جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3059 - 2010 / 7 / 10 - 14:41
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إذا كانت الإباحة هي الأصل في قواعد التحريم فإن السكون والنصب هو الأصل في قواعد اللغة العربية.
لم تعد اللغات تعيش كثيراً أو عمرا طويلاً لأنها التحقت كغيرها من العلوم ببرامج التحديث والتطوير فكل يوم بل وكل ساعة هنالك تحديث جديد للمخترعات وللعلوم الإنسانية ولم تعد اللغة إلا تاريخاً يذكرُ اسمه مع الماضي مثل العقائد والأفكار والأيديولوجيات , وليس بوسع المواطن العربي اليوم أن يفهم اللغة العربية الفصحى التي وضع قواعدها بلاغيون ونحويون وصرفيون .
واللغة ظاهرة إقليمية وليست قومية في شيء وإنما جعلها العربُ قومية نظراً لأنهم احتاجوا إلى قانون ثابتٍ لقراءة القرآن ولو لم يصدر القرآن في الجزيرة العربية لبقيت اللغة العربية إقليمية ولتطورت في كل عام , وإننا نلاحظ أن لكل مجتمعٍ من المجتمعات مفرداتها اللغوية الخاصة بها حتى أننا في قريتنا -اليوم -أحياناً ما نستهجن كلمةً أو مُفردة من مفردات قرية أخرى تماماً كما نلاحظ اختلافاً في بعض العادات والتقاليد من عائلة إلى أخرى على حسب اختلاف الدخل العائلي ومهنتهم أو مهنهم المتعددة ,وأحياناً تختلفُ بعض المسميات مع كثير من الظروف المتشابهة في مستويات المعيشة بين قرية وأخرى وقس على ذلك أينما كنت تقطن وستلاحظ الاختلافات , وكذلك كانت العرب إبان صدور القرآن , لقد كانت الناس تختلفُ في استعمالاتهم للمرفوع وللمنصوب ولم يكن هذا قضية يختلفُ عليها أحد حتى حينما تحدى المسلمون قريشاً في القرآن لم يتحدث منهم أحد عن المرفوع والمنصوب بدليل أن هذه المسألة لم تكن معروفة ولم تكن مهمة أو ذات اهتمام ٍ كبير حتى أنها كانت مستبعدة عن مختبرات البحث وهذا يدلُ مرة أخرى على أن الناسُ حرة في لغتها كما هي حرة في عقيدتها ,وبين الماضي والحاضر نلاحظ نفس الإشكالية اللغوية فعلى الصعيد العربي الحاضر اليوم نجدُ أن لهجة السورين هي لغة قبل أن تكون لهجة وكذلك لهجة البدويين هي لغة قبل أن تصبح لهجة وما عدى ذلك فهو اجتماع وتقعيد مُصنع تصنيعاً ونحن في الأردن تختلف لغتنا من الشمال إلى الجنوب فهم يقولون عن ضمير المتكلم (أنا) بالرفع ونحن في الشمال نقول (أني) بالنصب وعلامة النصب هنا هي الياء وهنالك علامة الرفع هي الألف , ويقال وهذا كلام موثوقٌ به 100% من أن قريشاً لم تكن تلفظ حرف الهمزة وكانوا يستثقلونه على ألسنتهم وكانوا يعوضونه إما بالإمالة وإما بالتسهيل وهذا النوع ما زال إلى اليوم ساريا فكل الناس اليوم ينادون على (عائشة) ب (عايشه) أو (عيشه) ذلك أنهم يستثقلون الهمزة على اللسان وسحبها من أسفل الحنجرة , وغالبية البدو الرعاة يُعوضون لفظ الهمزة بحرف العين كأن يقولوا (مسعول) عن ال (مسئول) وورد عن الأصمعي ما يشبه ذلك حين قال له رجلٌ: يا أبو سعيد فقال له : قل يا أبا سعيد , وكانوا يقولون (يا أبي) وهذا يدل دلالة واضحة على أن العرب لم تكن لديها قواعد لغوية ثابتة لأن الأصل في اللغة أنها كانت إقليمية أكثر منها قومية , ولم تكن للعرب أيضاً إبان ظهور القرآن لغة قومية بل كانت لديهم لغات إقليمية أو لهجات متعددة مثل : الكشكشة, والعنعنة...وما زالت إلى اليوم ..إلخ وحتى إن كانت تحت مسمى لهجات غير أنه يضاف إليها الرفع والنصب والجر وكان وما زال سكان المناطق الوعرة الغزاة الحربجية يرفعون كلامهم وجملهم رفعاً لأن الرفع يدلُ على الخشونة والرهبة والهيبة للجندي المحارب وهي إحدى مظاهر الرجولة وما زال بعض العرب يعتبرون أن الخشونة القسوة هي من صفات الرجل الجاد غير المستهتر وما زال سكان المواقع المتحضرة ينصبون كلامهم وجملهم نصباً لأنهم غير غزاة ولا حربجية والنصب مؤشر على النعومة واللطافة , ولغة الرفع لغة خشنة وثقيلة على اللسان ولغة النصب لغة سهلة على اللسان وتدل على نعومة الناطق بها كما أن الرفع يدل على خشونة الناطقين بالرفع والقاعدة اللغوية الأساسية هي النصب والسكون.
من الملاحظ جيدا أن اختلاف القُراء في قراءة القرآن دليل على أن العرب لم تكن لديهم قواعد لغوية قومية ثابتة بل كانت لغتهم إقليمية , فكان منهم من ينصب الفاعل ويرفع المفعول حتى داخل المجتمع (الإثني- العرقي) الواحد أو حتى داخل الحارة أو الحي السكني الواحد اختلافات في النطق وتتسع تلك الاختلافات و تزداد تباعدا كلما ازدادت المسافة بين كل حي وحي وكان منهم من هو على عكس ذلك وكان منهم من ينصب المبتدأ والخبر وأحيانا يجرونه بالكسرة , ذلك أن الأصل في لغة أي أمةٍ من الأمم هو التسهيل على الناطق فكان كل شخص ينطقُ بما يحلو له أن ينطق به حتى أن نوادر النحاة العرب رغم أنها كانت للتسلية وللضحك على المُلحنين في اللغة غير أنها دليل كافي على أن قواعد اللغة العربية لم تكن مقعدة أو منظمة وأثناء صدور القرآن كان القراء يقرؤونه كيفما يحلو لهم ولم يكن أحد منهم يقف على فاعله ومفعوله بل كانوا يفهمون من سياق الكلام من هو الفاعل ومن هو المفعول به , تماما كما تنطق اليوم الناس بالعامية فلا أحد ينصب أو يرفع أو يجر الكلمة جرا ومع ذلك تفهم الناس كلها على بعضها البعض دون أن يُعربوا الكلام إعراباً أو دون أن ينحو به نحوا خاصاً والناس في حارتنا يعرفون حال المتحدث عنه في الجملة دون أن يعرفوا قواعد الحال فلو قلت لهم : جاء الرجل ضاحكاً , فإنهم فورا سيعرفون أن حالته هي الضحك والسرور وهذه الحالة لا تدوم مع الرجل وهذا أول شرط من شروط الحال وهو أن الحال لا يلازم صاحبه , علماً أن العرب لم تكن كلها تنصب الحال بل كانوا أيضا يرفعونه بالضمة , ولو كانت العربُ كلها ترفع المبتدأ والخبر أو كلها تنصب الحال لما حدثت القصة التالية مع الخليفة عمر بن الخطاب عندما خرج ورأى قوما يرمون فعاب على رميهم فقالوا له معتذرين: إنما نحنُ قومٌ متعلمين , فقال لهم : إن لحنكم هذا أشد عليّ من رميكم. ولم تكن كل العرب تخالف المعدود في العد كأن تقول: جاء ثلاثُ نساء, أو, جاء ثلاثة رجال, أي تذكير العد إن كان المعدود مؤنثاً وتأنيثه إن كان المعدود مؤنثاً.
سيتبين لنا من خلال تتبعنا للقراءات أن الكوفيين ينقلون أي شيء يسمعونه ويعتبرونه قاعدة وهم بهذا يفضلون النقل على العقل كما هي المساءل الفكرية , بخلاف من يفضل العقل على النقل , فالكوفيون يميلون بأخذ كلام العرب جملة وتفصيلاً ويعتبرونه شاهداً لغوياً حتى وإن يكن الذي ينقلون عنه ليس له علم لا بالقرآن ولا بأشعار العرب وحتى لو اختلف الشاهد مع القاعدة الثابتة وحتى لو سمعوا بيتاً من الشعر ليس فيه من كلام العرب لأخذوه ولجعلوه أصلاً, أما البصريون فيرفضون أي شيء لا يتلاءم مع ما وضعوه من قوانين لغوية ويرفضون الشاهد اللغوي إن كان شعرا أو قرآناً مع ما وضعوه من قواعد , فالقوانين اللغوية عندهم ثابة و لها قياسات وهم أول من وضع نظرية القياس بما في ذلك لفظ بعض الأعراب للصاد (زاي) الصراط- الزراط, وهذه لهجات ما زالت مستعملة إلى اليوم , وقد قال البصريون للكوفيين: نحن نأخذ اللغة من حرشة الضباب, وأكلة اليرابيع , وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز , وباعة الكواميخ.
وحرشة الضباب أي صيادي حيوان الضب , والشواريز أي اللبن الثخين أي (الجميد) والكواميخ أي (الأدم) , وسنلاحظ أن البصريين يرفضون ما قاسوا عليه وقعدوا له قواعدهم بينما الكوفيون يقبلون كل ما هو سماعي وهم بهذا هم أول من قدم مفهوم النقل على العقل التي ستصبح بعد ذلك معضلة في الفلسفة العربية عند المتكلمين , أما البصريون فإنهم قدموا العقل على النقل كما سيظهر بعد ذلك في مسألة اختلاف التأويل والتفسير,واللفظ.
وكل القراءات هي في الأصل إقليمية لأن اللغة إقليمية والشاهد على ذلك قراءة القراء كقراءة نافع
وهي قراءة أهل المدينة وهم يلفظون كلمة النبي بالهمزة فلا يقولون (نبي ) بل (نبيء) وهذا لفظ عبري فالعبريون يقولون عن النبي (النبيء) أما أهل مكة كما أسلفنا فإنهم كانوا يستثقلون الهمزة فكانوا يقولون عن النبي (النبيء).
وكذلك في معظم القرآن إذا كان في الكلمة همزتان مدوا الأولى بهمزة مد وقلبوا الثانية (هاء) كقولهم في سورة البقرة: آهنذرتهم , بدل (أأنذرتهم).
وكذلك كان نافع في قراءته هو وأهل المدينة يضيفون الواو لحرف ميم الجمع في قولهم (عليهمو) بدون واو الجماعة التي يأتي بعدها ألف , والأصل في الكلمة (عليهم) ففي القرآن كافة أينما وجدت ميم جمع يجب أن تضيف إليها واو على حسب قراءة نافع فقط لا غير.
أما قراءة ابن كثير وهي قراءة أهل مكة وتتميز بإضافة همزة نبره لكلمة ضياء أو لكل الكلمات التي تنتهي بهمزة مثل ما جاء في سورة يونس(هو الذي جعل لكم الشمس ضئاء) والأصح (ضياء) وهذه القراءة غريبة نظرا لأن قريش كانت تستثقل الهمزة.
أما بخصوص قراءة ابن عمر بن أبي العلاء:فهو يدغم الأحرف المثلية مثل (ما سلككم في سقر؟) يلفظها هكذا (ما سلكّم في سقر) ويبدل الذاء دال في قولهم (اتخدتم)بدل (اتخذتم) وكذلك يبدل الهمزة في وسط الكلمة شين مثل (شئتما) فيقول (ششتما) وكذلك هنالك ميزة وهي أن ميم الجمع تأتي مكسورة في كافة الكلمات نحو (عليهمِ, منهمِ, علمهمِ..إلخ).
أما قراءة عاصم فقد كانت مشهورة في مصر وميزتها أنها كانت تخلوا من الإدغام إلا في بعض الكلمات.
أما قراءة حمزة بن حبيب الزيات فهي مختلفة عن كل القراءات في اللفظ فهو الذي يلفظ الصراط ب (الزراط) وهي قراءة بعض أهل الكوفة وكذلك كلمة (يؤمنون) يلفظها بدون همزة هكذا (يومنون) وكذلك (أصدق) تلفظ (أزدق) ولكن هنا الزاي تُشمُ شماً مع لفظ الصاد أي مع الصاد يشتمُ السامع الزاي, وعن هذه القراءة الكوفية أخذ الكسائي قراءته وأغلب قراء الكوفة
وكافة الأمم اليوم يكتبون بحسب ما ينطقون به , إلا العرب فإنهم ينطقون بخلاف ما يكتبونه , والأصح هو أن نهجر اللغة العربية إلى مزابل التاريخ ونبدأ الكتابة باللغات الإقليمية وكل كاتب يجب أن يكتب على حسب البيئة التي ينشأ بها .
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟