مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3048 - 2010 / 6 / 29 - 23:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عن الخرافة
قبل أكثر من عقد و نصف تساءل كورنيليوس كاستورياديس عن جدية و جدوى الكلام عن عقلانية الرأسمالية و هناك ملايين العاطلين عن العمل في أوروبا الثرية , من حسن حظ كاستورياديس أنه مات قبل الأزمة الراهنة دون أن يرى تهافت الأنظمة و المؤسسات "العقلانية" جدا لرأس المال لإنقاذه من ورطته التي حشر رأسه فيها , في روسيا السوفيتية أنتجت الماركسية اللينينية "العلمية" جدا ثلاث ديكتاتوريات , أولا نظام ستالين و من ثم نظام خروتشوف و من ثم نظام غورباتشوف , الأول للقضاء على الرأسمالية و الثاني لإصلاح الأول و الأخير لإصلاح الاثنين معا . و من يصغي إلى رجال كل الأديان و الليبراليين و الستالينيين لا يجد لديهم أي شك في أن المصائب التي تعاني منها البروليتاريا و الطبقات الأكثر فقرا و تهميشا إنما هي ليست نتاج النعيم الذي تعيش فيه البرجوازية الكسولة بل نتيجة طبيعية لمنطق الأمور , أن سيطرة عدد محدود جدا من البشر على مصير الطبقة العاملة و معها معظم البشرية ليست إلا نتيجة ضرورية لإرادة الله أو "للقوانين العلمية" للتطور و الاجتماع البشريين . ليست هذه إلا أمثلة على الخرافة . إن الخرافة فكرة مركزية يعتبرها أصحابها و ممارسوها و المستفيدون منها فكرة عصية على الفهم أي فكرة فوق قدرات و إمكانيات العقل البشري على الفهم أي أنها فكرة فوق عقلانية أو باختصار فكرة لاعقلانية . هذا لا يعني أن من يبتدع الخرافة و يرددها هو مخرف على الدوام , على العكس , فهو فيما يتعلق بخرافات الآخرين عقلاني جدا , إنه يخضع كل شيء ما عدا خرافته الخاصة لسلطان العقل أولا و ينتقد خرافات خصومه دون تردد أو وجل , بل و بكل عقلانية , لكن عندما ينتهي الأمر إلى خرافته الشخصية يبدأ بالتحدث عنها بصوفية و عصمة و قدسية , إنه أمام خرافته الخاصة يصر على محدودية العقل و على أن خرافته صحيحة بشكل بديهي أي دون حاجة لإثباتها أو محاكمتها من قبل العقل , على أنها فطرية , لا تحتاج إلى برهان . كان ابن تيمية يناقش بالحجج العقلانية أطروحات خصومه من متصوفة و قدرية و معتزلة و جهمية و غيرهم , لكن إذا انتقل للحديث عن خزعبلاته لم يكتفي بإلغاء العقل أمام ما يزعم أنه نصه المقدس , كان يبقيه لكن في مرتبة أقل من التابع أو حتى العبد لتفسيره المقدس للنص المقدس , إنه يستبقيه فقط ليكون شاهد زور على أنه لا يتنافى مع تفسيره للنص المقدس , و هذا أسوأ من إلغائه العلني الصريح , و عندما يستهزئ بأفكار خصومه اللاعقلانية و خزعبلاتهم كان يبدو و كأن العالم الذي يتحدث عنه يسير دون إله في مركزه وفقا لقوانين عقلية لا يمكن الخروج عليها . عمل الفكر البرجوازي طوال قرون و عقود على تثبيت و تكريس فكرة أن الأفكار الإنسانية ليست إلا نتاجا للتجربة الحسية في مقابل فطرية الأفكار التي كانت تعبر عن رؤية الكنيسة القروسطية للإنسان و وعيه , لكن عندما كان عليه أن يواجه خرافته الخاصة سيعود بسرعة من جديد إلى هذه الأطروحة عن فطرية الأفكار ليثبت ما لا يمكن إثباته ألا و هي حتمية الملكية الخاصة , "يقول الناطقون باسمها ( أي البرجوازية ) أن لكل إنسان فكرة فطرية عن الملكية , غريزة ملكية . و يترتب على ذلك أن الملكية الرأسمالية طبيعية..." ( بوليتزر , فلسفة الأنوار و الفكر الحديث ص 7 ) . لكن خرافة الرأسمالية ليست الملكية الخاصة بالتحديد فالملكية الخاصة وجدت منذ انهيار المجتمع المشاعي البدائي , إنها السوق الرأسمالية , المكان الذي يمكن فيه للرأسمالي أن يحول قوة عمل البروليتاري إلى فضل قيمة , إلى سلعة , المكان الذي يتحول فيه العقل و العلم نفسهما إلى سلعة , ضرورية لتحسين السلع الأخرى و خلقها أو إقناع أهم هذه السلع ( البروليتاري ) بأن كونها سلعة هو ميزة تعني حريته . إن السوق الرأسمالي بقدر ما هو واضح كمكان و كعلاقة إنتاج بقدر ما يجب عندها تعميته بالكثير من الخزعبلات الضبابية عن اليد الخفية للسوق , بقدر ما هي هذه اليد واضحة و بسيطة بقدر ما تصبح غامضة و معقدة عندما يتحدث سميث و غيره بصوفية عنها , هذه اليد لا تكتفي في أيام الأزمات كالتي نمر بها بالاستيلاء على عرق العامل و قوة عمله , إنها تمتد إلى أمعائه لتستولي على لقمة خبزه للحفاظ على ربح رأس المال . خرافة الماركسية "العلمية" هي "قانون" الحتمية الاقتصادية . تماما مثل الخلط السلفي الإسلامي بين القدرية و الجبرية بهدف تغطية جبرية مطلقة معادية للإنسان فإن الماركسية أيضا تحدثت بلهجتين : حتمية لا علاقة لها بإرادة و نضال البروليتاريا و أخرى قدرية تعتبر انعتاق البروليتاريا نتاج نضالها الخاص بالذات . لكن المحصلة كما في الخطاب السلفي يكون دائما لصالح الحتمية , لصالح تهميش الإنسان عن أفعاله , و الأهم عن انعتاقه هو بالذات لأنه عندما يكون انعتاقه شيئا مفروضا عليه لا يعود انعتاقا , إنه يصبح عبودية جديدة كما ثبت فيما بعد . بتأكيدها على مركزية الحتمية الاقتصادية لسقوط الرأسمالية "كقانون علمي" لا تنتصر الماركسية فقط على رأس المال بل أيضا على البروليتاريا , لقد انتزعت البيروقراطية الحزبية ( أرستقراطية الطبقة العاملة ) بذلك مصير البروليتاريا من أيديها و بتنصيبها لنفسها ككهنوت ضروري للإيديولوجيا الجديدة شرعنت استبدال عبوديتها لرأس المال بعبودية الحزب و الإيديولوجيا و من ثم الدولة التي أسستها , بهذا المنطق انضم البلاشفة إلى ثورة البروليتاريا الروسية بقصد القضاء على استقلال هذه البروليتاريا و تنظيمها الذاتي لشؤونها و للإنتاج الجماعي , بقصد تحويل انتصار البروليتاريا الروسية إلى انتصار للبيروقراطية , لإيديولوجيتها , لقوانينها "العلمية" التي تبرر سيطرة هذه البيروقراطية – الأرستقراطية العمالية كبديل عن رأس المال التقليدي , أما مجمل تكتيكات الأممية الثالثة التالية فكانت تهدف إلى دفع الأمور باتجاه أحد طريقين : إما انتصار البيروقراطية الماركسية أو هزيمة البروليتاريا لصالح رأس المال , و لذلك حاربت دون هوادة أي مظهر لاستقلال البروليتاريا و في كل مكان كانت البروليتاريا الثورية ترفض الإذعان كانت تتبنى تكتيكات رجعية و انتهازية , في كل مكان كانت فيه البروليتاريا الثورية تخلق مؤسساتها الديمقراطية الخاصة كمجالس العمال و لجان المصانع كانت تدعوها من جديد للعودة إلى البرلمانات البرجوازية و النقابات الرجعية و التخلي عن مؤسساتها الديمقراطية الثورية , و في كل مكان ستتحرك فيه الطبقات الفقيرة ستعمل هذه البيروقراطية على تقوية عوامل الخضوع للمركز البيروقراطي و نفي أو تحطيم نزوعها المستقل لقيادة أمورها بنفسها كما في إسبانيا 1936 و لو كان ذلك على حساب إنهاء الثورة كما في أيار مايو 68 , بل إن إنهاء الثورة و احتوائها سيكون مدخلها إلى بنية النظام السائد حيث ستقترب تدريجيا من رأس المال و دولته قبل أن تتحول نهائيا إلى يسار للبرجوازية , و في بعض الأحيان على يمينها حتى , أما في الدول التي ستحكمها فإنها لن تتردد في استخدام أقصى عنف ممكن ضد الجماهير المتمردة على هيمنتها كما في هنغاريا 1956 و تشيكوسلوفاكيا 1968 , الخ . يمكن إذن استنتاج وظائف الخرافة مما سبق : محاولة عقلنة عالم أو واقع غير معقول , محاولة تبرير ما لا يمكن تبريره , و إلا كيف يمكن أن تعيش حتى اليوم أوهام مثل حاجة جماهير المؤمنين لرجال الدين أو حاجة العمال لرأس المال أو لطليعة بيروقراطية , كيف يمكن خلق الوهم بأن السوق الرأسمالية التي يجري فيها خلق حرية الرأسمالي على حساب عبودية العامل بأنها المكان الوحيد الذي ينتج فيه الجميع و يستهلكون بحرية . لكن لا تنتهي وظائف الخرافة هنا , في الإمتاع و المؤانسة ينقل أبو حيان التوحيدي عن أبي عيسى الوراق أستاذ ابن الراوندي قوله : "المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه و لا يستصلح به غيره و لا يشفي غيظه بعقوبته جائر , لأنه وضع العقوبة في غير موضعها . قال : لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار و لا غيرهم , و لا يشفي غيظه بعقوبتهم فليس للعقوبة وجه في الحكمة" ( ص 385 ) , ليس الله تعالى من يحتاج إلى عقاب غبي و لا معنى له على الشكل الذي قالت به الأديان ( و من بعدها الإيديولوجيات المختلفة ) , إن من يحتاج إلى هذا العقاب , إلى التهديد به و التلويح به في وجه البشر , هم الأنبياء و رجال الدين , إن عقابا جائرا ( كما يصفه الوراق ) و غبيا و همجيا على هذا الشكل هو أقوى حجة لإقناع البشر بالخضوع , و هو في قسوته إنما يعبر بشكل غير مباشر على استعداد رجال الدين و المنظرين المؤدلجين لارتكاب أسوأ المجازر و أبشعها بحق من يرفض الخضوع لهم و لخرافاتهم , وحدها الخرافات تحتاج لمثل هذه الحجج "الدامغة" . لكن هنا يجب أن نشير إلى أن العقل ليس بالضرورة نقيض الخرافة , تنشأ الخرافة ليس من قصور العقل الإنساني فقط , بل من حاجة معرفية ثم من حاجة اجتماعية صريحة أو ضمنية , و ليس صحيحا أيضا , على الأقل بالنسبة للبعض , أن العقل هو الميزة الحقيقية للإنسان المسؤولة عن أنسنته و التي يجب أن تنتصر لكي تهزم الخرافة , العقل أشبه بأداة تقنية , تكنولوجية , أداة نشأت عن الاجتماع البشري و تتطور في سياق تطور هذا الاجتماع , و بالتالي فإن نواقصها تعبير , إلى حد ما , عن نواقص و شرور هذا الاجتماع الإنساني نفسه , لقد حكم تقديس التكنولوجيا مثلا على الفكر السياسي و العسكري الأمريكي , و الرأسمالي الغربي عموما , بالغباء , و ها نحن نشاهد بأعيننا كيف توشك ميليشيا من أفقر شعب على الأرض و أكثر شعوبها تخلفا من تحقيق النصر على أكثر الجيوش تقنية و تقدما في تاريخ الإنسان , على الجيش النظامي لأغنى أمة على الأرض , اكتشف الجنرالات الأمريكان , و من قبلهم الكثير من جنرالات الجيوش المستعمرة , أنه بعد أن تحقق جيوشهم المدججة بأفضل أنواع الأسلحة و أكثرها تطورا انتصارا سهلا على جيش ما فإنها تجد نفسها غارقة في حرب استنزاف أو حتى على وشك الهزيمة أمام مجموعات مسلحة لا تملك إلا أسلحة خفيفة عادية جدا , ليس العقل , وحيدا , على الأقل هو من دفع و يدفع الإنسان على طريق التطور و تحسين ظروف حياته , على طريق الإبداع و الخلق , إنه ضروري على الصعيد التقني لا شك , لكن يمكن للعقل أيضا بإنتاجه المجرد من أية نوازع أخرى أن ينتج الخنوع , القناعة الدائمين , أو حتى العبودية الأبدية , أو ما كان أرسطو يسميهم بالآلات المفكرة , أو أدوات الإنتاج القادرة على التفكير دون الاحتجاج , لكن القوة الدافعة بالنسبة للبعض لهذا التطور توجد في مكان آخر . في الله و الدولة يعتبر ميخائيل باكونين أن نزعة الإنسان نحو التمرد على الأوضاع القائمة , نحو انتزاع حريته , هي اليد الخفية التي تؤنسنه , من دون النزعة إلى الحرية يصبح الإنسان بالفعل أداة إنتاج مفكرة فقط , و كان تاريخ البشرية ليصبح تاريخ عبودية فقط , لا يغير السادة و لا المفكرون الواقع , إن نضال السفلة و الرعاع و الفقراء هو من غير و يغير العالم و دفاع السادة و خدمهم و أزلامهم عن الأمر الواقع , هو من استفز التطور الإنساني حتى الساعة و حتى نهاية هذا العالم ( إن صح أن لهذا العالم نهاية ) . ليس ما حققه البشر من حرية حتى اليوم نتاج إبداع بضعة عقول , إنه نتاج صراع الإنسان المقهور ضد خرافات أسياده واحدة تلو الأخرى . لذلك فإن العلم أو العقل ليسا خارج الإيديولوجيا , إنهما سيبقيان مؤدلجين ما دامت الحاجة قائمة للإيديولوجيا أو للخرافة , مادامت هناك حاجة لإقناع معظم البشرية , خاصة من يعمل و لا يملك و لا يحكم , "بضرورة" الخضوع لسلطة من لا يعمل و يملك و يحكم فقط..................
مازن كم الماز
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟