أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - محمود البريكان ومسألة النَّشْر*















المزيد.....


محمود البريكان ومسألة النَّشْر*


حيدر الكعبي

الحوار المتمدن-العدد: 3067 - 2010 / 7 / 18 - 22:53
المحور: الادب والفن
    


""الشاعر يموت مرتين، مرة حين ينشر، وأخرى حين يقام له تمثال"


ثمة مسألتان لايمكن لحديث عن البريكان أن يتجاهلهما: موقفه من النشر ورؤيته للعالم. ربما كانت هناك علاقة متبادلة بين هاتين المسألتين، بل ربما أمكن النظر اليهما بوصفهما وجهين لعملة واحدة. ولكن حتى يتم إثبات ذلك، ولتيسير البحث، لابد لنا من معالجتهما بشكل مستقل بوصفهما ميزتين بارزتين تسمان معالم تجربة البريكان الشعرية. هذه المقدمة مخصصة للمسألة الأولى.

لقد بقي البريكان يقود إضراباً فردياً عن النشر لعقود من الزمن. كان صمته الطويل قد انقطع مرتين أو ثلاثاً بنشر قصائد له في المثقف العربي و الكلمة، وهو أمر يبدو أن الشاعر قد لمح له فيما بعد بوصفه تجاوزاً. وإذا اعتمدنا هذه الملاحظة، المشار اليها في هامش أضافه البريكان الى مجموعة قصائد له نشرت في مجلة الأقلام في التسعينات تحت عنوان مشترك هو عوالم متداخلة، فسيكون لدينا سبب للظن بأن بعض، إن لم يكن كل، القصائد التي ظهرت في المثقف العربي أو الكلمة أو كليهما، كان قد نشر دون موافقة الشاعر. إن نشر تلك القصائد يجب أن لا يقودنا الى الإعتقاد بأن الشاعر كان متذبذباً في موقفه من النشر.

إذا نظرنا الى الأمر من الخارج، فإن رفض النشرهذا قد يبرر تصوير البريكان على أنه مجرد شخص زاهد، عاشق للعزلة، ناكر للذات. ومع أن هذا قد يكون صحيحاً، فنحن لا نمتلك الحق بافتراض قدرتنا على اختراق عالم الشاعر الداخلي، والتحدث بلسانه. لكن هذا المدخل الى البريكان يزداد إغراء حين نقتبس الشاعر نفسه في قصيدته المعنونة ""في الرياح التاريخية"، والمؤرخة في 1962:

"حين تلاشت جثث الأموات
واتضح المشهد
تكشفت فضاعة المأساة
عن إرثنا الأسود

ميراثنا المشؤوم، جوع القبور
عار ضحايانا
ميراثنا، كل عقاب العصور
عن كل ما كانا

أنا تخليت أمام الضباع
والوحش عن سهمي
لا مجد للمجد فخذ يا ضياع
حقيقتي واسمي"

القصيدة السابقة هي أعلان عن استقالة تمت في إثر مأساة. إن لسان حال الشاعر يعلن انسحابه مما بدا أشبه بمشهد معركة خاسرة زخرت بـ "جثث الأموات" و"الضحايا". ولسنا نعرف على وجه التأكيد الي أية أحداث يحيلنا الشاعر، لكن القصيدة إجمالاً تأخذ شكل أعلان عن انسحاب، ربما كان إشارة البدأ للصمت الطويل الذي سيأتي. الأمر كله يعتمد على ما إذا كانت هذه القصيدة هي فعلاًً التمهيد لانقطاع الشاعرعن النشر طيلة عقود. إذا كان هذا هو الأمر، فإن رفض الشاعر للنشر يمكن أن يفسر بوصفه احتجاجاً سياسياً، أو بعبارة أدق، يأساً سياسياً.

ربما كان من المفيد أن أضمن هنا شهادتي الشخصية للطريقة التي أجاب بها البريكان عن سؤالي حول الأسباب التي دعته الى رفض نشر أعماله. كان هذا في عام 1990، في مقهى بالعشار، مركز مدينة البصرة. كان معنا أصدقاء آخرون، ويمكنهم أن يدعموا، أو يعترضوا، أو يضيفوا الى هذه الشهادة. غني عن القول أنني هنا أعتمد كلياً على ذاكرتي، وأن من المستحيل استعادة الحوار الذي دار بيننا حرفياً. ومما له أهميته أن نأخذ في الحساب أنه لم تكن هناك وسيلة لمعرفة الى أي حد كان البريكان منفتحاً معي في أجابته. وباختصار، فالبريكان لم يجب عن السؤال إجابة واضحة وضوحاً كافياً. وإنما افترض أن تلك الأسباب هي من الوضوح بحيث لا نحتاج الى البحث عنها. قلت له إنه لا بد قد سمع السؤال مرات عديدة، من أناس عديدين، وأنه لا بد قد أجاب عليه مرات عديدة، وسألته إذا لم يكن لديه مانع من الأجابة عليه مرة أخرى. فقال ما معناه "أحقاً؟ ألا ترى ما يجري؟ لم لا تنشر أنت أذن؟" حاولت أن أذكره بأن أمره مختلف، فهو شاعر متميز، معروف، ومن جيل أسبق، وأنه سيفتقد إن لم ينشر، والى آخره، ولكنه قاطعني قائلاً "أعرف، ولكنك تكتب منذ، لنقل، عشرين سنة، فلم لا تنشر؟" فأجبت بأنني ربما كانت لي أسبابي، ولكن ما رغبت فيه هو معرفة أسبابه هو. فتحدث عن ظاهرة المحاكاة الواسعة الإنتشار حيث تستنسخ التجربة مراراً حتى تفقد جدتها وتقتل. مع ذلك ، أود أن أسجل هنا انطباعي الشخصي وهو أن البريكان ربما كان يتحاشى النقاط الأشد حساسية في الموضوع بدافع الحذر. فالأسباب ذاتها التي دفعته الى عزلته الإختارية ابتداء كانت، في الوقت الذي كنا نتحدث فيه، ماتزال قائمة. وواصلنا الحديث عن موضوعات مختلفة، كالموسيقى مثلاً، ثم عدنا الى موضوع النشر. قلت له "إن النشر هو القاعدة، وعدم النشرهو الإستثناء، وإنني على قناعة أنني لو كنت متأكداً مائة بالمائة، لا تسعة وتسعين وتسعة بالعشرة، بل مائة بالمائة، بأن ما أنوي كتابته الآن لن يقرأه أحد على الأطلاق، فلن أكتبه أبداً" ولم يعترض على ذلك، ثم، فيما كنا نستعد لتوديع بعضنا، كنا نناقش الترتيب الذي يجب أن ينشر فيه شعره، إذا قرر النشـر، هل تنشر القصائد الأقدم أولاً، أم يبدأ بنشر مجموعة تضم مختارات من مراحل مختلفة من حياته؟ وهكذا.

بوصفه شاعراً حقيقياً، فالبريكان يدرك جيداً أن الحرية هي أوكسجين الشعر. أو بعبارة أدق، هي أوكسجين كل عمل أبداعي رفيع المستوى كما هو الحال في سائر الفنون الجميلة. وقد ذهب في اعتزازه بحريته الى مدى وجد نفسه معه مغترباً داخل محيط ديكتاتوري شامل. وهذا واضح في قصيدته "عن الحرية" المنشورة في المثقف العربي ضمن مجموعة قصائد تحت عنوان "قصائد تجريدية":

"قدمتمولي منزلاً مزخرفاً مريح
لقاء أغنية
تطابق الشروط
أوثر أن أبقى
على جوادي وأهيم من مهب ريح
الى مهب ريح"

العلاقة بين الشعراء والناشرين، التي تجسد قضية البريكان مثالاً واحداً لها، وحلاً شخصياً واحداً بين حلول شخصية أخرى، لا بد أن يسلط عليها الضوء في النهاية، وأن تعالج بالتفصيل، وبنزاهة وشجاعة. مشروع كهذا يتجاوز في مداه المساحة المخصصة لهذه المقدمة. فالكشف عن الحيثيات التي هيمنت على عملية النشر في بلادنا، وبلدان أخرى تربطنا بها خلفية تاريخية مشتركة، سيمس بالتأكيد عصباً مؤلماً في الجهاز العصبي لميراثنا الأدبي كله. مشروع كهذا قد يتضمن، دون أن يقتصر على، معالجة للدور المفترض للشاعر في تاريخنا، ولمفهوم الشعر، أي للطريقة التي تم تعريفه بها، وبالتالي للمعايير التي قيست قيمته وفقها، ومن ثم للمعايير التي تم في ضوئها اختيار النماذج الشعرية التي احتوتها كتب الأدب المدرسية، الى آخر السلسلة. إن الحاجة ماسة الى دراسة توضح، بلغة بسيطة، متواضعة، متحررة من الرطانات، قضايا مثل: لماذا دأب شعراء محافظات ومدن العراق الأخرى على الذهاب الى بغداد لنشر نتاجهم في مجلات ودوريات وصحف يفترض بها أن تستلم تلك النتاجات بالبريد؟ الى أي مدى اختلفت النسخ المنشورة عن النسخ الأصلية؟ ما هو حجم الحرية التي سمح المحررون لأنفسهم بها في الحذف، والإضافة، والتعديل، والتقصيب باسم التصحيح، ناسين أو متجاهلين حقيقة أن المحررين نادراً ما اختيروا، إن اختيروا أصلاً، حسب مبدأ الكفاءة؟ ومالذي يفسر الصمت الواعي عن تلك الظواهر وغيرها من الأمور بالغة الحساسية، من جهة، والهدير المفتعل حول توافه وسفاسف وأمور مختلقة، من جهة أخرى، في عملية متضافرة تستهدف حجب حقيقة المشهد الثقافي عن الجمهور خلف ستائر كثيفة من الغبار؟

على المستوى العسكري، رأينا كيف يقفز الديكتاتور من حيث لا ندري، فيستولي على وزارة الدفاع ومبنى الإذاعة، ثم يصبح فجأة فريقاًً وقائداً عاماً للقوات المسلحة، قبل أن يمر بمرحلة العريف، أو نائبه، أو حتى مرحلة الجندي البسيط، وشعاره في ذلك هو "القوة تصنع الحق". ومن موقعه الجديد يمكنه أن يحاضر في فوائد الديمقراطية ومباديء العدالة، وربما هنأ شعبه على امتلاكهم رئيساً للدولة مثله، هو الذي وضع حداً للطغيان، والى آخره، والى آخره، والى آخره. أما على المستوى الثقافي، فرأينا كيف يستهدف ذيول الديكتاتور، من الإنتهازيين والوصوليين، وزارة الثقافة، بغض النظر عن درجة قرابتهم للثقافة، ثم، ما إن يؤمّنوا لهم فيها موطيء قدم، حتى يصبحوا هم بدورهم سلطة، وحتى يشكلوا البيئة الثقافية كلها على هواهم. في منتصف هذه الفوضى، هذا السرك الهائل، مالذي نتوقع من شاعر حقيقي أن يفعل، شاعر يمثل الشعر لديه "ملح الأرض"، الملح الذي لولاه لتعفنت الأرض؟

البريكان يلمّح لنا بأنه كان سينشر لو كان هو نفسه ناشر أعماله. ذلك في الأقل كان ما فعله في العددين الوحيدين اللذين أصدرهما من مجلة الفكر الحي، إذ نشر فيهما معاً. لكن توقف المجلة بعد صدورعددين فقط يثير بدوره المزيد من الأسئلة: الى أي حد يمكن لنا أن نمارس العزلة؟ الى أي مدى يمكن للفرد أن يكون حراً في مجتمع يفتقر للحرية؟ وقدر تعلق الأمر بالشعر، الى أية درجة نحن محقون في اعتبار أنفسنا أحراراً أثناء عملية الكتابة ذاتها؟ ربما عثرنا على الجواب في الحركة الأولى للسمفونية الخامسة لبتهوفن، التي تمثل ضربة الختام في موت الشاعر. هنالك من يقرع الباب، يقرع، يقرع، يقرع الباب، بلا هوادة، يقرع الباب. هل ينبغي فتح الباب، أم ينبغي ترك الباب يكسر؟

"ولم يكن السيف رهن يدي
حينما اقتحم الآخرون
مداخل حصني الأخير"



2005/17/09

* هذه هي ترجمتي عن الإنكليزية للمقال الذي كنت قدمت به كتاب (محمود البريكان: قصائد مختارة) الصادر عن دار المأمون بوزارة الثقافة العراقية عام 2005.



#حيدر_الكعبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة الغريق
- الكل لا يساوي مجموع الأجزاء
- أتَحَدَّثُ عنِ المدينة
- إلى من ينشرون باسم حيدر الكعبي


المزيد.....




- -الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر- ...
- بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص ...
- عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
- بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر ...
- كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
- المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا ...
- الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا ...
- “تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش ...
- بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو ...
- سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حيدر الكعبي - محمود البريكان ومسألة النَّشْر*