رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 927 - 2004 / 8 / 16 - 08:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الله – الشيطان – العبد
ثالوث الذات البشرية
1- ثالوث الذات والحضارة
... الله – الشيطان – العبد : ثلاثة وجوه لمخلوق واحد , هو : الإنسان . ثلاثة أرواح في الذات الواحدة .. ذات الإنسان . ثلاثة تجليات لشخصية واحدة , ثلاث طبقات في الطبقة الواحدة . الصفة المسيطرة في داخل الفرد , تحدد ماهيته وموقعه ودوره في الثالوث الميتافيزيقي . ولكن لا تستطيع أي من رؤوس المثلث أن تلغي الرأسين الآخرين بشكل مطلق . كل منا يجسد ذلك الثالوث . من حيث المحتوى , أما من حيث الصورة , فلابد من بروز رأس من المثلث , بحيث تختفي خلفه الصورتان الأخريان . والتصنيف وفقا لما سبق , يفرز الناس إلى : آلهة – شياطين – وعبيد , إنه توزيع للأدوار , استلزمته وفرضته الحضارة عبر التاريخ . وظل القانون العام للتطور الشامل , فهل هو قدر لايمكن تغييره وتعديله ؟
إن ثالوث الذات البشرية قد شكل قاعدة النظام الاجتماعي الرسمي , وجذر الثالوث الحضاري , ومحرك التاريخ الأساسي . وكان هدف النظام الرسمي الأول إنتاج وحماية الثنائية التي ينبني عليها : الآلهة والعبيد , ويمتلك ذلك النظام جهازه المناعي الخاص , ضد فيروسات الشياطين الكامنة في العضوية القائمة , والتي تنتج بحكم طبيعتها نقيضها . ولم يكن نظام الحماية قادرا بالمطلق على تحاشي الهزيمة , وتبادل الأدوار .
إن ثنائية : الآلهة – العبيد , لم تكن حلا , بل مشكلة تحتاج إلى حل , وهي لذلك كانت البيئة ذاتها التي تصنع الشياطين , وتعدهم لمحاربة وهدم النظام القائم , واستبداله بآخر , ولم تكن النتيجة سوى إعادة إنتاج النظام نفسه , فالصراع ما هو سوى دوران في حلقة مفرغة لافكاك منها . ولا يحدث سوى تبادل للأدوار في الثالوث إياه . وهذا ما يؤكد ثالوثية النظام المسيطر عبر التاريخ . فالله هو رأس النظام المسيطر , الله هو الديكتاتور أو الملك أو سمه ما شئت , إنه محور النظام المستبد , ومرجعيته الروحية والتشريعية , الساعية للخلود والسيطرة على كل شئ , ومصادرة الأزمنة , والأمكنة والبشر , مستخدمة لتحقيق إغراضها تلك بالبطش والإرهاب , ومكافحة الفطرة والناموس الطبيعي للحياة , ومهمة الله الرئيسية هي المحافظة على حياة العبد في داخل كل إنسان , وحراسته , ورعايته , تحاشيا لانفلات الإله أو الشيطان الكامن في ذاته , والمتربص للتحرر من قمقمه , وهو ما يهدد بنسف النظام الرسمي الاستبدادي لله .
العبد هو البيدق والقطيع والآلة الصماء التي تنفذ وتطيع وتستسلم لقدرها ( النظام ) , إنه الإنسان المقموع الذي ينفذ ويحرس ويدافع وينتحر دفاعا عن النظام الشمولي الذي لامصلحة له ببقائه والمحافظة عليه , وهو المتضرر الوحيد منه وفيه , إنه مجرد رقم .. برغي .. خروف .. وحطبة لاأكثر , ولكن طبقة العبيد لا تستسلم لقدرها بهذه البساطة , وليست منفصلة تماما عن الآلهة والشياطين , وفي داخلها تتفاعل وتتحرك طاقة وإرادة التمرد والعصيان والطموح للانتقال إلى الطبقات الأعلى والأفضل , وهي بحق طبقة احتياط وإمداد للطبقتين الأخريين , إنها تتحين الفرص للانخراط والانتساب للطبقات الأعلى . أما الشيطان فهو المتمرد المارق الخارج على ( النظام ) , والساعي إلى نسف شرعيته وأسسه بالوسائل كافة , وما هو في الواقع سوى رمز للمعارضة , سواء تلك التي تبقى في إطار الدين نفسه , أو تلك التي تقع خارجه , وليس أشد كرها للمعارضة من الله ونظامه الرسمي الدنيوي المسيطر , والذي لا يمكنه الاستمرار من دون حراسته بأساليب غاية في الفظاعة والوحشية , إن أي دعوة للتمرد والصحوة هي في نظر الإله ونظامه دعوة شيطانية , لاتهاون ولاتساهل معها , ولاحل لها سوى البطش والإعدام .
إن كل إنسان يختزن في ذاته مخلوقاته الميتافيزيقية كافة : الله – الشيطان – العبد , وما شابهها . وتبعا لبروز وسيطرة إحدى تلك الصفات على الشخصية , تتحدد هويتها وموقعها في رؤوس الثالوث , فهو – أي الإنسان – إما أن يكون إلها أو شيطانا أو عبدا , أما عن الرغبة والإرادة الكامنة في كل شخص , ولو في اللاوعي , فهي ولاشك , الرغبة في الألوهية ؟ وهي المرتبة الأعلى في النظام الديني – العسكري .. المغلق .. الشمولي .. والصارم .
ومن المهم التأكيد أن التحليل إياه .. لم يعد قائما على وجه التعميم , وفي عصرنا الراهن , سوى في بعض البلدان المتأخرة , والتي ليس لها وزن يعتد به , في مسيرة الحضارة العالمية المعاصرة , وإن دورها وتأثيرها إلى تضاؤل وتراجع مستمرين
2- ثنائية : الحقيقة والوهم
منذ أصبح الإنسان عاقلا , وهو لا يزال ضائعا بين الحقيقة والوهم . إنه يفتش عن الحقيقة في المكان غير المناسب , يبتعد عنها وهي أقرب إليه من ذاته , إنها في عينيه وقلبه ورأسه , ومع هذا , فهو لايراها , ولا يعرف كيف يقبض عليها , إنها في متناول يده التي يمدها إلى الوهم والسراب , ويقبض على اللاشئ , بدلا من أن يمسك بها , ويعثر عليها في داخله وذاته . تلك هي معاناة الإنسان الرئيسية منذ أدرك وامتلك العقل . وامتلك به عذاب الوهم .
إن حل إشكالية العلاقة بين الحقيقة والوهم , ظل الهاجس الذي يؤرق الإنسان , والسؤال الذي يجهل الإجابة عليه أكثر الناس , والمصدر المستمر للصراع فيما بينهم .
ما هو الوهم ؟ إنه اضطراب الرؤية والبصيرة , وعجزها عن التقاط الصورة الكلية , والتأليف بين أجزائها ومكوناتها , ما يؤدي إلى عبثية التأويل , ولامعقولية التصرف . وهومايعتبر على النقيض من الحقيقة تماما .
يبدأ الوهم حين نرى الحقيقة جزئيا , من زاوية محدودة , ومن ثم نبدأ بتعميمها وإطلاقها . وهو – أي الوهم – ليس سوى مغامرة العقل , التي انطلقت من قمقمها , ومضت بعيدا عن مصدرها وموطنها الأصلي , ووصلت في رحلتها إلى نقطة اللاعودة .وبالتالي اضطرت للانفصال عن الواقع , وتكوين مملكتها المستقلة نسبيا .
ماهي الحقيقة ؟ هي ثنائية : الجوهر والمظهر , العام والخاص , العلة والمعلول , المنتج والمنتوج , الصوت والصدى , الظل وصاحب الظل , وعندما يفصل العقل بين طرفي الثنائية , أو حينما يعكسها , يبدأ الوهم , وهو المرض الذي تصاب به الحقيقة غالبا , ويتسبب بمعاناة قاسية ومزمنة للناس . حيث يستبد الوهم بالحقيقة , ينفيها , يقصيها , يحاربها بلا هوادة , ليصون إمبراطورية الوهم من الانهيار . والعقل هو المسؤول والحارس لتلك الإمبراطورية , والمريض بها أيضا .
ما يميز الحقيقة عن الوهم , هو أن الحقيقة ذات طبيعة حية متجددة , فيما الوهم ذو طبيعة سكونية محنطة , الحقيقة تمتاز بالخصوبة .. والقدرة على التوليد والتناسل , بينما الوهم عاقر .. عقيم .. ومتطفل على الواقع .
وبقدر ما يتصف العقل بالحيوية , بقدر ما يمتلك الحقيقة , أما إذا كان يعاني من العطالة والسكونية , فإنه لن يمتلك سوى الوهم والأفكار الثابتة / الميتة/ المحنطة , التي تفسد ولا تصلح , ولا تصلح لمعالجة الحياة الجارية . ومهمة العقل تكمن بمواجهة الواقع بالأفكار الحية , لا بالأفكار الميتة . وهنا تبرز أهمية العلاقة بين وظيفتي العقل : الاتباعية والإبداعية . حيث
الأولى تسجل وتقلد , والثانية تفحص , تغربل , تختار , تؤسس , تبني , وتضيف . وتجعل الحياة أفضل . ولا يشعر العقل بالأمن والسلام إلا إذا كف عن الاستغراق في الوهم , وعبادته .
إن الحقيقة نجسد الحرية , فيما الوهم يجسد العبودية والاستبداد , وعلى العقل تقع مسؤولية الاختيار . ومن ينطلق من الحقيقة ينطلق نحو الحرية , ومن يتشبث بالوهم يتشبث بالعبودية والألم .
وما الوهم سوى صورة من صور الاغتراب العقلي – النفسي , ما يعني أنه مرض عضال يجثم على شخصيتنا , ويعمل فيها تخريبا وتدميرا . إنه عصاب طبع الحضارة بطابعه , منذ القديم . ولو أردنا التخلص منه , فلا مناص من الحرية دواء وترياقا له
للمقال تتمة
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟