|
قصة قط الشيخ عبّاس
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 3058 - 2010 / 7 / 9 - 17:02
المحور:
الادب والفن
ليس هناك تاريخ محدَّدٌ لليوم الذي صارت فيه النقود تنهال في جيب جلبابه العلوي، بلا كدٍّ أو عناء! كل ما كان يفعله الشيخ عباس حركات متوالية بجفنيه، تبدو للناظر وكأنها ردات فعل لدخول جسم غريب وسط العينين،ثم يغمض عينيه ، ويحرك شفتيه بمثل سرعة تحريك جفنيه، ويتلو كلماتٍ يصعبُ فهمها أو معرفة أصلها، ويُبقي رأسه مرفوعا بحيثُ يتعذر على الجالسين متابعة حركاته كلها، كانت معجزته أن الناظر إليه لا يمكنه أن يسمع إلا صوت التمتمات غير المفهومة. يرسم الشيخ عباس بعد هذه الحركات المتوالية على خديه المكتنزين ابتسامة صفراء سرعان ما تذوي، ثم يفتح عينيه وشفتيه أمام زائريه ويصوب عينيه مباشرة إلى عيني زائره ، ويقترب منه ببطء ، فيشعرُ الزائر بالرعب، فيُخفض رأسه خوفا. ظل زائروه المرضى يأملون الشفاء، نسي أهلُ القرية أن الشيخ عباس، لم يتعلم في مدرسة أبدا . كل شيء في بيت الشيخ عبّاس داكنُ أو رمادي، حتى ستارة الشباك الصغير الوحيد في الغرفة، لونها أسود، لا ضوء في الغرفة سوى الضوء الذي يدخل مع الزائرين من باب الخشب المقشّر الذي يصدر صوت زخات من الرصاص المتقطع ! كبار السن يزورونه ليحاصروا أمراض الشيخوخة بتمتماته ووصفاته، أو للحصول على حجابٍ يمكنهم من إتمام صفقة زواج جديدة بفتاة تصغرهم بأربعين عاما ،أما الصغيرات في السن فهن دائما يرغبن في الإنجاب، أو منع الزوج من الزواج مرة ثانية ،أما الفتيات اللاتي لم يتزوجن، فهن ينشدن الخاطبين.، أما بقية النساء ، فإما أنهن يرغبن في حجاب ليعيد لهن الحظوة عند الزوج، الذي تزوج بأخرى، أو أنهن يطلبن حجابا، يمنع حمل الضرة، ويجعلها مكروهة عند الزوج . كان الشيخ عباس يعرف جيرانه فردا فردا ، مما يجعله قادرا على معرفة أمراضهم، أما الوافدون من غير الجيران فهم يجيئون أيضا بصحبة الجيران، مما يُمكِّنُ الشيخ عباس بفراسته أن يكشف دائما مكنونات الزائرين،وأسباب زيارتهم له . كانت كتل الشحوم على وجهه المنتفخ تضفي عليه هالة القداسة . غير أن قداسة الشيخ عباس لا تأتي فقط من قدراته في سرعة تحريك عينيه وشفتيه،ولا من غرفته الصغيرة المظلمة، وليس أيضا من القصص التي يرويها جيرانه عن قدراته في إشفاء المرضى ، وعمل الأحجبة القادرة على إبعاد الشرور، ولا من فراسته ولا من جلبابه الصوفي الداكن الذي يختزن عشرات البقع غير القابلة للإزالة بالماء والصابون ،ولا من ضخامة جسده وتمتماته، بل إنها تعود لقطه الرمادي السمين الملتصق دائما بجلباب الشيخ الداكن، فالقطُ لا يُرى أبدا إلا ملتصقا بجلباب الشيخ عباس، فهو كما الذيل لجلبابه. ينصب القطُّ ذيله كالقوس، عندما يقف ، وينفخ بطنه، ويهزّ رأسه مثل هزات رأس الشيخ وهو يستغل جلوس الشيخ على فرشته القطنية الصلبة، عندئذٍ ينفش وبره ويتحرك ببطء ثم يستلقي بالضبط في حجر الشيخ ، يزيحه الشيخ من حجره حينما يرى عين الزائر تراقبه، وفي لحظات يعود القط يفترش قوس جلباب الشيخ الذي يؤرجحه، اعتاد القط أن يرفع رأسه المستديرة المكتنزة متأملا بعينيه المملوءتين بزيت الزيتون وجه الشيخ ،وهو يُصدر مواء مكتوما أقرب إلى تمتمات الشيخ من مواء القطط الأخرى ثم يغمض عينيه، معلنا بدء غفوة طويلة. كان القطُّ يُنافس مرضى الشيخ عباس على مساحة الغرفة الضيقة، يشارك الشيخ في قضاء حاجات الزائرين وعلاج المرضى قلّ من يتحدّث عن الشيخ عباس وقدراته على إشفاء المرضى ومعرفة حاجاتهم قبل أن يطلبوها ، بدون أن يذكر قطه الرمادي السمين الذي لا يبرح حجره أبدا، حتى أن كثيرا من الجيران قالوا بأن القط هو تابعٌ جنيٌّ من توابع الشيخ مسخرٌ لخدمته والسهر على راحته . وعندما كان القط يخرج من بيت الشيخ عباس ويدخل بيوت الجيران، كانوا يتأهبون لاستقباله بود كضيف عزيز، خشية أن يستثيروه، وكانوا يتوددون إليه ويقدمون له طعاما طازجا من أطعمتهم التي يأكلونها ،خشية أن تحلُّ بهم لعنة قط الشيخ . ذاتَ يومٍ ضرب جار الشيخ ابنته الصغيرة ضربا مبرحا لأنها انتهرت القط وحاولت أن تطرده من البيت بفردة حذاء قديمة، بكتْ الصغيرةُ بحرقة على وقع كلمات والدها: هذا ليس قطا، ولكنه وليٌّ من أولياء الله الصالحين ! ابن الشيخ عباس هو الوحيد هو الذي ينخس القط في بطنه بإبهام رجله اليمنى كلما دخل البيت ويبعده عن طريقه، وكان أيضا يقذفه بالحذاء عندما ينازعه الطعام، كان الشيخ عباس يتابع بنظراته القط وهو يهرب مبتعدا ، ولا يُعلِّق على ما يفعل ، فابنه الوحيد هو الذي يتجرأ على حرمة القط ، كما أن أحدا من الناس لا يرى ما يفعله بالقط ،حتى أن ابنه ذات يوم ضاق ذرعا به فحمله من فروة ظهره المملوءة بالدهون وهو يموء ، ثم ألقاه من شباك الغرفة إلى الشارع، في الظلام الدامس! كان حب الشيخ لابنه الوحيد أكبر من حبه لقطه الرمادي، لم يكترث الابن بقول والده دائما مرددا الحديث الشريف : " دخلتْ امرأة النار في هرَّةٍ حبستها"! لماذا يكره الابن القط؟ هل يرجع كرهُه للقط إلى أنه ينافسه على والده، وعلى طعامه وفراش نومه؟ أم أنه يعود إلى أن القط كسولٌ لا يخرج من البيت إلا قليلا ؟ رباطٌ قوي يربط بين الشيخ والقط الرمادي السمين، أيكون الرباط هو أن القط صار مقدسا يكمل تعبئة جيبه العلوي بالنقود؟ أم أن الرباط بينهما رباط روحي، يعود إلى صحة قول الجيران؛ إن القط تابع من أتباع الشيخ ، وهو وليٌّ من أولياء الله الصالحين ؟ لا يعرف ابن الشيخ علاقة القط الرمادي بجيب أبيه العلوي المتورم بالنقود، فقد كان الشيخ ينادي على ابنه كل صباح ويدخل يده اليسرى في جيبه العلوي ويعطيه نقودا، اعتاد الابن بعد أن يأخذ النقود أن ينخس القط في بطنه بإصبع قدمه الكبير بقوة ليبعده عن طريقه . ذات يوم استيقظ الابنُ في الليل على صرخات أمه، وهي تصيح : مات الشيخ يا أهل الحارة ! يومها نهض من فراشه فزعا، ووطأ بقدمه اليمنى ذيل القط، فأصدر مواء طويلا عاليا لم يسمعه من قبل، كان والده ممدا على الفراش وجيبه العلوي متورما بالنقود، كان وجهه أصفر شاحبا، لم ير أحدٌ من الجيران كيف أفرغتْ زوجةُ الشيخ جيبه من النقود، قبل أن يدخل الجيران ليحملوا جثمان الشيخ عباس. بعد أن دفنوا الشيخ عباس في مقبرة القرية بيومٍ واحد قال ابن الجيران : كيف يموت الشيخ عباس، وهو وليُّ من الأولياء الصالحين ؟ فرد عليه والده : استغفر ربك ... كل نفس ذائقةٌ الموت . وبعد عشرة أيام قالت امرأة الجيران: يقولون بأن رائحة مسك تفوح من قبر الشيخ عباس. وبعد واحدٍ وعشرين يوما قال أهل القرية المجاورة: المعجزة ليست هي موت الشيخ عباس المفاجئة، بل إن المعجزة هي قط الشيخ عباس، الذي اختفى معه، بعد موته ولم يظهر له أثرٌ ! وقالت أحدى النساء لجاراتها عندما ذهبت لزيارة قبره بعد أربعين يوما: إنها وجدت قبره منبوشا بمخالب قط ! ردت إحدى الجارات: سبحان الله رافقه القطُُّّ في حياته ... ثم دُفن معه. وأخذتْ ألسنة النساء تُردِّد: البركة والرحمة ... يا قط الشيخ . وقال رجلٌ في قرية بعيدة بعد عام من وفاة الشيخ : بعد أن دُفن الشيخ بساعاتٍ رجع القط إلى أصله ، ماردا قويٍّا جبارا، رافق الشيخ إلى الدار الآخرة ، وهو اليوم يتبع الشيخ ويخدمه في الجنة ، فالقط وشيخه أحياء بإذن الله يُرزقون، وهم يعيشون في جبل يسمى جبل المارد، الذي يجاور نهر السلسبيل. لم يُخبر ابن الشيخ أحدا بعد موت والده بيوم أنه ألقى القبض على القط، ووضعه في كيس وأغلقه بإحكام ووضعه في حقيبة سيارة، وألقاه بعيدا بعيدا بعيدا: وما يزال القط حيا يموء ... ولكن في مكان آخر . وأخيرا سُميت المقبرة والقريةُ باسم ( قرية مقبرة القط).
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نوادر عن الأحزاب والتطرف
-
كتاب نصف السماء وقتل النساء
-
التاريخ الفلسطيني بالمقلوب
-
شكرا يا إسرائيل
-
دعوة اليهود للهجرة من فلسطين
-
ألفية القدم، لا القلم
-
الإعلام يغتال أطفال فلسطين
-
شخصيات إسرائيلية تصف إسرائيل
-
إسرائيل تغرق في البحر 1/6/2010
-
لقاء حصري مع برنارد لويس 30/5/2010
-
صحافة التطريز
-
معلمو حل الاختبارات
-
إسرائيل تشبه كوريا الشمالية
-
لفتة دعم لشومسكي
-
من يوميات منكوب
-
قصة أبي البدع
-
المطارد غولدستون
-
غنيسات فلسطينية
-
نسل فكري مشوه
-
كيس الطحين في فلسطين
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|