|
إله السماء وأرباب الأرض
انتصار عبد المنعم
الحوار المتمدن-العدد: 3074 - 2010 / 7 / 25 - 13:39
المحور:
الادب والفن
أخطأ الأدباء والمثقفون عندما ظنوا أن تهما مثل الهرطقة والسحر والشعوذة توارت بانتهاء العصور الوسطى وتقلص السلطة الكنسية وصكوك غفرانها التى كانت تمنحها لمن يقدر على دفع المقابل نظير شبر من الملكوت السماوى الذى بات حكرا على فئة بعينها حسبت نفسها سدنة إله السماء فأدخلت فى روع البسطاء أن الطريق إليه-سبحانه- لا يمر إلا من بين أيديهم وحدهم .
لم يكن أحد يتخيل أن الذى تغير هو مجرد التسميات والكلمات فقط ليحل محلها كلمة التكفير . الصغير والكبير ظن نفسه ربا واستباح لنفسه تفسير الكتب والمطبوعات والروايات، بل والأحاديث الجانبية والمناقشات الشفاهية، وفقا لفهمه وذائقته ومرجعيته الفكرية والمذهبية. وليست «أولاد حارتنا» لأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ إلا مثالا واحدا تبعته وسبقته امثلة أخرى انتهت بالمحاكمة المضحكة للتراث متمثلا فى «ألف ليلة وليلة» التى هاجمها أصحاب الفضيلة والعفة مستندين إلى ملفات شرطة الآداب فى مملكة شهريار ليثبتوا أن شهرزاد كانت امرأة قليلة الأدب سيئة السمعة، وأنها ربما كانت عميلة فى يد الأعداء الذين لا هم لهم إلا افساد شبابنا الأفاضل وفتياتنا ربات الصون والعفاف. فى الحقيقة لم تكن حادثة محاكمة «ألف ليلة وليلة «وليدة اليوم أو هذا العصر، بل هو نهج متوارث تشهد عليه وقائع التاريخ التى تضمنت أحكاما لاهوتية أصدرها بعض البشر ممن ظنوا أنهم يحق لهم الحكم على غيرهم من البشر، وكذلك على الكتب التراثية والروايات ومختلف الأعمال الأدبية، بل إن بعضهم بلغ به الشطط أن طالب بتحريم بعض الخضروات على النساء لأن شكلها قد يوحى بأفكار إيروسية خطيرة!
ولم تكن قلة الدين هى التهمة القاتلة الوحيدة، بل كانت زيادة معدل التدين تهمة أيضا!! فإذا كانت تهمة الفيلسوفة السكندرية هيباتيا قلة الدين وأنها وثنية ، فقد كانت تهمة جان دارك الفرنسية زيادة التدين عن المعدل المسموح به فى عرف رجال الغفران. فهيباتيا الفيلسوفة عالمة الرياضيات والمنطق والفلسفة والفلك، ابنة الفيلسوف ثيون، دفعت حياتها نتيجة تميزها الفكرى الذى انجلت له الحقائق فلم تجد أى تعارض بين المعرفة والدين أو بين الفلسفة والدين فكلاهما فى نظرها نوع من التنوير أو الكشف المعرفى: «لله معرفة ونور، وهو إذا كان قد أودع نوره فى قلوب الرسل والأنبياء، فذلك ليقتبس الإنسان النور منهم، ويدرك أن فى وسعه بهذا النور أن يفكر بعقله المستقل، ويتصل بنور الله نفسه. فالفلسفة لا تعترض الدين إذ أن الدين عاطفة وضمير، والفلسفة بحث فى أصل هذه العاطفة وهذا الضمير.. وهذا إعلاء لشأن الإنسان، وتمكينا له من فهم سر وجوده، ومعالجة شئون دنياه، والجميع بين ضميره الدينى وعقله البشرى فى وحدة داعية ورائعة ترمز إلى الوحدة الكاملة الكبيرة التى هى الله».
كانت هيباتيا تتكلم بمنطق يجذب المستمعين، فخشى سدنة المجد السماوى منازعتها لهم الملكوت الأرضى الذى لا يتضمن العدل أو الحرية اللذين كانا مقياس هيباتيا فى الحكم على الدين. تجرأت الفيلسوفة المرأة على الحديث عن الدين فوجدت من يتهمها بالتهمة التى لا نجاة منها؛ الكفر والزندقة والتجديف لأنها تدخلت فى الدين وهى الوثنية التى تتحدث بلسان فلاسفة اليونان..والتنفيذ فورى وبأيدى الغوغاء الذين يفكرون بآذانهم ، يسحلون أعلم من فى عصرها، يمزقونها ، يحرقونها باسم الدين . وتظل التهمة يتوارثها رجال الحسبة ويأتى اليوم من يناشد البابا بنديكتوس أن يخولهم فعل نفس الشئ بيوسف زيدان لأنه كتب كتابا بفعل العقل والمعرفة .
وإذا كانت تهمة هيباتيا وثنيتها ، فتهمة جان دارك على العكس تماما، فتلك الفتاة الصغيرة قادها إيمانها إلى أن تقود جيشا من اثنى عشر ألف جندى باتجاه أورلينز وهى فى الثالثة عشرة من عمرها، بل وتجرأت لتكتب رسالة إلى ملك بريطانيا تهدده: « أرسلنى المتعالى ملك السماوات والأرض لطردك من أراضى فرنسا، التى انتهكتَ سيادتها وعثتَ فيها فساداً... لو أطعتني؛ فسأرحم رجالك وأسمح لهم بالذهاب إلى ديارهم، وستذهب المملكة إلى الملك تشارلز، الأحق بالإرث... وإلا سنشعلها حرباً ضروساً لم ترَ فرنسا مثلها منذ ألف عام». وكان لها ما أرادت وحررت أورلينز. ولم تكتف بذلك، بل واصلت الزحف فى اتجاه باريس، ولكنها سقطت ضحية الخيانة وتم تسليمها إلى الانجليز الذين أدركوا أن أى تهمة أرضية لجان دارك لن تفلح فى التخلص من محبة الناس الذين انساقوا وراء إيمانها العميق بأن لها رسالة على الأرض لابد أن تنجزها. ولذلك كانت تهمة السحر، وهى التهمة المساوية للكفر، كوسيلة لن تنجو منها الفتاة ، فالتهمة تتضمن طردا من ملكوتهم الأرضى والملكوت السماوى الذى بات مرتهنا بكلمة من مخلوق بشرى سمح لنفسه أن يقنن معايير الإيمان ومقداره وأن ينازع إله السماء فى الحكم على خلقه . وقـُدمت جان إلى محكمة كنسية ، واعتُبرت بموجب قرار المحكمة ملحدة ومرتدة ، والحكم هو الموت حرقا. وأحرقت عذراء أورلينز حية . واستمتع المشاهدون برؤيتها تتعذب مثلما فعلوا بهيباتيا حين تلذذوا بنهشها باسم الدين أيضا. إن اختلف النهاشون فالموضوع مشترك ؛ بشر ينازعون الله الحكم على مخلوقاته وكأنه –سبحانه – لا يملك أن ينتقم من الملحد والمشرك ، أو أنه فوضهم ونصبهم أربابا فى ملكوته ليحكموا بغلظة قلوبهم الطينية المنشأ التى احتفظت بسواد الطين لا نور فيض الخالق على العالم. وتمر السنون وتتحول جان دارك إلى قديسة وتؤلف عنها الكتب وتنسج عنها المعجزات الخارقة .
ولكن ما جدوى أن تتحول إلى قديسة بحكم محكمة قد أصدرت حكم إحراقها من قبل إن لم نؤمن بأن هناك إله سماوى بيده وحده الحكم على الجميع، وبيده وحده حسابهم فى الوقت الذى يريده هو؟ وما جدوى أن تتناولها الأقلام، والأفلام والتى يقال إنها تعدت المائة فيلم إن لم ندرك مغزى الواقعة نفسها فى خطورة أن يتولى البشر مسئولية الآلهة على الأرض؟
#انتصار_عبد_المنعم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«تتمة وجع» محمد الفخرانى
-
يوميات شاب مهزوم
-
أديب الحى لا يُقرأ
-
إنهم يترجلون فى صمت الأقاليم
-
الأدب واشكالية الآخر
-
«رستم كيلانى» ورسالة الأديب النبى
-
انتصار عبد المنعم : بدأت التدوين علي الرمال قبل اختراع النت
...
-
الذكرى الأولى لصعود الأديب فتحي سعد
-
«الجنوبى» الباحث عن الحقيقة
-
قلب «جاذبية صدقى» الذهبى
-
الكتابة للطفل وعنه
-
الإسكندرية تتنفس شعرا
-
أدباء العرب ونظرية المؤامرة
-
نحن أولاد الغجر
-
عن البهجة والكآبة
-
«ماركيز».. دروس فن الحياة
-
الثقافة المفهوم.. والأزمة
-
ادكو..من الكانو إلى نوكيا!!
-
سأحدثكم عن ندا
-
علاء الأسواني ودوق داركور!!
المزيد.....
-
وفاة ريتشارد بيري منتج العديد من الأغاني الناجحة عن عمر يناه
...
-
تعليقات جارحة وقبلة حميمة تجاوزت النص.. لهذه الأسباب رفعت بل
...
-
تنبؤات بابا فانغا: صراع مدمر وكوارث تهدد البشرية.. فهل يكون
...
-
محكمة الرباط تقضي بعدم الاختصاص في دعوى إيقاف مؤتمر -كُتاب ا
...
-
الفيلم الفلسطيني -خطوات-.. عن دور الفن في العلاج النفسي لضحا
...
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|