير عن إحساسها. أي أن الطعام والشراب يكفينا كحيوانات, لكن الفن يجعلنا بشر. فليس المهم هو أن نعيش, ولكن الأهم هو كيف نعيش؟
فالإنسان ليس كائنا بيولوجيا يأكل ويشرب ويتناسل ويبحث عن مأوى يحتمي فيه فقط, وإنما هو كائن سيكولوجي يتأمل وينفعل ويحلم ويشعر ويحب ويكره ويتعاطف وتهتز مشاعره غضبا وسرورا. عندما يحيا الإنسان في بيئة حضرية مضطربة خالية من النظام والإنسجام والتوافق تمتلئ نفسه بالكآبة. وعندما يتحول مسكنه الى مجرد مأوى يصبح ذئبا وليس إنسانا. عندما تخلو بيئته العمرانية من فراغ مناسب حينئذ يهبط في سلم الإنسانية وتفيض نفسه بالقلق والتوتر وأحيانا الهلع"
وبقى لنا أن نذكر أن الغرب لم يتفوق على الشرق بالعلم أو بالتكنولوجيا, كصناعة الطائرات والسيارات والسفن وغيرها....فان الشرق يستطيع أن يصنع الطائرة اذا رآها وبمهارة وبراعة تفوق مايصنعه الغرب ...ولكن يفوقنا الغربيون بعلم الملاحظة والإبتكار والإختراع, بالعلم الذي يحتاج الى عين لاتفوتها الرؤية وبديهة لاتفوتها الإدراك وخيال لايفوته تركيب الصغائر وضم الأجزاء الى الأجزاء حتى يتألف منها المصنوع الجديد. وما هذا الذي يفوقنا به غير ملكة الحس والتخيل التي يترجمها المصور تمثالا والموسيقي لحنا والشاعر قصيدا والمخترع صناعة حديثة, ماهو غير ان نحس ماحولنا ونقارن بين أحساس وإحساس حتى نستخرج منها جميعا صورة كاملة في عالم العلم أو عالم الفن أو عالم التجارة؟
* باحثة وكاتبة
#عبير_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟