أمين أحمد ثابت
الحوار المتمدن-العدد: 3084 - 2010 / 8 / 4 - 21:20
المحور:
الادب والفن
- لا .. لا .. النجدة .. النجدة ..
تحرك متوتر مشوب بالتشنجات . . يكون الغطاء قد انزاح عن جسد أحمد وسقط على الأرض , والمرقد تظهر عليه التموجات والتجعدات القطينة متكومة في مواضع مختلفة منه ..
نفس الكابوس يتكرر طوال السنوات العشر الأخيرة .. لم تتغير فيه أي من المشاهد الكابوسية المرعبة ..
لم يكن قد تناول شيئاً حتى يتسبب له مثل هذا الكابوس المرعب , فاليوم كان روتينياً لم يطرأ عليه جديد في حياته ، لكنه قبل خلوده للنوم فوجئ بتقلص يسري في كيانه , يزداد كلما ازداد انغماساً في الدوامة التي ليس لها منتهى، والليلة كانت قاتمة السواد , وصفير الرياح كان من التداخل بأن يسمع كأنغام شؤم على إيقاعات فحيح الأفاعي وصرير الحشرات ..
أمسية طالت فيها اليقظة – مع أن البيت لايقع في منطقة بحرية - تداخلت فيها أصوات الموج المتضارب مع هدير العاصفة الهوجاء , التي تبدو كما لو أنها قادمة من وراء الغيوم الملبدة بالسواد ...
أغلق النافذة بعد ارتعاشة سرت في كيانه - ثمة إحساس مبهم يكبل النفس , كما لو كان هناك غول برداء شديد السواد يغلق المساحة ظلمة . . يشرع بغرس أظافره الحادة في عنقه ..
لم يحدث له مثل هذا من قبل ، فتنفساته لم تقف إضطراباتها , ولم تهدأ أصوات العاصفة . . المتسللة من خلف زجاج النافذة المغلقة ..
لم ينس هيئة الشبح الأسود المتحفز لتطويق عنقه - صورة تأبى أن تغادر مخيلته – وجو الغرفة يعكس صمتاً غامضاً يناقض صوت العاصفة – يمد قدميه ويلتحف الغطاء . . .
لحظات ليست بالطويلة عبرت منذ أن اغمض عينيه – زمن لم يدخل في غفوته بعد - إذا بالغرفة تضيق تدريجيا عليه . . قليلاً .. قليلاً ، لم يشعر خلالها بأي شيء سوى بسريره الذي ينطرح عليه قد أخذ بالدوران سريعاً ويغوص في دوامة سحيقة كانت قد انفتحت فجأة في أعلى سقف الغرفة , جاذبة إلى باطنها كل ما هو متناثر في الغرفة .
وجد نفسه في منطقة شبه خالية بخط سير ترابي شديد الضيق ، بالكاد يمر أشخاص بعدد أقل من أصابع اليد من هذا المكان .. لا أكثر ..
رعب يدخل في النفس - شيء ما . . يخيف الناس من عبور هذا المكان ؛ خاصة عند لحظات الاختفاء الأخير لقرص الشمس الملتهب خلف الحقول البعيدة ...
سر يكتنف هذه البقعة من العالم ، رغم ذلك لم يحاول إنسانا قط اكتشاف هذا المكان , فالأصوات القادمة من الداخل يقشعر لها البدن وصور العنكبوت العملاق قد نسج شباكه على مدى واسع من النوافذ الكبيرة المفتقرة لوجود أية أطلال لأعمدة خشبية كانت تؤطر نوافذاً تُغلق سابقاً ..
الرؤية متزاحمة , لم تترك شرانق العنكبوت المتعانقة مع الظلام حتى ولا موضعاً إلا وقد نسجت الشباك فيه - خليط من الرعب الليلي الموشى بنعيق البوم وكائنات عملاقة غير واضحة المعالم ..
عالم مخيف يغرق الإنسان فيه - كانت عليقات بقايا النوافذ المحروسة بجيش العناكب العملاقة .. أشبه ببوابات سحرية يدخل منها إلى عالم الجن والأساطير ! ! . .
بهو المبنى المهجور مطبوع بوجوم صمت مخيف الملامح يغرق بحركات ضاجة ضوضائية . . غير منتظمة .. لأشباح تتحرك بانسياب غامض على إيقاعات مبهمة , تستطيل معها أجسامها وتتقلص بهيئات مختلفة دون شكل مميز , تتغاير أشكالها وفق الأوضاع المختلفة التي تقدم عليها ..
موت بطيء لأي إلى هذا العالم ، تتسمر أقدامه في البدء من هول المفاجأة ، على إثره يتثلج العضو المتسمر . . يتحول إلى قطعة صخرية جامدة ، وتنتقل العدوى بعدها إلى بقية أجزاء الجسم . . تصل بعد بطء مثقل إلى أن تصبح الحركة منعدمة لجسد متيبس نهارا . . وليلا يترنح كظلال هلامي – ذلك الجسد - خارج طبيعته البشرية - شيء يصعب على المرء فهمه ، فالحركة التماوجية للجسم المتصلب نهارا تبدأ رقصتها الغريبة على أنغام صراخ وعويل الأشباح المخيفة ..
***
وجد نفسه دمية شبحية تساوى فيها انعدام الوزن والروح , تتلقفها صغار الأشباح . . كلما أحست تزايد بكاء هذه الدمى المتحولة من اثر إنساني . . تزداد قهقهاتها . . حتى يرتج المكان الغامض . . فتتساقط حجارته الأطلالية المتناثرة في البهو العتيق ، مشكلة للمكان احساس كونه أشبه بسكن ترابي قذر لصغار البوم – بصورته الميكرونية - تلهو فيه الأشباح - تزداد قطرات العرق في تساقطها بين خصلات شعر أحمد . . كسيول متدفقة تنحت لها مجار ٍ منتظمة على جبهته ، فالضوضاء وهلاميات الأجسام المرعبة المتداخلة بصرصرة الريح المحمل بتنغيمات حشرات وطيور الليل الهائمة , تزداد وقعاً مروعا . . ً يغوص في أحشائها الجسد البشري المتحول في ليل هذا المكان ..
لم تعط الوسادة أي نتيجة لإسكات عقله الباطن ، فعملها لم يتعدى محاولة لقطع الأنفاس . . ومحو الاتصال بالعالم الخارجي . .
***
قميص النوم يظهر أعلاه غارقا بالعرق , وأسفله تتكدس فيه العطفات المجعدة ، التي تبدو كما لو أنها خرجت لتوها مهزومة من إثر صراع عنيف مع الجسد المنطرح على فرش القطن العتيق , والذي عبر عن انتصاره بتحقير هذا الخصم بالتبول عليه . .
- لا .. لا .. لا ......... ( أحمد صارخا )
تنغمس العين في تداخل حلقات الابتلاع - كان الاختناق يتزايد بتزايد إحكام هذه الدوائر المتداخلة بجنون على النفس . . فترميها جثة هامدة ..
***
ظلام مطبق , وعمق ليس له حدود , تتدافع خلاله التنفسات المجهضة , وتتوالى ضربات قلبه المتسارعة في الهروب من هذه الدوامة اللامتناهية ..
كان يعرف انه لم يتجرأ إنسان على المرور من هذا المكان بعد الخامسة مساءاً – منطقة معزولة عن العالم _ لكنه اضطر أن يعبر هذه البقعة , فالوقت لم يزف موعده من ناحية , ومن ناحية أخرى كان قد رأى إنساناً آخر يسبقه المسير على بعد ثلاثين متراً ..
أسرع الخطو . . حتى كادت قدماه ألاّ تلمسان الأرض , فالرعب قد صور له بأعاصير رعدية , وبروق مضيئة تشع في السواد الحالك , والسحب تشكلت بمجسمات داكنة يقشعر لها البدن ، تسن مخالبها . . تضحك . . تتراقص وتصادم بعضها بعضا . . بمجرد وصول المرء إلى السور الخارجي للمبنى المهجور الواقع على امتداد الطريق الترابي – سرعان ماكان قد ما تلاشى شبح الإنسان الذي سبقه ، لم يخلف عنه غير سراب . . يظهر بصورة معكوسة عن العقل الباطن . .
كان السير وقوفاً . . متصلبا من هول قفرة المكان وماينطبع في الذاكرة من متكرر قول العامة حوله ، ودقات قلبه المتسارعة كأصوات تصدر عن عالم آخر تحجر كل كيانه . . بعد دبيب أصوات النمل التي بدأت مسيرتها التظاهرية من أخمص قدميه . . حتى ملأت تجويف جمجمته ..
حالة من التبلد تفقد الأعضاء حركتها لتصبح ساكنة بعد تفسخ خلاياه المخية ..
- لا .. لا .. النجدة .. النجدة ..
مؤامرة افتراس تظهر ممزوجة بهبوب رياح اقتلاعية محملة بغابة ترابية مهووسة تديرعقارب الزمن . . فيدخل المغيب ..
لم يشعر إلا وجسده يرتفع عالياً بحركة آلية بطيئة – منعدم الوزن – يقاوم الصعود . . إلا أن يداً خفية كانت تدفعه من الأرض صوب النوافذ المظلمة , المنسوجة بشبكة مكسوة بالغبرة , تقف على أطرافها بعض البوم , التي كانت ترسل أصواتها فتدخل الرعب في النفس . .
هلع وجنون هيستيري ينتاباه – يتكاثر العرق في تصببه . . ممتزجاً بالقروح والدمامل المنبتة حديثاً , والتي أخذت تغزو الجوانب المختلفة من جسمه ..
صورة للمسخ الإنسان – كان قلبه يدق بدون حراك - موت لم يكن كفنه غير طبقات الهواء المعفر بذرات التراب المتطاير , والغيوم الشبحية قد قامت على غسل هذا الجسد الفاني المعلق من أثر انعدام الوزن ..
فترة طويلة مرت على التحليق في مسيرته الهوائية , حتى يصل إلى النافذة المتحجرة الأثر – رغم قصر ارتفاع هذه النوافذ عن الأرض ببضع مترات ، إلا أن الوقت بدا كدهر زاحف تم فيه الطيران في الهواء ..
كان الظلام دامساً . . تختلط فيه الأصوات . . والحركات العنيفة . . بما تهتز له الأبدان - يحاول الابتعاد - لم يقو , لم يعد قادرا على التحكم بجسده . . أصبح يخضع لقوانين الظواهر الشبحية ..
يستمر البنيان البشري المتخشب . . معلقاً على بوابة نافذة من النوافذ الحجرية العتيقة الأثر . . بين انعدام الوزن , وعدم القدرة على الخروج أو السقوط داخل هذا الظلام كسبيل للانتحار ..
لعبة التعذيب لم تزل , يعلق الجسد الإنسان في النهار منتصباً كتمثال لآلهة قديمة فقدت روحها – ترى الناس يسيرون فلا يستطيع أن يستنجد – لاأحدا يسمع صوتا له ، لايراه أي امرء إلا تمثالا حجريا قديم – ماأن يرخي الليل ثوبه القاتم وعم ارجاء المبنى المهجور . . تدب الحياة فيه في حالة من انعدام الوزن , فيعلق مترنحا وسط ارتفاع بهـو وكر الأشباح ..
***
صرخة رعب مصحوبة بسلسلة من التشنجات – يصحو على أثرها وقد ظهرت الارتجافات الشديدة عليه ..
دقائق من الاضطراب المتصارع , تتخبط قطرات الدمع الباردة مع حرارة الجسد المرتفعة وضربات القلب المتسارعة - يمرر يديه على ثوبه – لم تكن هناك أية قطعة منه إلا وقد ابتلت بسيل من العرق الملحي المنسكب بجنون . .
يرفع غطاءه من الأرض , يلتحف به .. في معاودة للإستلقاء – كانتالأركان الإسمنتية لغرفة نومه تبث شعورا بالوحشة ، فالجزع يلاحق جسده المنهك بارتعاشات تتماهى مع دمع منفلت عنوة من طرف عينيه المغمضتين ، وشهقات مكتومة تدركها حين ترى عزيزا في نزعه الأخير – يدخل بعدها أحمد في غيبوبة نوم طويل ..
#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟