|
مجدي أحمد علي مُخرج اللقطات الملهمة
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 3086 - 2010 / 8 / 6 - 08:59
المحور:
الادب والفن
في وعينا الجمعيّ، ثمة منطقةٌ مطمئنة لا يقربُها الشكُّ. منطقة مغلقةٌ على ثوابتَ سَنّها ناسٌ عاشوا قبلنا في ظرفٍ مختلف، لا يشبه ظرفنا، وبمُدخلاتٍ معرفية وثقافية ومجتمعية تختلف عن مُدخلاتنا. ورثنا تلك الثوابت وأسميناها "أعرافًا". ودون كثير تأمّل، أو قليل، آمنّا بها واتّبعناها، ورحنا نقاتل من يهجرها، أو يستخفّ بها. فوقرتْ في قلوبنا ونامت في وعينا ملء جفونها. تلك المنطقة الخاملة من الوعي، أحبُّ أن أسميها "المنطقة العمياء" في وعي المجتمع. وتضمُّ فيما تضم كلَّ المسكوت عنه من قضايا إشكالية يتجنّب الناسُ مناقشتها، إما خجلا، أو خوفًا، أو ظنًّا منهم أنها أمورٌ نوقشت من قديم وحُسمَت نهائيًّا، وانتهى الأمر. تعمل معظم الأفلام العربية، قديمُها وحديثها، على دغدغة تلك المنطقة والتربيت عليها، والغِناء لها، فتغرقُ في مزيد من النوم الكهفيّ، ويتراكم خمولها، ويتوغلُ عماؤها. بينما أفلام أخرى، قليلة، تحاول إزعاج تلك "المنطقة العمياء" وإقلاق نومها، بل وأحيانًا تضرب على رأسها بالعصا، فتتقلقل، وتتمطّى، وتصحو، ثم تثب فزِعةً نحو منطقة الضوء، فيراها الوعي، ويتأملها، وربما يعيد النظر فيها، ويغيّر بها ما لم يكن قابلا للتغيير والنقاش. على رأس أصحاب تلك المدرسة الفنية "المزعجة"، يقف "مجدي أحمد علي"، المخرج الموهوب. على أن تميّز ذلك المخرج لا يتأتى، وحسب، من امتلاكه تلك العصا الحرون التي يضرب بها رأسَ الثوابت، بل كذلك عبر عينيه اللتين ترسمان بالكاميرا لقطاتٍ ملهمةً فريدة لا تبرح مخيال المُشاهِد، ولو بعد سنوات. في فيلم "أسرار البنات"، لا ننسى مشهد ياسمين، الصَّبية الجميلة الداخلة لتوّها في طور المراهقة، وهي تبسط الوشاحَ الحريريّ الخفيف بلون البرتقال على الفضاء، كأنما تبسطه فوق أحلامها الصغيرة. أحلامُ فتاةٍ شوَّشتها الأعرافُ والمحظوراتُ الدينية، الصحيحُ منها والخاطئ، فأمسى العالمُ أمام عينيها مُربِكًا مُخيفًا وغامضًا. (سيتحول الوشاحُ إلى اللون القاتم حين تفقد البنتُ عذريتها ذات غفلة). هي الحَيرةُ نفسُها التي عاينتها المرأةُ الناضجةُ فوزية، في فيلم "خلطة فوزية"، التي تزوجت مراتٍ خمسًا، ومع ذلك لم تصل بعد لمفهوم واضح يفسِّر لغزَ الحياة المعقد. فلجأ عقلها البسيط إلى حلٍّ مؤقت ومريح. هو قبول الحياة، كما هي، ببساطة مفرطة، وتعطيل العقل عن التفكير، حتى إشعار آخر. (هذا الإشعار الآخر سيطرق عقلها حين يموت ولدُها الكسيح تحت عجلات سيارة، فتخرج عن بساطتها وتدخل مع الله في سجال متسائِل معاتِب تحت شجرة التوت، التي كانت تقطف من ثمرها لابنها. تهزُّ الشجرةَ بعنف فيتساقط التوتُ، رغم غياب الولد!). تقرّب حبّات المشمش والفراولة إلى أنفها، قبل أن تطهوها في خلطة المربى. تستنشق رحيق الثمر بعمق تحت ضوء النافذة، علّ الثمرةَ (الأنثى)، تنبئ الأنثى البشريةَ، المرأة، بما تجهل من سرّ الوجود. مشهد العريس وهو يلوّح للمدعوين بيده مثل زعيم سياسي. اللحظة الوحيدة التي ينعم فيها البسطاءُ بأن يكونوا محطّ الأنظار ومحور الاحتفاء والهتاف. ثم ينالون، لقاء لحظة البهجة الشحيحة تلك، ما يناله الحكّام، لقاء آثامهم في حق مواطنيهم: رصاصةً. ثم المشهد العمدة في الفيلم ذاته: الولد المشلول على كرسي المعوقين، يدفعه الأولاد في لهوهم فيطير فوق سماء مصر، يتأمل العالم من علٍ ونظرة النشوة تملأ عينيه البريئتين، قبل أن يسقط فتدهمه السيارة، ويتكسرُ حلمُ الأم بين نثار دمائه. ثم مشهد الختام؛ حين يجتمع كل أزواج فوزية السابقين في محاولة لتبديد حزنها. يبتنون حمّامًا خاصًّا للمرأة الثكلى، التي لم تَزِد أحلامُها عن التحمُّم بعيدًا عن العيون المتطفلة في الحمام العام. ثم يجمع كل رجل قطعةً من مرايا مكسورة في نفايات القمامة، ويشيدون مسطح مرآة ضخمة، سوف تجمع صورَهم المنعكسة جميعهم مع فوزية، في مشهد محبة مصرية فريدة. تلك المحبة التي يتقن البسطاء صنعها بإمكاناتهم الشحيحة، وقلوبهم الغنية. وعودٌ إلى فيلم "أسرار البنات"، نتوقف عند مشهد أم ياسمين، وهي تضعُ خاتم زواجها بين أسنانها، لتضيّق قُطره كيما يناسب إصبع الابنة، التي أنجبت سِفاحًا، لكي توهم الناس بأنها زوجة. كأنما تُضيّق بأسنانها دائرة الأحلام لتناسب عالم البنت الصغيرة التي وقعت في الخطيئة. ثم مشهد الأب وهو يسقط على حافة حمام السباحة، فيما الصبيةُ تنظر لأبيها بِحَيرة. الأب الذي أخفق في تحقيق حلمها البريء (أن تلبس مايوه لتسبح مع ابنة خالتها التي ترعرعت بين أبوين مثقفين يدركان الحياة بمفهومها المعتدل الحر). ثم مشهد ياسمين وهي تتأمل وليدها الذي جاء في غفلة من الزمن، عبر صندوق الحضّانة الزجاجي، فيظهر وجهه جوار وجهها، المنعكس على سطح الزجاج، وجهان لطفلين، إحداهما، للمفارقة، أمٌّ للآخر! ثم مشهد الختام الفانتازي الفاتن، حين تجتمع حول سرير الفتاة كل المتناقضات التي عذّبتها: الطبيب المتخلِّف الذي ختنها رغم أنفها وهي شابّة، الممرضات الثرثارات، المأذون الذي زوّجها وسط دموعها ودموع أهلها، الزغاريد المصطنعة، العمّ الظلاميّ الذي أجبر طفلاته على الحجاب، الخالة المستنيرة التي راحت جهودها هباءً، الصبايا الحائرات بين التقليد والمعاصرة، وفي الأخير، حوض الأسماك الملونة، تلك الكائنات الراقصة، التي تمتلك من الحرية أضعاف ما يمتلك البشر.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عسلٌ أسود، مرآةُ ميدوزا
-
البنت المصرية سعاد حسني
-
مسرحية -أوديب وشفيقة-
-
مسرحية -العميان--أشعرُ بالقمر فوق يدي
-
جبل راشمور في الشيخ زايد
-
متشوّقون للجمال
-
عقيدتُك ليست تعنيني
-
محمود سلطان، الإعلاميُّ الجميل
-
تثقيفُ البسطاء في ثقافة الجيزة
-
صديقي المبدع، بهيج إسماعيل
-
عبدةُ الزهور الجميلة
-
الثالثُ المرفوع، وغير المرفوع
-
لأن معي أتعاب المحامي
-
أزمة الإنسان واحدةٌ فوق المكان والزمان
-
درسُ سلماوي الصعب!
-
يوميات قبطي، واحد م البلد دي
-
مندور، ابنُ الزمن الجميل
-
كتابٌ مخيف من ترجمة طلعت الشايب
-
فاروق الباز، أيها المصريّ
-
أن ترسمَ كطفل
المزيد.....
-
ياسمين عبدالعزيز تعود للسينما بفيلم -زوجة رجل مش مهم- مع أكر
...
-
قصص سينمائية حقيقية.. كيف تتطاير أجساد أهالي غزة بصواريخ الا
...
-
خطوات تثبيت تردد قناة cn بالعربية الجديد على نايل سات 2025 “
...
-
عروض الأفلام الخاصة مهرجان للأزياء والترف، وليس للتقييم
-
رحيل الفنان جواد محسن صاحب -قطار العمر-
-
رحيل الفنانة الأردنية رناد ثلجي عن 36 عاما بعد صراع مع السرط
...
-
-دحول الصمان-.. هيئة التراث السعودية تعلن عن اكتشاف عالي الأ
...
-
قيعان المحيطات تختزن تراثا ثقافيا تهدده الأنشطة التعدينية
-
هل اللغة العربية في خطر؟
-
قبل دقائق من عرضه.. منع فيلم -استنساخ- يثير الجدل
المزيد.....
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
المزيد.....
|