|
شجون الذات والوطن ... في ديوان - شجون الدار البيضاء - للشاعرالمغربي عبد اللطيف اللعبي
عبد العاطي جميل
الحوار المتمدن-العدد: 3075 - 2010 / 7 / 26 - 03:10
المحور:
الادب والفن
على سبيل التقديم
عن دار توبقال للنشر ، وضمن سلسلة نصوص أدبية . صدر للشاعرالمغربي عبد اللطيف اللعبي ديوان شعروسم عنوانه ب " شجون الدار البيضاء " . وقد صمم لوحة الغلاف الفنان صخرفرزات ، يقع الديوان في 93 صفحة . وقد صدر في الأصل باللغة الفرنسية .وأنجزت ترجمته إلى العربية الشاعرة عائشة أرناؤوط . وقد قسم الشاعر الديوان إلى قسمين : عنون القسم الأول ب " شجون الدار البيضاء " .ويمتد من الصفحة 11 إلى الصفحة 51 ، وكتب بين البيضاء و الرباط عام 1995 . استهله بإهداء " إلى ذكرى أبي " . أما القسم الثاني الممتد من الصفحة 53 إلى الصفحة 91 ، فعنونه ب " أي منفى منفاك ؟ " . كتبه في بواسي سان ليجيه عام 1995 أيضا . لماذا اختيار تأملات ، أو قراءة انطباعية في ديوان " شجون الدار البيضاء " للشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي ؟ .. اللغة الواصفة النقدية مهما بلغت من دقة في الملاحظة والتحليل والتوضيح ، لا يمكنها أن تخترق اللغة الشعرية . ولا يمكنها أن تنقل شعرية اللغة ذاتها . فاللغة الشعرية وحدها القادرة على قول الصورة الشعرية وإحساس الشاعر ، لأنها تظل مفتوحة على قراءات متعددة وتأويلات محتملة ، تختلف باختلاف القارئ ذاته . أما لغة القارئ الناقد فتظل لغة واحدة تعكس رأي صاحبها ومنظوره الذي لا يلزم أحدا . من هذا المنظور والتصور ارتأينا أن نعضد لغتنا الانطباعية والواصفة بشواهد شعرية دالة لتعبر عن ذاتها دونما وساطة . فلا يعبر عن الشعر إلا الشعر ذاته ، باعتباره بنية مكتفية بذاتها .. وبناء عليه كان اختيارنا للقراءة العاشقة غير الصارمة والمفتوحة على التأويل الشعري و تعدد القراءات والمقاربات ..
شعرية الطفولة طفولة الشاعر
إن القسمين ـ القصيدتان الطويلتان ـ كتبا في فضاءين متباينين . الأول داخلي ، بين البيضاء والرباط . والثاني خارجي ، ب " بواسي سان ليجيه " . لكنهما يحملان نفسا شعريا واحدا . ورؤية للوجود واحدة . وشعورا إزاء الأشياء والذات والآخرين واحدا أيضا . وكأن القصيدتين معا قصيدة واحدة . وإن كان شكل كل قصيدة يوهم أو يوحي أن القصيدة الواحدة تتشكل بدورها من قصائد صغرى ، أو شذرات ، أو مقاطع شعرية مكتملة البنية والدلالة ، متميزة في تفضيئها ، وتوزيعها على البياض بكمية متفاوتة . " إن إهداء الشاعر عبد اللطيف اللعبي القصيدة الأولى : " شجون الدار البيضاء " إلى ذكرى أبي " . له أكثر من دلالة وإحالة . هذه التي تتضح ـ ربما ـ مع توالي قراءة مقطعات القصيدة التي تجنح بالقراء نحوالإحساس بالضياع إذ تحيل على زمن الطفولة ، حيث الأبوة والأمومة دفء الشاعر الذي لا يعوض .يقول الشاعر :
أماه أناديك ولست إلا رمادا علي أن أبوح إليك : أنا طفلك الأبدي " أن أكبر " ذلك فوق طاقتي . ص . 19 .
هكذا يرفع الشاعر صوته ليبوح للموت من قلب الحاضر الآني المكلوم بالعجز عن التحول ، وتجاوز الذاكرة الماضوية . " ذاكرة الطفولة " ، فيظل الشاعر طفلا يصاحبه هذا الإحساس ب " الدونية " يأسره ولا يتخطاه ، باحثا عن موطن للأمان والاستقرار ، فالبلدان تتشابه في العنف والمدن في القساوة لذا ارتبط الشاعر بالعودة إلى الماضي لعله يجد ملاذه ويحقق بغيته يقول :
في ضوضاء مدينة بلا روح أتعلم مهنة الرجوع الشاقة ليس لي سوى يدك في جيبي الممزق تعيد الدفء إلى يدي كأن الصيف اختلط بالشتاء أخبريني : أين ولى موطن صبانا . ص . 11
ويظل الصراع مشتعلا ، محتدا مع الزمن . متولدا عن شعور الشاعر بالانحباس والتوقف كما الماء الراكد حين لا يجري يأسن . فكل الأشياء حوله تكبر وتترعرع ، ويبقى الشاعر في حبسه مشدودا . مقصوص الجناح ، لا يقوى على الانطلاق والتغير . يظل ساكنا جامدا يرى مشدوها ما يحدث . يقول :
النبتة التي وضعتها في الشرفة منذ أسبوع تتنامى بينما أظل صغيرا ص . 62
شعرية الغياب والذات الكاتبة
إن موطن الشاعر هو يوتوبياه ، لأنه موطن الصداقة والتلقائية والمحبة .. وكلما تقدم به العمر ، ازداد خوفه العارم وتوجسه الحارق على ضياع يوتوبياه ، يقول :
ومرة أخرى أخاف أرتعد خوفا من فقدان صديق قديم ص . 12
فالفقدان والخوف والغياب من الموضوعات المشكلة للنواة الدلالية المهيمنة في الديوان . ومسند الشاعر في التعبير عن مغالق الذات الكليمة ، وتأجج مضايقها وتلازم ضياعها . يقول الشاعر :
يلازمني الضياع في كل عمر أدركه ص . 13
ويمتد هذا الشعور القاتل إلى عزاء الشاعر الأخير ونعني به الكتابة . يقول :
أفكاري بلا ظل بلا رائحة لم يعد هنالك سوى رأسي في مغارة الورق هذه . ص . 15
فحتى الفراغ والبياض يرهب ، فتتسع فجوة الشك في جدوى الكتابة ، وقدرتها على منح الشاعر الدفء والحب اللا زمين ، ولهذا يقول :
ترهبني الصفحات الكبيرة أشطرها نصفين لأكتب أنصاف قصائد . ص .21
ويزداد الظن حين يستفهم الشاعر استفهام حيرة وتردد عن عشقه المزمن واللامحدود للكتابة قائلا :
الكلمات التي أحبها أ تحبني ؟ .. ص . 21
وحين يشتد الظن ، ويطال القول ، يراهن الشاعر على الفعل . الفعل وحده القادر على التغيير والتحول والتجدد ، وضخ الدماء النقية في عروق الحياة ، وإعطائه مشروعية وحق الوجود ، وتحقيق الكينونة المفتقدة :
الكلمات اللامجدية تجعلنا نتوق إلى الأفعال . ص .25
هكذا يظل الشاعر تواقا إلى البحث عن مبرر للوجود ، وعن نكهة خاصة ضائعة . فيظل مصرا في بحثه عن لون للكتابة ، كتابة حلمه ، سره ، و عشقه . فيقول :
يبتكر الشاعر وردة لكنه لا يعرف أي لون يعطيها ما هو لون السر . ؟ .. ص . 29
قلق الشعر وبؤسه يتشظى عبر صفحات الديوان صورة صورة ، ويتجلى في صوره الجميلة المتمايزة ، المعلنة عشق الشاعر وألقه وتعلقه بها ، لأنه خصها بعنايته المعهودة ، ولم لا وهي وسيلة سكينته وصفائه وربما حتى سعادته ؟ ...
تشظي الشعر من تشظي الذات الشاعرة
تتردد ملفوظة الذات عبر المسار الشعري في الديوان من استهلاله بالإهداء : إلى ذكرى أبي . ص . 7 . مرورا بأول مقطع شعري :
في ضوضاء مدينة بلا روح أتعلم مهنة الرجوع الشاقة . ص . 11
إلى آخر مقطع شعري ، يختم به الديوان :
ما هو إلا كتاب آخر ينغلق علي كزنزانة من زجاجة . ص . 91
يتجلى ملفوظ الذات في الشواهد من خلال الوحدات اللغوية الدالة : أبي ـ أتعلم ـ علي . وهي تحيل بضمير المتكلم على المجال الاجتماعي { أبي } . والمجال الثقافي { أتعلم } . والذاتي النفسي { علي } . وما هذه الإحالة المتعددة إلا إحدى مظاهر الذات المنشطرة والمتحللة والمعبرة بطريقة ترميزية .. فتجربة ديوان : شجون الدار البيضاء . منجز شعري أكثر جاذبية وشعرية وتحولا نحو الذات من التجارب الشعرية السالفة التي تمثلها الدواوين : جبهة الأمل . تحت الكمامة . وأزهرت شجرة الحديد . فهي بنكهة جماعية ، تجنح نحو المضمون ، وتحتفي بالقضايا الجماعية الحارقة . إذ يهيمن عليها الطابع الأدلوجي ـ والذي ليس عيبا ـ وهذا البعد الأدلوجي يقل تدريجيا ، أو فلنقل يبدأ في التراجع أمام الذاتي في ديوان : شجون الدار البيضاء . حيث يبدأ الاحتفال والاحتفاء بالشكل الفني والجمالي من حيث الإخراج والتفضيء واللغة والترميز .. هكذا يشكل هذا الديوان منعطفا شعريا مغايرا وإن ظل يحافظ على توهج وحرارة النصوص السابقة ، فهو يتجاوزها جماليا ويتخطاها بالتصوير الشعري المتأني ، الكاشف عن جهد يبذله الشاعر عبد اللطيف اللعبي في تشكيل الصور الشعرية المركزة والمكثفة ، وهي أشبه بالومضات والإشراقات الغنية بالعبر المعتقة التي تختزن وتختزل قضايا ورؤى ومواقف كبرى لكن في إيجاز بلاغي عميق الدلالة والإيحاء . يقول الشاعر :
أجمل من اللقاء انتظاره ص . 23 . / أن تدور وتدور وتدور / أهذه حياة ؟ . ص . 67 / ودائما / المركب الذي يمخر عباب البحر / أجمل من مركب راس في المرفإ . ص80 / أحاول أن أحيا : / المهمة شاقة . ص . 15 / البلدان / تتعادل الآن / في الشراسة . ص . 24 / السماء دائما في مكانها / ثابتة لا ترحم . ص . 70 / وجهك / يدهشك باستمرار . ص . 78 ...
هذه مختارات منتقاة ، وهي غيض من فيض تنضح بالرؤى والتأملات الفلسفية الوجودية التي تعكس بل تصور الذات في أقصى انشطارها . فذات الشاعر تبدو قنبلة موقوتة ، متعددة الانكسارات . ذات يتجاوز شرخها الذات نفسها ، ويتعداها إلى الآخر . فكل شذرة في جوهرها بنية تطرزها دلالات إنسانية نتشوية عميقة .. وتختلف هذي الشذرات الشعرية في فضاءاتها الزمكانية ، وفي القضايا التي تتناولها . لكنها تظل مرتبطة بعمق الحياة ، مشدودة إليها . لهذا تبدو الذات الشاعرة مهووسة بالأمل متعلقة بأسباب الحياة وكأنها " تكتب تحت التعذيب " . حسب الشاعر عبد الله زريقة . ولهذا تبدو ملامح القلق الوجودي بادية متجسمة في المعجم والتركيب والخيال .. هذا القلق ذاته تعبير عن رغبة الذات في الاستمرارية والتمسك بالوجود . مادامت تستشعر أن لها قضية تحيا من أجلها . وحلما جميلا تتطلع إليه بكل أمل أسيف . يقول الشاعر :
ما زال هنالك في هذا الفم أمر الوعيد مازال هنالك في هذه الكف حلبات بلا حدود لرقص اللعنات .. ص . 44
وطن الكتابة كتابة الوطن
تزداد مرارة الشاعر وشكواه قوة وعنفا حين يتعلق الأمر بموضوعة الوطن التي جعلت دواوين الشاعر أشبه بأرخبيل أي جزر متقاربة تتقاطع توهجا واتقادا ، مبنى ومعنى ... فهل يختزل الشاعر عبد اللطيف اللعبي البلاد والعباد في مدينة الدار البيضاء ؟ .. ربما ، فالبيضاء مدينة مغربية متميزة بكل المقاييس والمعاني ظلت ملاذ الشعراء ومحج الأدباء فقيل فيها وعنها الكثير شعرا ونثرا ، وكانت مزار هم وبيداءهم .. كتب عنها الأحمدون والمحمدون وغيرهم : أحمد بوزفور ، أحمد المجاطي ، أحمد الجوماري ، أحمد بركات .. ومحمد صوف ، ومحمد الأشعري .. وإدريس الملياني ، وعبد الرحيم سليلي ... وغيرهم كثير . وكانت كتاباتهم في الغالب أشبه بوثائق تاريخية واجتماعية ـ مع التفاوت الفني ـ تقطر حشرجة ودما ، لأنها ارتبطت بالهم الجماعي قبل الذاتي ـ كأحداث يونيوالمأساوية ـ لكن الشاعرعبد اللطيف اللعبي يتجه نحوالذات المكلومة أولا في ديوان " شجون الدار البيضاء " ليذيب فيها ومن خلالها هذا الهم الجمعي .. هكذا تعكس الذات الشاعرة إحساسها بالخراب الذي لحقها على وجه المدينة حيث : الحفر ، مثار الشفقة ، حجب السماء ، السيطرة ، الطغيان ... يقول الشاعر :
إذا ما خرجت أين سأذهب ؟ الأرصفة محفرة الأشجار تثير الشفقة الأبنية تخفي السماء السيارات تسيطر كطاغية .. ص . 13
وهكذا ترمز المدينة ، مدينة الدار البيضاء إلى الوطن الذي يتحول إلى طاغية .. يغصب الذات من مواطنتها وحقها في الحرية والذاكرة .. لكن الذات تظل مقاومة للخراب مادامت متمسكة بالنقاء .. يقول الشاعر :
سأستنفذ ذات يوم لكنني لن أبحث عن أي شيء سوى النقاء .. ص .23
وهل يبحث الشاعر الشاعر على غير النقاء ؟ ...
مراكش . أكتوبر 1999
#عبد_العاطي_جميل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوية ...
-
ولو خسرتني ...
-
كلما شربت ...
-
الحسين السلاوي يحتفي بحماقات السلمون
-
فناجين تعطلت ...
-
انتفاضة ...
-
يأتي أخيرا ...
-
تشبيه ..
-
وتر يئن ...
-
نبارك ذبحنا ...
-
رحيل السفين ...
-
عاصمة تحت الصفر .. أو نقط حذف ...
-
يتوسدني الظل ...
-
مجاز ما لا يجوز
-
وارتكبها ...
-
أبهى من جراد ...
-
نصير الشمة ...
-
أبجديات ..
-
رسالةأخيرة ...
-
وكأني ...
المزيد.....
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|