|
سلطة العقل.. السيد فضل الله حضور عند الرحيل!
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3061 - 2010 / 7 / 12 - 20:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ودّعت بيروت في موكب تشييعي كبير ومتميز العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ومثلما غادر النجف التي أحبها، ترك هذه المرة بيروت التي عشقها دون عودة أو لقاء، والنجف التي هي مسقط رأسه وسكنت قلبه، مثل بيروت صِنوها وشقيقتها وتوأمها الروحي، كما أخبرني في إحدى المرات قائلا: لا أستطيع أن أفكر إلا بالانتماء إلى كليهما!». لم أكن أتصور وأنا أتابع الحشود الكبيرة والجماعات المتوافدة والجهات الرسمية وغير الرسمية التي سارعت لتشارك في التشييع طواعية، إلا أن سلطة ما هي التي دفعتها لمثل هذه المشاركة، ورغم علمي بأن لا سلطة لفضل الله تقف وراءه وتدعمه سوى سلطة العقل، برجاحته وسعة صدره ودفء لسانه وتسامحه وقلبه النابض بالحب، عندها أدركت قوة تلك السلطة وهيبتها ونفوذها حتى لو كنت وحيدا وأعزل. نعم لم يكن للسيد فضل الله سلطة سياسية، ولم يكن قريبا من أية سلطة سياسية، لكن تشْييعه المهيب الذي شهدته بيروت والعزاء الحار الذي أسهم فيه العالَمان العربي والإسلامي وإقامة العشرات من الفواتح على روحه، لفت الانتباه إلى سلطته المعنوية الكبيرة، وهي التي تذكرنا بما قاله الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون منذ قرون: «إن للمعرفة سلطة، ولعل هذه السلطة هي سلطة العقل الأساس في تنمية الفكر والثقافة». كان فضل الله يدرك بحسه وكبريائه أن من يمتلك سلطة العقل لا ينبغي عليه التفريط بها لحساب سلطات عابرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية أو غيرها، ولعل جميع هذه السلطات تحتاج إلى المعرفة وإلى العقل، وحتى لو لم يكن هناك إجماع على آرائه وأفكاره، فإن الإجماع على رجاحة عقله وعمق معرفته كان محط تسليم من الجميع بغض النظر عن آرائهم ووجهات نظرهم بالسيد فضل الله. لقد عكس التشييع والفاتحة وتوافد المسؤولين حجم سلطة العقل التي امتلكها فضل الله رغم أنه كان «محاصرا»، فهو لا يأخذ بولاية الفقيه التي لا يجد أساسا لها في التاريخ الإسلامي. وهو إن كان مع المقاومة، لكنه كان مستقلا ووضع مسافة بينه وبين السياسة والحزبية، وهو إن كان متدينا لكن خطه كان مصدر إعجاب الكثير من غير المتدينين، وإن كان شيعيا، لكنه كان إسلاميا موحِّدا، رفض شتم الصحابة، واعتبر ذلك عملا لا يجمعه جامع مع الإسلام، والخلافة والإمامة أمور تاريخية لا ينبغي النزاع حولها، ولذلك هاجمه بعض المتعصبين والمتشددين، بل اعتبروه يسيء إلى المذهب وإلى الدين. كان فضل الله داعية للحوار والتسامح والتقريب بين المذاهب والأديان، وكان يشعر أن ما يوحد المسلمين مع غيرهم عنوانان أساسيان هما الإيمان والإنسان، وأكد في أكثر من مناسبة أن ما يلتقي عليه المسلمون السنة والشيعة في الجوانب الفقهية يصل إلى مستوى %80، وطالبهم أن يستوحوا المرحلة التي عاش فيها الخلفاء الراشدون، بعيدا عن اتهام كل فريق للآخر بالضلال والكفر. وكنت قد سألته عن قصة من جاء إلى العلامة الراحل محسن الأمين وطلب منه أن يبدل مذهبه من المذهب السني إلى المذهب الشيعي فقال بتندر: فما كان من الأمين إلا أن قال له قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وهو ما ظل يردده على مسامع زائريه. لعله كان أقرب إلى فكرة الإمام علي بخصوص المسلم والإنسان، عندما خاطب مالك بن الأشتر النخعي وهو عامله في مصر موصياً إياه بالبشر قائلا: لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعا ضاريا لتأكلهم، فالناس صنفان: أما أخ لك في الدين (أي مسلم مثلك) أو نظير لك في الخَلق (أي بشر مثلك) أيضا. وذلك تيمنا بما ورد في القرآن الكريم على لسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: «قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (سورة إبراهيم:11). وكذلك ما ورد في سورة الكهف على لسان النبي محمد أيضا حيث يأمره الله بمخاطبة الناس: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد» (الكهف:110). حاول فضل الله ترسيخ الفهم المتحرر للإسلام والدفاع عن هويته التنويرية لحضارته ضد الذين يحاولون «تحويلنا إلى حطام إيديولوجي» وضد «الذين يتقنون تعذيب النصوص». كان يريد لسلطة العقل أن تسود ضد «وثنية الجسد» الذي هو وعاء الروح وضد مفهوم «الزنزانة المقدسة»، ويرى أن الحياة ينبغي أن تعاش لا أن يتم اغتيالها. تميز بالجرأة في طرح آرائه وأطروحاته الفقهية بانفتاح كبير على التطور العلمي وعلى تفسير الإسلام بما ينسجم مع روح العصر. ولذلك أفتى باعتماد الفلك والأرصاد لإثبات شهر رمضان وانتهائه، وتحديد الأعياد وغيرها، وأفتى بتحريم القتل باسم «جرائم الشرف»، وقال إن ختان النساء ليس من السنن الإسلامية، وأفتى للمرأة برد الاعتداء عليها دفاعا عن النفس إذا حاول زوجها أو أخوها ضربها، وحظر ضرب الرؤوس بالسيوف خلال أيام عاشوراء، لاسيما يوم العاشر من محرم يوم مقتل الحسين في معركة الطف بكربلاء عام 61هـ، واعتبر ذلك محرما لسببين الأول لأنه إيذاء للنفس (التطبير) والثاني لأنه تشويه للدين وسمعة المسلمين، وقد اقتفى بذلك أثر العلامة السيد محسن الأمين الذي توفي عام 1952 والسيد آية الله أبوالحسن الذي توفي عام 1946. طرح فضل الله نفسه مرجعية شيعية مستقلة، الأمر الذي شهد توترا في علاقته مع إيران وحزب الله، واعتبره البعض ممالئاً لقوى معادية، علما بأن علماء النجف لم يكونوا مع مبدأ ولاية الفقيه تاريخيا، وهو مبدأ حديث واجتهاد مختلف عليه. واعتبر فضل الله الشيعة العرب المسلمين غير تابعين لإيران لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الديني، ويمكن القول ولا بالمعني التاريخي، معتبرا الشيعة مخلصين لأوطانهم ولمجتمعاتهم، مثلما كان محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى اندماجهم في أوطانهم ومجتمعاتهم، وهو ما لخصه في كراسة عشية وفاته بعنوانه «الوصايا». ولم يقل فضل الله بشروط الذكورة في المرجعية، الأمر الذي يعني حق النساء في تبوّؤ المرجعية، بما فيها الرئاسة أو القضاء أو الإمامة، معتمدا على مبدأ قاعدة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والكرامة، مستشهدا بالآية القرآنية «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف». مثّل فضل الله سلطة العقل ساعيا إلى أن تكون سلطة الحق، خصوصا أنه مثل الاعتدال والتسامح مقدما الإسلام بثوب عصري ولون حضاري وطابع إنساني!! إذا كان فضل الله قد رحل عن دنيانا، فإن ما تركه لنا من ثروة عقلية ومعرفية سيبقى معنا وبعدنا مئات السنين.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثقافة والتغيير
-
ظلال غورباتشوف في صورة أوباما الأفغانية
-
النيل والأمن المائي
-
الانتخابات ومستقبل العراق!
-
الأزمة الكونية وحلم التنمية
-
5 رافعات للتسامح
-
هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
-
الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
-
قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟
-
مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!
-
الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!
-
العروبة والهوية والثقافية
-
حكاية تعذيب!
-
العروبة والدولة المنشودة!*
-
حوار الذات وجدل الآخر
-
ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*
-
إسلام واحد وقراءات مختلفة
-
العروبة والمواطنة
-
المعرفة عنصر أساسي في التعبير عن الهوية
-
العروبة والأيديولوجيا
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|