|
موقعة الطف.. الأيديولوجيا والخطاب
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3118 - 2010 / 9 / 7 - 00:34
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
لم يسبق لأمة إن ذبحت نفسها وقتلت وشرّدت وأهانت واستهانت بأبنائها، كما فعل العرب قديماً وحديثاً. بل أنه لا ينبغي لأمة أن تفعل ذلك ، وما العرب بأمة!. الأمة والقومية تجمعها رابطة الدم والشعور والمصير والمصلحة المشتركة، وما العرب من ذلك في شيء. مصالح متناقضة ومشاعر متضاربة قلقة ودم مباح. مساكين منظرو القومية والحزبية ومروجو الفكر الديني إذ يتحدثون عن أفكار مجردة ومجتمعات مشمشية يحاولون اسقاطها على تاريخ وجغرافيا يعتقدون تغيير ألوانها بأقلامهم. واقعة الطف سؤال مفتوح على عرب قريش والحجاز الاجابة عنه وعدم تحميل تبعاته المجتمع العراقي الذي اريد له أن يكون ساحاً لتصفية الحسابات والصراعات والاحقاد منذ أيام الاسلام الأولى. وما أشبه اليوم بالبارحة. وكأن الوهابية السلفية لم تقم إلا لاجتثاث الشيعة من الاسلام، فتارة يكفرونهم وأخرى يخرجونهم من أصلهم ويرمونهم بالعجمة. وسيوفهم تتقدمهم علامة على سقوط العقل وتمجيد الجريمة.اسهمت موقعة الطف (61هـ) في ترسيخ فكرة (الشيعة) وتهيأة الظروف والأجواء اللازمة لتتحول الى تيار فكري سياسي مع مرور الزمن، مستفيدة من احتدام الصراع الثيوسياسي وانتقاله من المعارضة السلمية إلى المقاومة العنفية قبل أن تتظافر جهود فكرية ونظرية وتستقر في منظومة أيديولوجية محكمة تعتمد مناهج استراتيجية تربوية وتعبوية بعيدة المدى في الطريق إلى الفردوس (بالمنظور المسيحي) أو الحشر (القيامة). ميدانيا، ظهرت فكرة الشيعة عقب وفاة الرسول محمد، مستندة إلى رفض الفصل بين بيت النبوة والخلافة واعتماد مبدأ توريث الزعامة الدينية والسياسية (Theo-Dynastie) الذي وجدته قريش يومذاك جديداً على نظام الزعامة القبلية في شبه الجزيرة أو نظام تقاسم سقاية الكعبة وأحقية كل بيوتات قريش الأثني عشر في إدارة مكة على مدار العام. وجسّد انقسام اهل الجزيرة بين أتباع عمر وأبي بكر وبين مؤيدي حق الامام علي في الخلافة أول بذور الخلاف في الدولة الفتية، والذي اتسع ليتخذ أبعاداً وتشظيات كثيرة منذئذ، دون تمكن النظام العربي من حلّ إشكالية الزعامة وتناوب أو تداول السلطة وبالشكل الذي تعيش مصر تمخضاته اليوم، مترددة بين تعديل الدستور وفق الاصلاحات الدمقراطية أو اعتماد اسلوب الانابة على طريقة عبد الناصر و السادات أو التوريث على الطريقة السورية والملكية. وقد أسفر ذلك في نفس الوقت عن ولادة مفهوم المعارضة كمعطى سياسي تطوري لموازنة العملية السياسية بين الحكومة والمجتمع، تلك المعادلة أو المعارضة التي لم تنسجم هي الأخرى مع طبيعة الذائقة العربية والعرف الاجتماعي السائد فكان حكمها التشويه والنفي والاستئصال، كما حصل للامام علي وأهل بيته رغم قرابتهم المباشرة للرسول باني ومؤسس الدولة –الثورة تأكل أبناءها!-، وما جرى لأتباعه امثال سليمان الفارسي وأبي ذر من نفي وابعاد ونكاية. وهي عين التقاليد السياسية التي استورثها النظام العربي المعاصر أيضاً.وتكشف اشكالية الصراع على قيادة الدولة الجديدة الستار عن سبب عدم ظهور كيان موحد في شبه الجزيرة العربية قبل الاسلام، رغم وقوعها بين إمبراطوريتين عظيمتين وتعرضها لتهديدات مستمرة منهما، الفرس والرومان. فقد تطور الصراع الى بيوتات أخرى رأت نفسها أولى من غيرها في السلطة أو أنها رفضت التهميش والفرجة، مثل بيت عبد شمس الذين حصلوا على ولاية الشام لتكون منطلقاً لاعلان الدولة الأموية وترسيخ مبدأ توريث الحكم ووضع أسس ومناهج الدولة العربية منذ ذلك العهد. ان من حق العربي اليوم النظر إلى أحداث التاريخ المختلفة خارج السياقات والأطر المنقولة به، أي خارج الوصاية التاريخية القصخونية أو بمعنى آخر، باستخدام الأدوات والمعطيات العقلية والحضارية الحديثة، وبالشكل الذي يمكن من تقديم صورة أو خطاب معصرن للحياة العربية بدلاً من أسر التقاليد البدوية والفكر أحادي الذهنية. ان تبعات اخطاء التاريخ والحكام تلقى على عاتق المجتمعات، رغم تهمبش النظام السياسي العربي لمفهوم الشعب من خلال اعتماد مبدأ الوصاية والانابة المقدسة، ووضع الجماهير في خانة التبعية والرعية والقطيع والعبيد والموالي وما غير ذلك. ان وجود إشكالية تستدعي حضور الاجتهاد وتوفير أرضية للمناشدة والحوار للوصول إلى حالة من التراضي أو الحل الوسط. وليس الانتصار للقوة والعنف وترك الخلافات تنمو على قارعة الزمن لتنفجر عندما تواتيها فرصة أخرى كما حدث في الطف. اننا نشعر بالخزي والعار عند مراجعة الطريقة التي تعامل بها الحكم الراشدي مع الامام علي لمجرد رفضه مبايعة الحاكم أو مطالبته الحكم لنفسه. لقد كان ذلك مهيناً بما لا ينسجم مع القيم الانسانية فكيف بأهل بيت نبيهم قبل أن يجف تراب لحده. ولم يكن خروج الحسين بأهله الى العراق إلا تعبيراً عن رفض البقاء بدارة ذلّ. تؤخذ فيه البيعة بحدّ السيف، لمن لا أهلية ولا اجماع له. أن مجرد استلاب السلطة لم يكن السبب الوحيد وراء ذلك، ولا المطالبة بها، قدر ما هو رفض المهانة السياسية والاجتماعية التي ألحقها الحكام ببيت علي، فيما يسمى التعبئة الاعلامية المبكرة ضد من تشتبه في ولائهم. وما يزال أمام فقهاء ووعاظ بني أميّة تبرير قاعدة السبّ واللعن على المنابر والدروس التربوية والتاريخية المضيئة في حياة العرب!.لقد كان حريّاً بجيل الأبناء، أن لا يكرروا أخطاء الآباء ويولغوا فيها. والسؤال هنا كيف أباح ابن زياد لنفسه اعلان الحرب على من قصد مملكته. وكيف اجتمعت فئة كثيرة على فئة صغيرة ترفع كل منهما اسم الله لواء لصناعة أبشع مجزرة في التاريخ، لا تضاهيها غير مقابر نظام البعث الجماعية. لقد وضعت تلك الواقعة ادعاءات الاسلام، الفروسية والمروءة والنخوة منذ ذلك الوقت داخل قوسين محكومين بعلامات الاستفهام والتعجب. في تواريخ غير العرب لا تكون التصفية الجسدية نتيجة حتمية لتأكيد الانتصار، بل تضع التوافقات والوساطات الدبلوماسية نهايات لتلك الحروب، سواء بين الأوربيين أنفسهم، أو بين الأوربيين وآل عثمان كما في كثير من حروب البلقان ومنها حصار فيننا (1529). ان التعطش للدم والقتل انعكاس لنفوس منحرفة وعقول سقيمة خائفة لا ترتضي بغير القتل وقطع الرقاب المرتبط بعقيدة ميثولوجية قديمة مستمدة من الخوف من الأفاعي التي تملأ الصحارى، مفادها عودة الروح الى الجسد، والتي لا يمكن تعويقها إلا بفصل الرأس عن الجسد، لتأكيد حالة الموت. فهل ثمة خوف أبلغ من خوف القاتل من الضحية ؟. وما الذي يحدث على أرض العراق وبحق أبنائه، غير متوالية عددية للطف. وليست حمامات الدم التي أقامها نظام القومية الاشتراكية منذ تصفيات أواخر السبعينيات واستمرارها على أيدي أذنابه بعد سقوطه المخزي، وكما انعكست في نتاجات الكثير من الأدباء العراقيين الشباب مؤرخي الكارثة، سوى كربلاءات متواصلة تتعدى التاريخ والجغرافيا. فلا غرو ان نجد في تلافيف اليوميات العراقية، الكثير من الخصائص والقواسم المشتركة التي تحيل على الموقعة. وهذا ما يجعل العراقيين المشتركين والمتعاطفين في مراسيم محرم هم من عموم الناس بجميع أطيافهم. وعندما يكون زوار النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء من كل انحاء العراق، مسيحيين وصابئة وأكراد وتركمان وسنة، نشعر بالفخر وبعمق الانتماء للأرض والوطن، رغم كل الويلات والدسائس والخبائث. بهذا الصفاء والسمو يتعايش الجميع ويتشاركون في مناسباتهم الدينية والقومية والاجتماعية. أن معجزة العراقي لا تتحدد هنا بالدين أو القومية أو الجنس أو المذهب والحزب. انها أكبر من كل التحديدات والأطر والحزبيات،لأنها الانتماء للعراق وطنا وأمة، تاريخاً وحضارة وجغرافيا وابداعا، الأكبر من التقسيمات الدمغرافية والسياسية الضيقة. ان من أسئلة التاريخ الملحة، هو سبب اختيار علي وأبنائه وذريتهم لأرض العراق موطناً بديلاً عن الحجاز؟. لماذا العراق وليس مصر أو الشام أو اليمن؟.. لماذا اختار الخليفة الرابع الكوفة مقرا لخلافته معارضاً أسلافه؟. وكيف نفسّر تحديده للأمكنة التي يدفن فيها هو وأبناؤه؟. ولماذا مقابر قريش في بغداد؟. ابو سفيان لم يختر الشام بنفسه وانما تم تعيينه واليا عليها. أما علي فقد كان هو الخليفة الذي حدّد تلك الأرض. هل نقف عند حدود التواريخ الدينية لمقامات الانبياء في أرض العراق، عندها سيكون أولى للنبي محمد أن يختارها عاصمة لحكمه أو مقراً لمثواه؟. انه العراق، أرض الحرف الأول والحضارة الأقدم، أول قانون وأول ملحمة وأول شاعر وأول نبي وأقدم الأديان. وللعراقيين اليوم أن يعرفوا تأريخهم جيداً، ويكتشفوا هويتهم الثقافية والقومية المشتركة، تلك الهوية التي كانت خطاب حضارتهم إلى العالم. العراق هو الوطن الأصل وليس الوطن البديل، انه التاريخ والمستقبل، وليس مرحلة أو محطة بينهما. بهذه المنظور يمكن النظر الى الخطاب الشيعي والايديولوجيا الشيعية على أنها انتصار للانسان، والعقل والمدنية. الخطاب الشيعي بانفتاحه على ابناء العراق مسيحين وصابئة وتركمان ومختلف مكونات النسيج العراقي انما هو انعكاس لهوية العراق الثقافية التعددية المتوازنة. وكما كان العراق عمقاً للقضية الشيعية التي طاردتها الجزيرة، يكون الخطاب الشيعي عمقاً للروح العراقية ورديفاً لها في توقها للحياة والعدالة والسلام.ان المراجعة النقدية الجريئة كفيلة باستخلاص الدروس والنصوص الاخلاقية والقانونية التي تمنع تكرارها، ولقد تكررت وتتكرر اذا لم يمتلك العرب الجرأة للمراجعة والنقد والتصحيح. ان كلمة [لا] عقوبتها الاعدام والتصفية الجسدية والاسرية والفكرية وهو ما لا يليق بالعصور البدائية للجنس البشري. تغييب الزمن والقفز على معطيات الحضارة تحت ضغط العمى الايديولوجي أو هوس عقدة الذات لا ينبغي أن يستمر أكثر مما كان. فالحضارة والمدنية معطى انساني، ومن لا يتعلم احترام الانسان حق قدره، لا يدرك معنى الحضارة وأهمية المدنية. والاستمرار في مسخ الالقاب المجانية على مراحل من الابتذال والتفسخ يتنافى مع السلوك والفكر القويمين. وإذا كان الأقدمون قد اخطأوا فذلك لا يغفر اجترار الاخطاء وتكرارها أو تحويلها إلى أمجاد محاطة بخطوط حمر
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشعر والتلقي إشكاليات التفكيك وتفكيك الإشكاليات
-
عندما ندم الله..(2)
-
عندما ندم الله..
-
أوراقهم ودفاترهم..(2-2)
-
أوراقهم ودفاترهم.. (1-2)
-
وطن بحجم جيب / حشرة بحجم ديناصور
-
قصيدتان..
-
نكتة اللا
-
-غريبة الروح-
-
حارس البوابة النائمة
-
سنحاريب
-
من يعبر البحر؟..
-
المرأة الطفلة، والطفل الرجل!
-
دعوة للتضامن مع المرأة الاعلامية
-
هيلكا شوبرت.. أبي
-
بيرنهارد فيدر..قصائد
-
قليلاً مثل الموت شعر: بيرند ماينكر
-
في انتظار الحافلة
-
المرأة الطحلبية!..
-
Hal؟..
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|