|
سيناريو الرجل وقطته
محمد سعيد الصگار
الحوار المتمدن-العدد: 3116 - 2010 / 9 / 5 - 22:25
المحور:
الادب والفن
الرجل وقطته (❊) (قصة سينمائية - سيناريو)
محمد سعيد الصكار [email protected] ` اعتاد الرجل المهاجر أن يترك مفتاح شقته لدى جارته المهاجرة مثله لترتّب الشقة الصغيرة وتُعنى بقطته، وربما أعدّتّ له وجبة العشاء. هذا اليوم لم يطرق بابها ولم يعطها المفتاح. مرت ساعة وساعتان ولم يمرّ بها. استبطأته، فجاءت تطرق الباب فلم يجب. فكرت أنه ربما سهر طويلاً وهو مستغرق الآن في النوم؛ وراحت تتذكر أيام الأسبوع؛ هذا اليوم يوم عمل وليس يوم عطلة. عادت بعد ساعة تطرق الباب، بلا جدوى. بدأت هواجسها تستيقظ؛ لم يكن من عادته أن يتأخر عن الدوام، وهو أصلاً ليس ممن يولعون بالسهرات؛ وحتى لو كان سهران فالقطة ستوقظه طلباً لوجبتها الصباحية.
بعد الظهر ازدحمت الشقة الصغيرة برجال الشرطة ورجال الاسعاف، وكثر اللغط والمناقشات خارج الشقة بين الموجودين الذين أخذتهم الحيرة مما يرون؛ فقد كان الرجل يحتضن قطته بطريقة طبيعية جداً، كما لو كان يداعبها فأغفيا معاً؛ وبدا أنه لم يمرّ على موتهما سوى ساعات قليلة. ورغم مرور وقت غير قليل على بحث رجال الشرطة والأطبّاء وتشاورهم لم يفلحوا بتفسير ما يرون، كما لم يفلحوا باتخاذ قرار بشأن جثّة الرجل وقطته المستريحة على ذراعه.
صوّروا المكان، قاسوا المسافات، خططوا بالطباشير موضعهما، سألوا الجارة ومن احتشد عند الباب من الجيران فلم يفلحوا بتفسر مقنع، وبقي واحدهم يتطلع إلى الآخر بحيرة، ولم يتوصلوا إلى قرار، مع أن لكل من الشرطة والأطباء تقديراته الضبابية.
الافتراض الأول لدى الشرطة كان يقوم على أن تسمماً أودى بحياتهما، وهذا ما حمل الضابط على أن يطلب من رجال الاسعاف نقلهما لكي يشرّحوا الجثتين ويبحثوا عن طبيعة التسمّم، ولكن الطبيب أعلن فوراً أنه لا يستطيع تشريح جثة القطة لأنه ليس ببيطري، ولذلك عليهم أن يحملوها إلى المستشفى البيطري للتصرّف بها. ولكن الضابط، وقد تفرّعت هواجسه، طرح افتراضاً اخر، هو إمكان أن تكون هناك جريمة، فلم يقبل تفريق الجثتين إلى مستشفيين، لأن ذلك سيعقّد التحريات.
قالت المرأة إنه من المستبعد أن تكون هناك جريمة، فالرجل في غاية الوداعة والاستقامة. أخرسها الضابط بإشارة فجّة من يده، وقال: هذا شغلنا؛ من طلب منك الكلام؟! وأصرّ على أن يجري التشريح في مستشفى واحد، وأشار إلى الطبيب أن يحملهما معاً، ولكن الطبيب رفض؛ قال إنه يتصرف ضمن اختصاصه، واختصاصه أن يشرّح البشر لا القطط.
كان منظر الرجل وقطته مثيراً للشفقة، فقد كانت قطته نائمة بوداعة على ذراعه، وإذ لم يمضِ وقت طويل على مغادرتهما الحياة كانا يبدوان وكأنهما مستغرقان في النوم.
في هذه الأثناء كان الخبر قد تسرّب إلى خارج الشقة، ووصل إلى أفراد جالية الرجل المهاجر، فجاء منهم جماعة من معارفه من بينهم مسؤول الجالية الذي زاحم رجال الشرطة عند الباب وأفلح في الدخول إلى الشقة والمشاركة في النقاش؛ وقد رفض بشكل قاطع إجراء التشريح لجثّة الرجل، أما القطة فليعملوا بها ما يشاؤون، فاعتُبر رأيه هذا ضرباً من الهراء، لأن جميع الجثث في هذا البلد تُشرّح ما لم تكن هناك وصيّة موثّقة ومسجلة رسمياً من قبل المتوفى بعدم إجراء التشريح؛ وفي هذه الحالة ينبغي أن تنقل جثته إلى بلده وعلى نفقته. أوضح الضابط ذلك بشيء من الغلظة والعجلة المشوبة بالاستخفاف جعل رئيس الجالية يقتنع بأن لا جدوى من المناقشة، فانسحب إلى خارج الحشد وأدار رقماً على تلفونه المحمول وتكلم بنبرة من الاحتجاج، وحثّ المخاطَب على أن يقوم بدوره الذي من أجله انتخب رئيساً للجنة حقوق الانسان في هذا البلد؛ وكرر احتجاجه هذا على القنصل الذي سارع بالمجيء إلى المكان.
خارج الشقة ازداد الحشد وتعددت وجوه النظر إلى الموضوع وبدأ النقاش يأخذ مأخذ الجد ولا يخلو من حدّة؛ بين مؤيد لموقف الشرطة ومؤيد لحق رئيس الجالية، في حين أثار موقف الطبيب قضية لم تكن في رأي البعض ذات أهمية كبيرة، وهي قضية القطة؛ فقد رأت إحدى السيدات المسنّات أنه لا ينبغي الاستخفاف بالقطة والعبث بجثتها، ورأت أن من واجبها، باعتبارها من رابطة حقوق الحيوان، أن تبلغ الرابطة بهذا الموضوع حفاظاً على حقوق القطة؛ وفعلت ذلك فأشارت عليها رئيسة الرابطة بتسجيل الواقعة وترك الموضوع يأخذ سياقه الإعتيادي.
استغرق الكثير منهم في البحث عن تفسير لهذه العلاقة، وهذا المصير المشترك الغريب بين الرجل وقطته؛ وانتقل الحوار إلى البيوت؛ ودار في فكر البعض منهم أن الرجل محظوظ بالانفراد بهذا الموت الغريب الشبيه باللغز، في حين عدّها بعضهم من المعجزات، وأنها جديرة بالتأمل والاعتبار.
ظهرت صحف المساءوعلى صفحتها الأولى صورة الرجل وقطته، مع استعراض مثير للفضول لآراء الناس والجهات المعنية؛ في حين مرت نشرات التلفزيون بشكل عابر على الموضوع، ولكن بعض الإذاعات المحلية أغرقت بتفاصيله ومضاعفاته، ولا سّيما إذاعة صوت المهاجرين التي ركزت على حق الرجل بعدم التشريح، وإذ كانت على علم بقوانين البلد في عدم تسليم أية جثة بشرية بدون تشريح، دعت الناس إلى التعاون على توفير مبلغ من المال لنقل جثة الرجل إلى بلده، مما أثار الشرطة، واعتبرته تدخلاً في اختصاصها، إذ كيف يتأتى للإذاعة أن تعرف ما إذا كانت هناك جريمة أم لا. قالت الجارة: إن الرجل كان يشتري لقطته أفضل الطعام، كانت مصدر أنسه الوحيد، وكان يحنو عليها كثيراً. قال الصحفي: يعني أن الطعام لم يكن فاسداً. قالت: أبداً، أنا متأكدة من ذلك. قال: وأي طعام كان ذلك؟ أعني ما اسمه، ما علامته؟ قالت: لا أدري، فهو يجلبه يومياً من القصاب. قال: إذن لم يكن معلباً.
أحسّت الجارة أن معلوماتها صارت مهمة، وأن عليها أن تكون رصينة ودقيقة. قالت: أبداً، أنا كنت أساعده أحياناً في تقطيع اللحم. قال الصحفي: هل تعرفين أين دكان القصاب؟ قالت: طبعاً، هو في بداية السوق. قال: شكراً؛ وغادرها. أحس ضابط الشرطة بالخيبة والإحباط عندما وصلته الأوامر بنقل الجثتين إلى المستشفى وتجميدهما دون تشريح بانتظار أوامر أخرى. كان يريد أن يجعل من التحقيق في هذه الحالة الغريبة رصيداً مهنياً يعزز وضعه المسلكي؛ كان يريده ضربته الحاسمة الأخيرة قبل أن يحال على التقاعد؛ ولكن آه من تصرفات الكبار الذين يبدون أحياناً صغاراً، صغاراً جداً! ولكنه رغم مرارته كان يُعدّ إجابات محكمة لا تخلو من فانتازيا لأسئلة مفترضة سيلقيها عليه الصحفيون كما جرت العادة.
وفي الواقع، كان كل المعنيين يفكرون في تلك الإجابات المسبّقة؛ الطبيب والشرطة والجيران والكبار؛ كلهم جهزوا إجاباتهم، وملابسهم التي سيظهرون بها أمام وسائل الإعلام. في بلد الرجل أخذت الأمور مساقات مختلفة، ففي حين تجمّع حشد من الناس أمام سفارة البلد الذي مات فيه الرجل، وطالبوا السفارة بالإسراع في إعادة الجثة لتدفن في موطنها، كان بعض الناس يثير حمية الميسورين للمساهمة في تخصيص أرض وبناء ضريح له يكون مزاراً للمؤمنين بخوارق الأقدار. ولم يكن إقناع الميسورين يتطلب جهداً كبيراً، فقد تسابق العديد منهم بالتبرع بقطعة من الأرض، وساهم الآخرون بسخاء في تغطية نفقات نقل الجثة.
- الرجل جدير بهذا التقدير، هذا ما لا شك فيه. - هذا ما لا خلاف عليه، ولكن المسألة شائكة وذات أبعاد. - كل مسألة لها أبعاد، والإغراق في التفاصيل يميّع الدلالة، وعلينا أن نأخذ ما هو حاصل. - فعلاً؛ ينبغي التعامل مع ما هو حاصل. - الحاصل ذو وجهين؛ الرجل والقطة؛ ولذلك يجب التعامل مع الطرفين معاً، ولا ينبغي النظر إلى طرف واحد وإهمال الطرف الآخر، وهو القطة؛ وارتباطهما معاً هو جوهر القضية؛ فلو مات الرجل وحده، أو ماتت القطة وحدها، لما كان هناك شيء غريب، كل المخلوقات تموت، ولكن موتهما معاً على تلك الهيأة الخارقة للمألوف، هو الأساس، ولذلك لابد من التعامل مع طرفي المعادلة دون تفريق.
- ولكن كيف تعامل القطة بهذا التكريم أسوة بالرجل؟ - فعلاً كيف؟ وأنت ترى أن القطة ليست من الحيوانات المحبوبة عندنا، وهناك آلاف القطط السائبة في الشوارع، ورجال البلدية تطاردها وتتخلص منها بطريقة مؤلمة. - ثم كيف يسوّغ الناس لأنفسهم أن يقرنوا رجلاً بقطة، ويسبغون عليهما معاً الدعاء والبركات، ويلوذون بأذيالهما؟!
هذا الإشكال أثار كثيراً من القضايا التي لم تكن ظاهرة على السطح. منها أن بعض المفكرين دعا إلى إعادة النظر في العادات والتقاليد السائدة في البلد، وصرف النظر عن التعامل الخاص مع هذه الحالة. وتحدث آخر معززاً رأي الأول، وداعياً إلى مراجعة البرامج التربوية للمجتمع، وتنشئة جيل على أساس عقلاني.
وقد أثار هذان الكاتبان غضباً لا يوصف من الجمهور؛ حتى الصحفيون والكتاب الذين كان يُنظر إليهم كمتنورين وموضوعيين، ثارت ثائرتهم، ودبّجوا الكثير من الردود اللاذعة على هذين الكاتبين اللذين آثرا السلامة وتركا الموضوع ولم يعاودا مناقشته ثانية، فأية صيغة للتفاهم يمكن أن تقوم بينهما وبين من كان معدوداً من المتنوّرين الذين انقلبوا بهاجس الإعتداد بالتقاليد والشعائر المحلية والإنسياق إلى منطق البسطاء والجهلة، وتغليب الحماس الجماهيري الفارغ على النظرة العقلانية الضرورية في مثل هذه الأمور. انتقل تفرّع الأحداث إلى ثلاثة أطراف؛ طرف يتعلق بالتقاليد والأعراف الإجتماعية التي لا تسمح باقتران مصير الرجل بحيوان، وإضفاء قداسة عليهما معاً؛ وطرف يهمه النظر إلى الظاهرة واعتبارها من الظواهر الخارقة وما يترتب عليها من إجراءات روحية تجمع الرجل بقطته في ضريح واحد باعتبارها من خوارق الطبيعة التي ينبغي احترامها؛ وطرف ثالث انبثق من مجلس الشعب الذي نظر إلى إمكانية تأزم العلاقة مع البلد المضيّف نظراً إلى العلاقة الرسمية بين بلد المهاجر والبلد المضيّف، وما يترتب عليها من مآزق سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية قد تقود إلى إشكالات غير محسوبة؛ فالبلد مرتبط مع البلد المضيّف باتفاقيات مختلفة؛ واستثمارات في مجالات متعددة لا يمكن أن يُغَضّ النظر عنها من أجل قطة. مثلما تجمّعتْ جماهير المغتربين للإحتجاج أمام وزارة خارجية البلد المضيّف، تجمّعتْ حشود كبيرة أمام قنصلية البلد المضيّف في بلد الرجل. وفي حين كانت الجموع أمام القنصلية تعلن توجيهاتها بمكبرات الصوت، وتحرق إطارات السيارات وتقرع الطبول وتهتز على إيقاعها، كانت جموع أخرى أمام وزارة الخارجية في البلد المضيّف، تروح وتجيء وتوزّع المنشورات والبالونات الملونة، وترفع اللافتات الورقية المنددة بسياسته العنصرية وتجمع التواقيع، وتقذف بقناني البيرة الفارغة إلى الأرصفة، وتدلي بالتصريحات لوسائل الإعلام. www.saggar.com (❊) يعكف الكاتب على إعداد سيناريو وحوار لهذه القصة.
#محمد_سعيد_الصگار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شعار الجمهورية ما شكله وأبعاده؟
-
إلى قرائي الأعزاء
-
الخط المصخم في التراث البريدي العراقي
-
تشكيل الحكومة في التوقيت العراقي
-
تعالو انظروا حرية الرأي
-
مونديال بلا سيكارة
-
فضل الله وابو زيد حضور في الغياب
-
يصرياثا بالإنكليزية
-
أتعبتمونا أما تعبتم ؟!
-
فلسفة الدروع التكريمية
-
ناظم رمزي آخر سلالة الفن الموسوعي
-
غزة نموذج عربي للنفاق السياسي
-
غرفة سمير الكاتب (رواية)
-
الباء تتدخل في مصائرنا
-
شؤون تنحتُ في القلب
-
نحو المربد السابع
-
غداً موعدنا مع الغد
-
الصگار في حوار مع جريدة المدى
-
برمكيات
-
البرد وعلي الشرقي والإنتخابات
المزيد.....
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
-
زيادة الإقبال على تعلم اللغة العربية في أفغانستان
-
أحمد أعمدة الدراما السعودية.. وفاة الفنان السعودي محمد الطوي
...
-
الكشف عن علاقة أسطورة ريال مدريد بممثلة أفلام إباحية
-
عرض جواز سفر أم كلثوم لأول مرة
-
مسيرة طبعتها المخدرات والفن... وفاة الممثلة والمغنية البريطا
...
-
مصر.. ماذا كتب بجواز سفر أم كلثوم؟ ومقتنيات قد لا تعلمها لـ-
...
-
أساطير الموسيقى الحديثة.. من أفضل نجوم الغناء في القرن الـ21
...
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|