|
الكرسي الأعرج
محمد بقوح
الحوار المتمدن-العدد: 3106 - 2010 / 8 / 26 - 13:29
المحور:
الادب والفن
هذا الكرسي مفروش برصيف أسمنتي .هو كرسي ليس كجميع الكراسي .فكرت أكثر من مرة ، في غفلة النادل ، أن أكسر ما تبقى من شكله المهترئ ، لكن سيبدو ذلك عملا جنونيا .في الحقيقة هو يثير الرأفة ،أكثر مما يثير أي شيء آخر .لكن ، ما الذي يجعل كل من دخل إلى المقهى يسأل و يبحث ، بكل جدية و غير جدية ، عن الكرسي الأعرج ...، و هو الاسم الذي عرف به عند الزبناء .فأنا لست أدري لماذا يتشبت هؤلاء بهذا الكرسي كل هذا التشبت ، رغم عيوبه الواضحة و البارزة حتى للعميان . إن هذا هو ما يستفزني و يحيرني أكثر في الموضوع .
كرسي يجوز أن نسميه كل شيء غير الكرسي .أحسن مكان يليق به هو إحدى المتاحف العريقة في البلاد .حقا ، فهو يحتمل أجساد الجالسين عليه . هذه ميزة تحسب له . لكن المهم ليس هو الجلوس ، و إنما الراحة في الجلوس ،و يبدو أن كل من جلس عليه يتمنى أن لا ينفصل عنه ، بل يزداد جسمه التصاقا به..إن لم أقل امتدادا ، إلى درجة الذوبان فيه ..مع العلم ، أنه مجرد كرسي أقل من عادي ، جد قديم ، يعود تاريخه إلى أكثر من المدة ، التي عشتها في هذه المدينة الصغيرة و المهمشة . كرسي سبق لي أن دققت نظري في شكله الذي يغري ، إلا أن رجله الرابعة تبدو لي اصطناعية ، و أصغر من الأرجل الأخرى . بالفعل ، حين تنعكس عليه أشعة الشمس الصباحية ، تلمع جنباته ، و تكون "ظهريته" المملوءة بالأرقام الهاتفية ، أكثر دفئا و انجذابا للزبناء .لهذا كثيرا ما طرحت على نفسي سؤال السر، الذي يدفع كل من جاء إلى هذا المقهى يقصد، بشكل غريب و مباشر، الكرسي الأعرج .
هل الأمر يعود إلى لونه الأبيض ، الذي يوحي بأجواء السلم و السلام ، المنقوشة في دواخل المواطنين ..؟ أم الأمرلا يعدو أن يكون مجرد صدفة ، كوجود المستوصف بالقرب من هذا المقهى .كنت دوما أتمنى أن أستيقظ ذات صباح ، مع الطلعة الأولى لشمس مدينتي ، و أكتشف جديدا في هذا الرصيف المعاند ..أن أخبر من طرف نادل المقهى، بأن الكرسي الأبيض ، قد تمت سرقته في الليلة الفائتة ، من لدن مجهولين ، أو على الأقل ، تم تغييره من طرف صاحب المقهى ، بكرسي مختلف ، يكون لونه هذه المرة أزرقا كلون البحر ، أو أحمرا ، القريب من لون النار ...، جميع المقاهي التي أعرفها ، في المدينة و ما يجاورها من ضواحي و أحياء ، بدلت كراسيها أكثر من مرة ..حتى الوجوه المقنعة ، التي كثيرا ما أجدها مرسومة بإتقان على الكرسي الأبيض، أو ألاحظ التصاق أجسادها السمينة بصفحة ظهره ، أو بإحدى أرجله الطويلة ، بإمكانها أنذاك أن ترحل عن هذا المقهى ، و تبحث لها عن كرسي أبيض آخر ، يناسب حجم أجسادها ، و يليق بسعة "جبهات" وجوهها ..لقد تساءلت كثيرا ،عن مغزى و معنى هيمنة هذا اللون الأبيض ، على الكثير من جوانب حياتنا ، خلال هذه السنوات الأخيرة ..:..كراسي المقاهي .و.كراسي المستوصفات . . و وزرات التعليم بلا تعليم و ..وزرات الصحة بلا صحة .و بياض الثلاجات و آلات الغسيل .. ، و بياض الأسنان و المناسبات و العادات ..حيث يتم إحياء صلة الرحم ، و العلاقات النائمة ..و الراكدة ..، حيث يبدأ بياض آخر ، من النوع الرفيع ،.. بياض الأحاديث الطيبة ، و بياض النظرات الخاطفة ...بياض "الجلاليب و البلاغي" .، هذا زمن أبيض الاسم ، يخفي شظايا هوية الأهازيج ، ويدعي اختمار الوعي ، و نضج الثمار ..صدقت يا عبد الله راجع : عندما تنضج الثمار يموت الرجال ..لكن في زمانك يا شاعرنا الكبير .أما في هذا الزمان ..، فعدما تنضج الثمار تمسخ الشجرة ، و يصبح الرجال عصافير حالمة ..إنه نفاق في نفاق ..لقد أصبحت المظاهر العاكسة للون الكراسي ، و القبعات البيضاء ، من موضات عصرنا البيوض لسلالة جديدة من السلوكيات...البيضاء . .الممزوجة بالأدخنة و الرماد والأحلام و الأملاح المعدنية ، و ...حين تحضر الألوان الأخرى ، و لو كان حضور من مر، في الطريق مرور الكرام ، ..أينما ذهبت و ارتحلت ، وجدت الأبيض ينتظرك و يبتسم إليك..، إنها أم المهازل في الزمن العربي الحالم والمغلوب على أمره .. ..
جلس في هذه اللحظة ، شاب على كرسي أمامي ، يقرأ جريدة .ربما يكون زائر جديد للمقهى . كدت أن أقف ، و أنبهه لتغيير كرسيه ، قبل فوات الأوان .هو ،في الحقيقة ، يتصفح الجريدة و لا يقرأها . .قراءة الجريدة تحتاج إلى كرسي مريح .ها هو يحاول البحث بعينيه العميقتين ، بين جميع كراسي المقهى ، عن كرسي مريح لقراءة جريدته اليومية .عبثا.. تبحث أيها البحر.. عن اسم لسواعدك.. في بياض جسم ..يحفر عموديا في تربة جسمك ...أخذ يتحسس ، بأطراف أصابع يده اليمنى ، لحيته الكثيفة و القصيرة .تابع بعينيه مرور فتاة أمامه ،مركزا على مؤخرتها الظاهرة ، المطلة قسرا من تكويرة "دجين" الأميريكي .. غير من وضعية قدميه. نظر إلى حذائه الأسود .رفع بصره ليجد أمامه ، فجأة ، طفلا في حدود العاشرة من عمره ، حاملا صندوقا خشبيا .قال :"أرا تسيري " ،ثم ضرب الصندوق ضربات متتالية .استفسره الشاب عن نوع "السيراج" ، الذي يستخدمه في التلميع .وجده من النوع المناسب لحذائه .انتهى من تلميعه بسرعة ،ثم أشعل سيجارة ، فتذكر أنه شرع يفكر ، في هذه الأيام بجدية ، في الإقلاع عن التدخين .لكن يبقى أمر البدء في التنفيذ دوما هو العقبة الكبرى ..
شربت ما تبقى من كأسي. وقفت . سقط الكرسي .لم ألتفت إليه .أبصرت قدامي عربة لبيع "الهندية"* .أورقت في داخلي لعنة الجوع . مشيت تجاه العربة .أكلت ما يتيسر منها ، دون أن أعد قشورها المشوكة .كانت تلك مهمة البائع . "يذبح" كما نقول ، و أنا أقذف الحبة تلو الحبة ، عبر قناة جوفي الغائر .دفعت له المبلغ الذي طلب ، ثم انصرفت ...
لفت نظري ، و أنا أمر بجوار مصنع ، مجموعة كبيرة من العمال و العاملات ، يفترشون "كراسي" ، لكنها حجرية بالفطرة ، التقطوها من الوادي القريب من المصنع .أبصرت جملا و عبارات ، كتبت بحروف زرقاء و سوداء ، في بياض اللافتات الطويلة .وجوههم حزينة و متعبة ...ينظرون.. و ينتظرون.. و يتأملون.. و بدأوا يملون...
شربتني أول مقهى ، وجدتها في طريقي ..أخذت مكاني بين الكراسي .طلبت للنادل قهوة سوداء ، في كأس صغيرة ، بالإشارة التي يعرفها الجميع ..تصلني من داخل المقهى ، تصفيقات لأشخاص ،و كأنهم في ملعب ،ربما يتابعون "ماتش"في كرة القدم .نظرت ورائي عبر زجاج النافذة الشفاف ..صدقت في توقعي ..لقد علمت الآن ، لماذا احتفظ صاحب المقهى بالكرسي الأعرج...كل هذه المدة الطويلة ، و ربما ستطول أكثر..
#محمد_بقوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصيدة يسكنها بحر
-
هذا المساء ينقب عن وجهه في الشمس
-
صهيل السبت الأسود
-
غربة الفلسفة من منظور جيل دولوز
-
بهاء شذرات نيتشوية
-
حديث حول البحر
-
قصة قصيرة الميزان العجيب
-
نص المدينة و أبوابها الأربعة
-
رقصة الأوثان
-
كلاب قبيلة الشلال
-
شهوة الصمت
-
يبس الوقت
-
رجال من تراب
-
المزيف
-
الحريق
-
الخراب
-
أنشودة الزورق
-
أيها العابرون في وجهي
-
يوم أزرق
-
قواعد اللعبة
المزيد.....
-
موسم أصيلة الثقافي يعيد قراءة تاريخ المغرب من خلال نقوشه الص
...
-
شائعة حول اختطاف فنانة مصرية شهيرة تثير جدلا (صور)
-
اللغة العربية ضيفة الشرف في مهرجان أفينيون الفرنسي العام الم
...
-
تراث عربي عريق.. النجف موطن صناعة العقال العراقي
-
الاحتفاء بذكرى أم كلثوم الـ50 في مهرجاني نوتردام وأسوان لسين
...
-
رجع أيام زمان.. استقبل قناة روتانا سينما 2024 وعيش فن زمان ا
...
-
الرواية الصهيونية وتداعيات كذب الإحتلال باغتيال-محمد الضيف-
...
-
الجزائر.. تحرك سريع بعد ضجة كبرى على واقعة نشر عمل روائي -إب
...
-
كيف تناول الشعراء أحداث الهجرة النبوية في قصائدهم؟
-
افتتاح التدريب العملي لطلاب الجامعات الروسية الدارسين باللغة
...
المزيد.....
-
الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة
/ محمد الهلالي
-
أسواق الحقيقة
/ محمد الهلالي
-
نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح
...
/ روباش عليمة
-
خواطر الشيطان
/ عدنان رضوان
-
إتقان الذات
/ عدنان رضوان
-
الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد
...
/ الويزة جبابلية
-
تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً
/ عبدالستار عبد ثابت البيضاني
-
الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم
...
/ محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
-
سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان
/ ريتا عودة
-
أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة
/ ريتا عودة
المزيد.....
|