|
صناعة السكر في العصر السعدي
جواد التباعي
الحوار المتمدن-العدد: 3114 - 2010 / 9 / 3 - 07:57
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
أولى السعديون اهتماماً كبيراً بقطاع صناعة السكر منذ نشأة دولتهم، ويمكن القول إن تطوره رافق تطور المشروع السياسي للدولة السعدية منذ بدايتها، وإنه نما بتواز مع نمو تلك الدولة إلى أن انتكس بانتكاسها. وقد شكل ذلك القطاع مشروعاً استثمارياً استراتيجياً ناجحاً للمخزن السعدي، وذلك بفضل ما كان يدره من مداخيل مهمة استفاد منها الأمراء والسلاطين في تمويل مشاريعهم السياسية وضمان سبل نجاحها من خلال تمويل الصفقات للحصول على الأسلحة المستوردة، واستنفار الأنصار لمواجهة القوى السياسية والعسكرية المنافسة في الداخل (الوطاسيون والأمراء المحليون) والقوى الخارجية المتربصة بالبلاد، ممثلة في الإيبريين المحتلين لمعظم سواحل البلاد، وفي الأتراك العثمانيين، الطامحين إلى ضم المغرب إلى خلافتهم المترامية الأطراف، في آسيا وأوربا وشمال إفريقيا، في أفق تحقيق وحدة العالم الإسلامي.
ومما يؤكد اهتمام المخزن السعدي بقطاع صناعة السكر، لأهميته الاستراتيجية، "تأميم" هذا القطاع واحتكاره، وكذلك إقدام السلاطين أو الأمراء السعديين أنفسهم على تخريب منشآت هذه الصناعة الحيوية، في فترات الأزمات السياسية، كما حدث، مثلاً، أثناء الصراع الذي دار بين السلطان محمد المتوكل (1574-1576 م) وعمّيْه الأميريْن عبد الملك (المعتصم) وأحمد (المنصور الذهبي)، حيث عمد المتوكل إلى تخريب معامل السكر وإتلافها لكي يحرم خصميْه من الاستقواء بمواردها. وفعلاً، فإنه، نتيجة لعمليات التخريب تلك، كان لابد للسلطان عبد الملك المعتصم (1576-1578 م) ثم أخيه أحمد المنصور (1578-1603 م) من بعده من بذل جهود مضنية جداً من أجل إعادة الحياة من جديد لتلك المعامل، وقد تَمّ ذلك بفعل الضرورة القصوى، لا سيما على يد المنصور.
ويعتبر إقدام السلطان المنصور الذهبي على إنعاش صناعة السكر وتطويرها والنهوض بها بشكل لم يعهد من قبل تأكيداً آخر على اهتمام السلاطين السعديين بهذا القطاع لأهميته الاستراتيجية بالنسبة لهم خاصة ولدولتهم عامة. ولا نجانب الصواب إن قلنا إن هذا القطاع شكل، في عهد هذا السلطان بالذات، أضخم مشروع استثماري في الصناعة التحويلية الغذائية عرفه المغرب في العصرين الوسيط والحديث، بفعل النفقات الباهظة التي كلفها، كما يستنتج ذلك من خلال ما يلي:
أ - استغلال مساحات زراعية كثيرة وكبيرة، خصبة ومستوية، في عدة أقاليم، لزراعة القصب وبناء المصانع، ولا سيما الواقعة منها بجوار الأودية والأنهار، وقد كان معظمها بإقليم مراكش وأحواز المحمدية (رودانة أو تارودنت الحالية) بإقليم سوس. وقد بلغت مساحة أحد الحقول بجنوب غرب تارودَنْت حوالي 15.000 هكتار متّصلة ب - شق قنوات ري عديدة ولمسافات طويلة تقدر بمئات الكيلومترات، واستغلال مفرط وكثير لمياه الأودية والمجاري في سقي المزارع. فقد توصلت بعض الدراسات إلى أن صبيب بعض قنوات الريّ كان يتراوح بين 100 و250 لتر في الثانية.
ج - استغلال مجال غابوي مهم، وذلك للحصول على الأخشاب، التي تستعمل لصناعة الأجفان والنواعير وغيرها، وللتزود بالحطب، الذي يستعمل وقوداً لتصفية مادة السكر، ولرعي الدواب الكثيرة التي تستخدم للنقل.
د - الاستعانة بأعداد مهمة من الخبراء الأجانب سواء منهم التقنيون - المهندسون - الذين أشرفوا على إنجاز المشروع اعتماداً على تقنيات حديثة ومتطورة بالنسبة لذلك العصر، أم أولئك الذين أوكلت لهم مهمة الإدارة، أم الوكلاء التجاريون الذين عملوا على تسويق الإنتاج. وقد لعب المسيحيون الأوربيون واليهود الأندلسيون بصفة خاصة، دوراً كبيراً في إدارة الإنتاج وتسويقه، حيث إن الوحدات الإنتاجية «قُطعت معاقدة الكراء فيها... لطائفة من أهل الذمة»، مقابل مبالغ سنوية هائلة، وذلك لخبرتهم ولتدبرهم رؤوس الأموال، على ما يبدو.
ﻫ - استخدام يد عاملة كثيرة جداً، كانت هي الأخرى أجنبية في غالبيتها العظمى، مشكلة من العبيد الأفارقة خاصة فقد جاء في بعض المصادر أن أعداد اليد العاملة بمعصرتين بشيشاوة، في عهد المنصور، كانت كثيرة جداً، حتى إنه كان «إذا ألقيت عصا التسيار بمعصرة منهما رأيت مجمع الورى وأول الحشر وقرية النمل وكورة النحل ومدرج الذر لكثرة ما ضمت من العمَلة وحشَرت من الخلق...»
و - تحقيق المشروع لمردود تجاري واقتصادي مهم جداً، فقد جنى المخزن السعدي منه عائدات مالية مهمة للغاية، كما تمت مقايضة السكر بمواد وسلع أجنبية كثيرة ومن أبرزها الرخام، الذي كان المنصور في حاجة إليه بكميات كبيرة لبناء قصر البديع. فقد «جلب له الرخام من بلاد الروم [إيطاليا خاصة]، فكان يشتريه منهم بالسكر وزْناً بوزْن». لقد كان المشروع إذن مربحاً للغاية من الناحية المادية، فكان يستحق من أجل ذلك كل تلك التضحيات.
#جواد_التباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفقهاء: مصدر قوة وإنهيار الدولة المرابطية
-
الفكر في تصور المادية التاريخية
-
أرنولد توينبي والتفسير المادي للتاريخ
-
الحركة الصهيونية التعريف، ظروف النشأة، والأهداف الأساسية
-
ماذا أراد هتلر
-
ديمقراطية الأقلية
-
متى تنتهي أسطورة الكنوزبأجلموس
-
مولاي بوعزة:التصوف والجاهلية المتأخرة
-
الأمازيغية دون خطاب عنصري
المزيد.....
-
السعودية.. فيديو يشعل تفاعلا لشخص وما فعله بمكان عام والأمن
...
-
-بلومبيرغ-: شركات العملات المشفرة تبرعت بملايين الدولارات لح
...
-
من هنأ الشرع من القادة العرب بتنصيبه رئيسا لسوريا للمرحلة ال
...
-
-هذه هي المرة الأولى التي ألمس فيها أبي-، شابة فلسطينية تلتق
...
-
حماس تفرج عن المجندة الإسرائيلية آغام بيرغر وسط مشاهد مؤثرة
...
-
تحذيرات من تسرب فيروسات خطيرة من مختبر أبحاث في الكونغو بسبب
...
-
فيروس زيكا يتلاعب بالبيولوجيا البشرية لضمان بقائه!.. كيف يفع
...
-
-متلازمة الجلد المحمّص-.. عواقب التعرض الزائد لمصادر التدفئة
...
-
علماء يعثرون على قيء متحجر من عصر الديناصورات في الدنمارك
-
القمر ليس ميتا! .. دراسة تكشف عن نشاط جيولوجي حديث
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|