أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد عدنان - عبد الحميد الراضي















المزيد.....

عبد الحميد الراضي


سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)


الحوار المتمدن-العدد: 3090 - 2010 / 8 / 10 - 11:30
المحور: الادب والفن
    






لعلك لا تعرفه، ولعّل اسمه لم يقع منك على مسمع، بل لعل من طلبة كلية الآداب ببغداد في الستينيات والسبعينيات من لم يعرفه، ولعل من سمع باسمه ورأى رسمه منهم لم يعرف قدره، فقد كان خفيض الصوت، متئد الحركة، مطرقاً كأنهُ مُفكر في شيء بين يديه. لا يلابس الآخرين إلا أهون ملابسة، تراه فتقرأ أمارات الناسك عليه فأنى لاسمه أن يذيع، وأنّى لك أن تعرفه على الوجه الذي هو له، لم يكن اسمه مما يقتحم الأسماع، ولم يكن شخصه ممن يلج المحافل أو يخالط المجتمعات ،كان رضي النفس، هادئ المجلس قد شفت ملامحه حتى بان صفاء نفسه، فإذا بها غنية بالذي عندها زاهدة بالذي عند الآخرين، ومن كانت نفسه غنية بما لديها زاهدة بما عند غيرها استقام أمره في السر والعلانية، وصلح ما بينه وبين الناس فلا غرو أن يُلقى بالتبجيل في محيط حركته الضيق.
كان أول ما رأيته في ضحى يوم من خريف 1975م، دخل قاعة الدرس بخطو وئيد، قد انحنى ظهره شيئاً، وأبيضَّ ما بقي من شعره كله، وعرفنا أنه الراضي لان جدول الدروس قد وضع اسمه بإزاء درس (العروض) ولم نكن من قبل قد سمعنا باسمه أو رأينا رسمه. وإذا كان صاحبي يزعم لنفسه إطلاعاً واسعاً على الكتب والمجلات والجرائد فانه لم يرَ اسم الراضي على أي منها!
شرع في مقدمات الدرس، وفي اولياته بألفاظ خفيضةٍ تكاد لا تبلغ كلَّ الأسماع، وإذ شارف الدرس نهايته قال: سيوزع عليكم كتاب: (شرح تحفة الخليل) فسأله أحد الطلبة: من مؤلفه؟ أجاب ستجده مكتوباً عليه!... لم يكن في الفاظه فضول، كان يجعل اللفظ على قدر المعنى فلا يزيد إذا رأى أن المعنى قد تم الإلماح إليه.
لم نكن ندري من مؤلف الكتاب! ولم نكن نعلم ما قيمته! وأسرع إلى أذهاننا أنه واحد من الكتب المنهجية التي تفتقد الأصالة في أغلبها، ولعل منا من لم يقف عند اسم الكتاب، ولم يُعنَ به، فإذا كان أوان توزيع الكتب وجدنا (شرح تحفة الخليل) من تأليف عبد الحميد الراضي، ورحت تقرأهُ فإذا به يشرح أرجوزة في علم العروض والقافية سماها ناظمها السيد محمد حسين القزويني (تحفة الخليل). تقرأ الكتاب على مهل فصلاً فصلاً وتصل بينه وبين صاحبه فإذا هما سواء في الرصانة وتماسك المعنى والمبنى. وإذا كان العروض علماً فانه علم وثيق الصلة بالفن، وإذا وجد من يدرّسه على انّه حركات وسكنات انتظمت في نماذج: (فعولن، مفاعيلن..) فان الراضي يدرّس الحركات والسكنات موصولة بالنفس إذ يختار من الشعر أجمله وأعذبه وأوصله بأعماق النفس، وهل ننسى إذ بلغ الدرس ضرب الطويل المحذوف فراح يشدو:
فديتـك أعدائي كثيـر وشقتي بعيد وأشيـاعي إليك قليلُ
وكنت إذا ما جئت جئـت بعلة فأفنيتُ علاّتي فكيف أقول
فما كلّ يومٍ لي بأرضك حاجة ولا كلّ يومٍ لي إليـك رسولُ

أقول يشدو متذوقاً معجباً مأخوذاً بنصاعة اللفظ ورهافة المعنى فيسري الذي فيه إلى طلبته فلا ينسون ضرب الطويل المحذوف، إذ كان يحيي الشعر بقراءته ويبعث فيه روحاً متوهجاً لا ينطفئ يلتقي في أمثلته قديم الشعر بحديثه على عناصر ترشّحه إلى النفاذ سريعاً في النفوس، وإذ يُنشد الشعر فكأنه يستخرج الخبيء من معناه ويسلك بك دروباً إلى لبّه.
ويقرأ من الكامل أبياتاً يريد تقطيعها:
يا ذابح العنقود خضّب كفــه بــدمائه بوركت من سفّـاح
من كان من دنياه ينفض راحه فأنا على دنياي أقبض راحـي
إني أفدّي شمس كلّ أصيــلةٍ حذر المغيب بألف شمس صباح
ويعيدها مترنماً فليس الغاية التقطيع وحده، وإنما التقطيع وتذوق الشعر. وتخرج من درسه في العروض بزاد وفير في البحور وعللها وزحافاتها والقافية وحروفها وحركاتها، وبزاد آخر لا يقل وفرة في تذوق الشعر والانسجام معه.
- أكان عروضياً فقط؟
- كان يدرّس في بعض السنين مادة (فقه اللغة) في الصف الرابع، ولم أكن ممن درسهم هذه المادة، لكنّ سعةَ علمه فيها على نهجه من الهدوء والرصانة والأصالة المتماسكة شيء يعرفه زملاؤه ويشهدون له بالمكانة العليّة في درس اللهجات وأصول العربية القديمة، قال أحد أساتذة الكلية في مجلس مناقشة أطروحة دكتوراه: إني لأعجبُ لهؤلاء الطلبة يشرّقون ويغرّبون وقريب منهم عالم جليل قليل النظير كعبد الحميد الراضي لا يفيدون منه. وإذ دل القول على ما للراضي من علم أصيل رصين فأنه يدل أيضاً على ملمح في شخصيته ينأى بها عن مساقط الضوء ويتجه إلى الظلال الهادئة.
وتسأل عما نال من شهادات هيأته لهذا العلم وبنت هذه الشخصية، ولا تعجب حين يأتيك الجواب إن أعلى شهاداته دبلوم نالها من دار العلوم في القاهرة. لم يكن علمه علم شهادة، بل كان علم من أقبل على العربية محبا فأستوعب أصولها وفروعها ونفذ إلى دقائقها.
أحبَّ من الشعر الصادق الجميل، وأحبَّ من الشعراء من صدّق فعلُه قولَه، ومن سار في حياته على مبدأ ارتضاه، ووجد في عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر شاعراً فارساً يأبى الضيم فشرع يجمع أشعاره ويكتب في سيرته، وينشر ذلك تباعاً في مجلة (البلاغ) ثم يصدر ذلك كله في كتاب.
ويقول صاحبي إن في إهاب هذا الرجل شاعراً مختبئاً وراء العالم. وأقول له إنه إن لم يكن شاعر لفظٍ موزون فأنه شاعر روح شفيف، ويأتيك الخبر على أنه شاعر روح وشاعر لفظ موزون أيضاً فلقد كتب مسرحية شعرية عن ثورة العشرين نشرها في الثلاثينيات!! فتضيف إلى مزاياه: أنه شاعر يتخذ الشعر للإعراب عن موقف وطني وإنساني وأنه يصطنع أشكالاً من الشعر جديدة فلم يكن النزوع نحو الشعر المسرحي مألوفاً في ثلاثينيات العراق.
جوانب كثيرة تنطوي تحت هذا الإهاب الناحل وتلتقي يمدّ بعضها بعضاً بالغذاء والضياء وكلها ينهض على قاعدة صحيحة من التوازن في المقادير والاعتدال في الموازين.
علم رصين وسلوك معتدل يأخذ فيه كلُّ شيءٍ حقّه، ولا تجور ناحية على أخرى، وللتروّض نصيب في مزاجه المتزن فلقد كان يُرى يخرج من داره في الكرادة ويتخذ طريقه على شارع أبي نواس ينقل الخطو تحت ظلال أشجاره الوارفة مستغرقاً في نفسه حتى يبلغ نهاية الشارع فيستدير إلى اليمين ويدخل شارع السعدون ومبتغاه المكتبات التي على ضفته اليمنى، يكاد يكون ذلك نهجه في عصر كل يوم إلا إذا طرأ طارئ، إنها رياضة ومتعة تُختتم بالوقوف على كتاب في مكتبة.
كانت أشباح المغيب تدنو منه، وكان يشاغلها بالدرس والتأليف وتذوق الشعر والاستزادة من الفضائل في صفاء النفس وسموها وحسن الصحبة وادامة المودّات، ولكنّ زحف المغيب شيء لا يرد، وداعيته لا بد أن تجاب فيتم الأمر، ويستحكم الغياب ويرحل عبد الحميد الراضي، يرحل جسده، وتبقى مآثر عطرة.



#سعيد_عدنان (هاشتاغ)       Saeed_Adnan#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرتضى فرج الله
- عبد الإله أحمد
- عبد الأمير الورد
- مهدي المخزومي 1917-1993
- محمد يونس
- صلاح خالص
- عناد غزوان في موقف له
- رشدي العامل(1934-1990) ودربه الحجري


المزيد.....




- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد عدنان - عبد الحميد الراضي