أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - الغروب














المزيد.....


الغروب


أحمد الجنديل

الحوار المتمدن-العدد: 3073 - 2010 / 7 / 24 - 20:38
المحور: الادب والفن
    


الغروب

تموت القوافي على سواحل قلمي عندما يواجهني صهيل الشمس منذرا بالغروب ، نوافذي السرية تستجيب لهذا الصهيل فتغفو بفعل حلم يسحبها إلى عالم التأمل والاسترخاء .
عند الغروب يخفت العواء المر وسط اصطكاك الأفكار المزدحمة بين أروقة روحي التائهة ، جزعا من زمن الظلام الآتي ، وما بين عنف النهار وجحيم الليل يرفع الغروب راية الهدنة ويعلن عن فترة الاستراحة .
موزّع أنا عند وقوفي أمام الزمن الذي تودعه الشمس ويستقبله القمر ، ولا شيء غير الانبهار الذي يقودني إلى البكاء ، ففي تلك اللحظة المتسربلة بالخوف ، المتشحة بالحزن ، المدمنة على العشق ، تنفلت الروح هائمة بين فلوات الغربة ، وعلى أشواك غربتها تزهر بساتين الورود الدامية ، ويتحول الجفاف إلى ملاعب ندية للهواجس الراكضة نحو المجهول ، ومزارع خصبة للاحتضان المرير .
الغروب مهرجان التشظي لكل ما حدث تحت الشمس ، وكرنفال الانكسار لعنف الرأس المثخن بشراسة الأفكار المختلجة فيه ، وملتقى الوداع والاستقبال .
هو العمر ينهض على نهوض الضوء ويستحم بأفوله ليلاقي بعده عفاريت الظلام تمارس جنوحها تحت دهاليز الليل .
تقف أمي عند الغروب تسجّر تنورها ، يتصاعد اللهب حاملا أكداس الشرر الذي ينفلت إلى الأعلى ليسابق فيضان الدخان ، لم أبلغ العاشرة بعد ، أقفُ جنبها فتبعدني بإشارة سريعة ، أسرعُ إلى نخلة عانس عجفاء ، أجلسُ عند قدميها ونظراتي لم تبرح تنور أمي ، تتصاعد ألسنة اللهب فينعكس نوره على وجهها الذي يبدو ساعتها رغيفا ساخنا شهيا ، وهي تعالج فيضانه الناري بعصا طويلة سوداء ، كنتُ مأخوذا بوجه أمي ووجه التنور ، فلم ألتفت إلى زقزقة العصافير وهي تعود إلى بيوتها على أغصان شجرة التوت الكبيرة ، وغير آبه بنهيق الحمار الذي يقوده أبي إلى حظيرته بعد جهد جهيد قضاه طيلة النهار .
يتكور العجين بين أصابع أمي ، وبمهارتها يتحول إلى دوائر خفيفة السمك ليدخل إلى جوف التنور ، كان الرغيف الأول حصتي ، صغيرا مدورا ساخنا شهيا كوجه أمي ، أنهضُ مسرعا إليها ، أرفع ذيل ثوبي المتسخ إلى الأعلى ، يسقط الرغيف وسط الثوب ، أسرعُ به إلى حيث كنتُ ، أقلبُ رغيفي على حذر ، انتظره قليلا كي يفقد سخونته ، وقبل أن انتهي من التهامه ، يكون الظلام قد فرش جناحيه على المكان وتكون أمي قد انتهت من عملها ، وتكون العصافير قد خلدت إلى النوم ، ولا أحد غير صوت أمي ينادي :
ــ أسرع يامحمود قبل أن يأتيك الطنطل !!
انهضُ فزعا ، أسرع إليها ، أمسك ذيل ثوبها خوفا من الوحش القادم .
يراني أبي متلبسا بالخوف ، يصرخُ بوجه أمي غاضبا :
ـــ قلتُ لك ألف مرّة لا تخيفي الطفل بهذه السخافات !!!
ابتسامة أمي تنزل بردا وسلاما على قلبي الصغير المضطرب ، وهي تجيب أبي :
ــ لا تخف عليه فعندما يكبر ينسى كلّ شيء !!!
وعندما كبرتُ ، ماتت أمي عند ساعة تسجير تنورها ، حزنتُ عليها كثيرا ، بكيتُ على عتبة قبرها وتنورها الذي لم يسجّر بعد رحيلها ، بكيتُ عند أقدام النخلة العانس العجفاء وهي مغمورة بالليل ، وبقيتُ مع كل دفقة ظلام يحملها جوف الليل أراقب مجيء الطنطل ، أتخيله عملاقا رأسه في السماء وحوافره في الأرض ، ومن منخريه السوداوين يقذف ألسنة اللهب الحارقة ، ومن عينيه تخرج ملايين الأفاعي المرعبة ، ولكنه لم يظهر يوما ، فأيقنتُ أنّ ما قالع أبي كان صحيحا .
مات أبي بعد أمي ساعة موت آخر شعاع من أشعة الشمس ، بكيتُ عليه كثيرا ، لم يبق لي غير حماره الغبي ، لم أعصب عينيه كما يفعل معه أبي ، فقد اكتسبً من هذه العادة ما يكفيه من غباء ، حررته من جميع قيوده إلا أنه بقي على حاله ، فاضطررتُ إلى بيعه بأرخص الأثمان ، وبقيتُ وحدي لا زاد لي غير ذكريات الغروب المريرة ، وعندما دفعني الجوع إلى مغادرة عالم الغروب والانتقال إلى عالم الشمس ، رأيتُ الطناطل بكل قبحها وبشاعتها ، كانت مرعبة أكثر ممّا تصورتُ لم تكن هاماتها تناطح السحاب ، كانت وجوهها مدفونة في الأرض وحوافرها تتراقص إلى الأعلى إلا أنها تملك وسائل تدمير لا حدود لها ، طناطل من نوع خرافي ، وهي لا تجيد غير الرقص الخرافي ، وتمتهن كل أنواع الإبادة الخرافية .
وعندما لاح سوطها جلدي ، أيقنتُ أنّ ما قالته أمي يومها صحيحا ، ولم أمتلك ساعتها غير سوط أبي الذي كان يعامل الحمار به ، امتشقته بقوّة وأسرعتُ عندما أدركتُ أن لا خيار لي غير المقاومة .



#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكرسي
- يرقية الى ولي الامر
- حفلة ....قصة قصيرة
- على هامش الخط الأحمر
- البالون ...قصة قصيرة
- كتابات باللون الأحمر
- جفاف ..قصة قصيرة
- حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة
- الأقلام والخيول
- الوصيّة ... قصة قصيرة
- السفينة .. قصة قصيرة
- الجناة ومزبلة التاريخ
- أمريكا وحقوق الانسان
- بلد العجائب والغرائب
- بلا وطنية ولا حياء
- أنا وفكتور هيجو وجبار أبو الكبة
- الانتهازي الخطير .. قصة قصيرة
- ايقاعات راقصة لعازف حزين
- الهجرة الى مواسم الرعب .... قصص قصيرة
- كم أنت رائعة ياناهده 0000!!!؟


المزيد.....




- أسلوب الحكيم.. دراسة في بلاغة القدماء والمحدثين
- الممثل السعودي إبراهيم الحجاج بمسلسل -يوميات رجل عانس- في رم ...
- التشدد في ليبيا.. قمع موسيقى الراب والمهرجانات والرقص!
- التلاعب بالرأي العام - مسرحية ترامبية كلاسيكية
- بيت المدى يؤبن شيخ المخرجين السينمائيين العراقيين محمد شكري ...
- مصر.. الحكم بحبس مخرج شهير شهرين
- مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي بتهم -الاعتداء والسب-
- مصر.. حكم بحبس المخرج محمد سامي شهرين لهذا السبب
- الكويت توزع جوائز الدولة وتحتفي باختيارها عاصمة للثقافة العر ...
- حتى المواطنون يفشلون فيها.. اختبارات اللغة الفرنسية تهدد 60 ...


المزيد.....

- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الجنديل - الغروب