|
الرواية : مَطهر 9
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3045 - 2010 / 6 / 26 - 15:15
المحور:
الادب والفن
لتفرّج الجَنّة ساقيْها ؛ فمن أيّ أبوابها يَلجُ الحَقُّ ؟ فيها أنسُ القلب والوصالُ الحَقُّ ونحنُ ، عشاقاً ، بها أحَقُّ ولكنه بابُ السرِّ ، من كنا نبغي وُلوجه ؛ فمن أيّ سبيل ومفتاحُهُ الحَقُّ ؟
حالما وَلجتُ دارَ الزعيم ، عَبْرَ بابه المُنفرج صفق درفتيْه ، عَرَتْ القشعريرة ُ كلّ خلجةٍ من خلجات جَسَدي ونفسي على السواء. عندئذٍ ، راحَ يَنخِسُ أنفي مَشامٌ مُعتق، غريبٌ، من أثر ذاكَ الحريق المَشؤوم ، مَشوباً بعَبق الذكرى. الوقتُ ، كانَ إذاك ظهراً ؛ فيه صَبٌ من حِمَم الهاجرَة، اللاهبَة ـ كأنما لمُضافرة آثار نكبة هذه الدار الحزينة، المَهجورة. " اُنظرْ إلى ما بَقيَ من المنزل ، المُوحِش ، الذي كانَ قبلاً بَهجة ً لعين الزائر " ، قلتُ لصديقي ميخائيل . ولكنه ، بالمقابل ، ما كانَ بحاجةٍ لشرح أو توضيح ؛ طالما أنني سبقَ وأعلمته بتفاصيل مأساة ظهيرة الانكشارية تلك ، التي ذهَبَتْ بالدار وأهلها معاً. في هذه الهُنيهة، المُبتدَهة بإطلالتي على أطلال الحبيبة ، كنتُ بحاجةٍ حقا لمن يُعزيني : إنّ القسم العلويّ من المنزل ، المُحتفي في زمَن مَجدِهِ بالمُطارحات الغراميّة كما والمكائد الغريمة، كانَ الآنَ مُتداع وأيلاً للإنهيار في لحظة وأخرى. على ذلك ، مَررنا حِذاء قاعة السلامْلك دونما أن ندخلها ، مُكتفين بارسال نظراتٍ خاطِفة ، مُبْتسَرة ، خلل أبوابها ونوافذها ، العديدة. " يبدو أنّ أولئك الأوباش ، الانكشاريين ، قد نهبوا كلّ ما صادفوه هنا " ، علّقَ صديقي على ما عايَنه من خلوّ تلك القاعات الكبرى ، الوسيعة ، من الأثاث والرياش والتحف. فأشرتُ إلى تلك الناحيَة ، قائلاً بأسى : " ثمة ، كانت تتمّ اجتماعات مجلس العموميّة ، وفيها حاصرَنا أفرادُ الأورطات عند هجومهم على الدار " . ثمّ أضفتُ ، مومئاً إلى جهة البحرَة " قبل ذلك ، كنا نجلس هناك ؛ أين تمّ ، على الأرجح ، تسميمُ آغا أميني ". " مما أمَدتني به أنتَ من معلومات ، فإنّ جرائمَ أخرى ، عديدة ، ارتكِبَتْ في هذه الدار ، المَنكوبَة. وعندي ، أنّ دسّ السمّ لآغا القول ، كانَ إحدى حلقات سلسلة الجرائم تلك " " إنها جريمة ٌ واحدة حَسْب ، تلك التي سَبَقتْ تسميم الآغا ؛ وهيَ مَصرَعُ وصيف الشاملي " ، أوضحتُ لمُحدّثي . وكنتُ مُعتقداً ، لوهلةٍ ، أنه يَخلط بين جريمَتيْ هذه الدار ومَثيلتيْهما ؛ اللتيْن اقترفتا ثمة، في دار الحديث البرّانية. بيْدَ أنّ ميخائيل ، مُبيّناً بدوره ما يَعنيه ، ما عتمَ أن أشارَ إلى الحَرَمْلك ، قائلاً : " أقصدُ حالات الوفاة المُلغزة ، الغامِضة ، التي سبقتْ ذلك ". فما أن نطقَ صديقي جملته ، حتى شعرتُ بضربَةٍ هيّنة على أمّ رأسي : إنه الدوّارُ نفسه ، الذي كنتُ اُحسّ به في كلّ سانِحَةٍ كانَ يَجدُّ فيها خبَرُ إحدى الجرائم تلك.
رغبة ٌ بالكشف مُلِحّة، هيَ من كانت تسوسُ فرَسَ إرادتي ، حينما وَجَدتني هنا ، في منزل الزعيم ؛ أينَ استهلّتْ سلسلة الجرائم المعلومة، الأربع. وكنتُ بطبيعة الحال ما أفتأ وقتئذٍ على جَهل ٍ، مُقيم ، بخصوص شخص القاتل ، المَجهول. على ذلك ، فقد شئتُ هذه المرّة الإستعانة بعقل صديقي الجديد ، السّديد ، علّني أتمكن من ربط تلك الجرائم ، الأربع ، مع بعضها البعض ؛ أنا من كانَ قد تاهَ عنها ، زمناً ، في غمرَة الأحداث العاصفة ، المُتواتِرَة ، التي هزّتْ مدينتنا في الآونة الأخيرة. وحسنٌ فعلتُ ، حينما أشرَكتُ ميخائيل بالأمر ، بعدما سبقَ أن استفدّتُ أيضاً من فِطنة وخِبرَة عبد اللطيف أفندي . ها هوَ صديقي ، وعلى حين غرّة ، يَطرَحُ عليّ مَسألة ً أكثر جِدّة ؛ بربطِهِ تلك الجرائم ، الأربع ، مع ما سَبَقها من حوادث الموت ، الغامضة ، التي يُعتقدُ ، على سبيل الشبهة ، أنّ كلاً من زوجة الزعيم ووصيفه قد دبّراها معاً. " حتى اللحظة ، لم أكن لأعرفُ ، قطعاً ، صحيحَ هذا الأمر من مَعلولِهِ " ، قلتُ للدكتور المُرشِد . نعم . قد يكونُ شعوري بأنّ خطوي يَتجه إلى طريقه ، المَطلوب ، ربما كانَ من وارد تلك المُلاحظة ، العابرَة ، التي فاهَ بها صديقي . بيْدَ أنّ حقيقة ً أقدَم عَهداً ، هيَ من كانَ عليها الآنَ أن تنير طريقي : العلاقة المُلتبسَة بينَ الأختيْن ، ياسمينة ونرجس ، وبين المَملوكيْن ، الروميّ والصقليّ. " ما رأيكَ ، دكتور ، أن نلقي نظرَة عن قرب على ذلك المكان ؟ " ، عدتُ أقولُ له مومئاً برأسي إلى جهة الحرملك . ولكنه ، كما بدا من تضييق عينيْه بشكّ ، ما كانَ مُتحمّساً لهكذا مغامرة . الحق ، فإنّ القسم العلويّ من الدار ، المُتهتك البنيان بفعل القصف والحريق ، كانَ على وشك الانهيار نهائياً وفي أيّ سانِحة ، مُحتملة. " الحديقة غير مُتضرّرَة ؛ فبامكانكَ انتظاري فيها ، ريثما أعودُ من فوق " ، اقترحتُ على صديقي مُجدّداً. إذاك ، تقدّمني مُتبسّماً نحوَ مَدخل الدرج المؤدي للحرملك ، والذي كانَ يُشبه في عمارَتِهِ رواقاً أنيقاً ، دقيقَ الحَجم . فبالرغم من عدَم قناعة ميخائيل بجَدوى هذا التصرّف ، إلا أنه أرادَ إظهار استهتاره بالخطر . بدوري ، كنتُ على يقين بأنّ مَبعَث تردّده ، الموصوف ، ما كانَ بدافع خشيتِهِ على نفسه.
عوارضُ مِحْنة منزل الشاملي ، كانت مُتجلّية ولا غرو في هذا القسم منه ، المَنكوب بشدّة . إلى مكان ٍ ياما شَهَدَ قبلاً مُناكدات نسوة الدار ومكائدهنّ ، علاوة ً على المُطارحات الغراميّة العارمَة ، رأيتني إذاً أعودُ ثانية ً بعدما اندثرَ ما سَلفَ من عزه وعترته. هناك ، في جهة الفناء المَسقوف ، القصيّة ، كانت تقوم حجرة ياسمينة، المسكينة ـ والمفقودة الأثر ؛ بحَسَب ما كنتُ مؤمناً به آنذاك. فبطبيعة الحال ، لا يُمكنني وَصف ما اعتراني في تلك الهنيهة ، المؤثرة ، التي كنتُ أهمّ خلالها الإطلالَ على حضور الحبيبة، الغائب ؛ التي كنتُ ، بالمقابل ، موقناً بأنها رَحَلتْ عني ، أبداً. فلو أنّ القيامَة ، القريبَة ، قد أذِنتْ هنيهتئذٍ لما كانَ لمَجامرها أن تخلّفَ أثرَها ، البيّن البُرهان ، أكثرَ مما رأته عيني ثمة ؛ في تلك الحجرة الحزينة ، المُحترقة كلياً : إنّ الرمادَ حَسْب ، كانَ قد بقيَ من أثر ذلك الجحيم ، المُضرَم الأوار ، الذي ذهَبَ بكائنات وموجوداتِ الحجرة جميعاً ؛ رماداً مُقدّساً ، كانَ جديراً ولا ريب بأن يُرفعَ فوقه ، لاحقاً ، قبّة ُ المَقام الياسميني. " لن نعثرَ على أثر ٍ ما ، هنا ؛ في هذه الحجرة المُحترقة تماماً " ، قالَ لي ميخائيل بنبرَة مُواسيَة أكثر منها مُتيقنة. وإذاً ، كانَ صديقي قد حَدَسَ بأني أبحثُ عن أثر ما ، مُحتمل ، يُمكن أن يَقودَ إلى كشفِ أستار القاتل، المَجهول. إلا أنني كنتُ جامِداً ما أفتأ ، فلم أستطع إجابته على الفور . وعلى ذلك ، ما لبثَ أن أردَفَ هوَ قائلاً فيما يَدُهُ تشير إلى جهة الباب الداخلي ، المُفضي للقبو : " علينا أن نجتاسَ ذلك المكان ، فربما تطرأ لنا علامة ٌ ثمّة، مُعيّنة ،على مرور ٍ دخيل ٍ، قد تساعدنا في بحثنا ". وكنتُ، من جهتي، قد فكّرتُ بالأمر نفسه مذ اللحظة التي وطأتُ فيها عَتبة الحجرة . فأومأتُ له برأسي مُوافقا ، ثمّ تقدّمتُ أولاً من مَدخل ذلك الباب الخشبي ، المُتفحّم بدوره ، والمُؤدي على كلّ حال للمَمرّ السرّي.
" هيَ ذي ساعة ٌ من البحث مَضتْ ، دونما أيّ نتيجة ، مُجديَة " ندّتْ عني بتأفف ، بينما كنتُ أهمُدُ قانطاً على أرضيّة القبو . وبينما كانَ صديقي يَضعُ المُشكاة جانباً ، لكي يَجلسَ بقربي ، فإني استعدّتُ مَشهَدَ تلك الظهيرة الأخيرة ، الجهنميّة ، التي قضيتها هنا ، في هذا المَكان المَنحوس : آنذاك ، كانَ المَملوكُ القبرصيّ هوَ من حملَ مصباح الإنارة ، حينما هممنا بالخروج من القبو عبْرَ بابه هذا ، المَفتوح على الممرّ . أمّا رفيقه ، الصقليّ ، فإنه كانَ قد تعهّدَ وزرَ البقجة الثقيلة ؛ التي حَوَتْ مُدّخرات سيّده ، الأثمن والأكثر قيمة. فجأة ً، سَطعَتْ صورة ُ نرجس ، البهيّة ، مُتماهية ملامحُها مع ملامح ياسمينة : " لا عَجَبَ في ذلك ، فإنهما أختان من أب واحدٍ " ، فكرتُ ببساطة وبحزن أيضاً. ولكنهما ، مَضيتُ مُفكّراً ، كانتا من والدتيْن مُختلفتيْن في الأصل والعقلية ، وفوق ذلك ، غريمَتيْن. فما أن بلغَ سرّي إلى نواطق أحرف المفردة الأخيرة ، حتى رأيتني أقفزُ من محلّي ـ كمَن أصيبَ بمَسّ : " هيا ، يا صديقي . هلمّ ندخل خلل هذا الباب ، علّنا نهتدي لشيء ذي قيمة في بحثنا ؛ ثمة ، داخل الممرّ السرّي " ، خاطبتُ ميخائيل بالهام مُباغتٍ . وكنتُ ، إحتياطاً ، قد طلبتُ من الزعيم مفتاحَيْ بابَيْ الممرّ ذاك ، حيث سبقَ لي أن استعملتُ أحدهما قبل قليل ؛ حينما كانَ عليّ النزول إلى القبو صُحبَة صديقي. وإذ لبثَ هذا مُتردّداً ، فإني ذكّرته بما سلفَ من حكايَة خطبة ياسمينة للمرحوم قوّاص آغا ؛ وما كانَ من اشتراطها عليه مهلة الألف يوم ويوم ، لحين أجل دَخلتها ، المَأمولة. بعدئذٍ ، ما عتمَ ميخائيل أن تحرّكَ بأثر خطواتي ، فيما كانَ يُهَمْهمُ بما ينمّ عن ريبَتِهِ بفكرتي تلك ، الخرقاء ؛ المُحيلة إلى ليالي شهرزاد ، الاسطوريّة. المهمّ ، أنه أشعلَ جذوة المشكاة ، ثمّ ناولني إياها لكي أتقدّمه في المَسير ، طالما أنني سبقَ واجتزتُ هذه البقعة مَرّتيْن : الأولى ، خلال الرؤيا ، التي جَمَعتني مع ياسمينة ، المسكينة ، بمواجهة إثنيْن من طائفة الجنّ ، الشريرة ؛ والمرّة الأخرى ، كنتُ فيها مغشياً عليّ في بحران الحمّى ، ومَحمولاً بالتناوب على كلّ من كتفيْ المَملوكيْن ، المَلوليْن .
تلك الرؤيا ، عليها كانَ أن تضيء ذاكرتي الآنَ ، فيما أنا أتوغل في الغلسَة ، لأستعيدَ بالتالي تيْهي خلل النفق ؛ الذي يبدو أنه بدوره مُتعدّد المَمرات . فما أن أنهيتُ شرَحَ الأمر لصديقي ، حتى كنا فعلاً أمامَ مُفترق طريقيْن ، ضيّقيْن نوعاً ، يؤدّي كلّ منهما إلى جهة مُختلفة . إذاك ، وَرَدَ في خاطر صديقي فكرة ٌ جديدة ، جيّدة : أن يَعمَدَ كلّ منا ، بدوره ، إلى المضيّ في احدى المَمرَيْن ، وأن يتقابلَ مع صاحبهِ عند الإياب في نفس نقطة الانطلاق. " ولكن ، ما العمل وليسَ لدينا سوى مصباحٌ واحدٌ ، فقط ؟ " ، سألتُ ميخائيل . فأطرقَ قليلاً وهوَ يقدَحُ ذهنه ، ثمّ ما لبثَ أن رفع رأسه مُبتسماً بألفة : " أنتَ تعلم أني أدخنُ الغليون ، فلن يكونَ عسيراً عليّ الاستعانة ببصيص حَجَرَة الاشتعال ، الخاصّة به ". وهكذا كان . فما لبثنا أن ودّعنا بعضنا البعض بتلك المسحَة من المَرَح ، المُغطيَة على قلقنا وهواجسنا : وإذ لم يكن من شيمَة صديقي ، الدهريّ ، أن يَخشى الجنّ وهوَ في عمق مملكتهم ؛ فإني ، بالمقابل ، كنتُ مَذعوراً من فكرة الالتقاء بأحدهم ؛ أنا من كانَ وقتئذٍ أعزلَ من خاتم النجاة ؛ المُرَقش على وجهه اسمُ مولانا ، قدّسَ سرّه. وبما أنيّ مسلمٌ، ولله الحمد ، فلا غرو أن أختارَ الممرّ ذاك ، الكائن على جهة يمين المَفرق . وبيُمْن نيّتي ، الصافيَة ، سِرْتُ مُستعيناً بنور المشكاة في تسهيل طريقي كما وتبديد مخاوفي. إنّ هذا الممرّ الفرعيّ هذا، شأنَ أصله الرئيس ، كانَ ذا أرضيّة مُتربَة ، فيما كانَ سقفه مَشغولاً بمُجزعات الحَوْر ، المَنحوتة. وكانت تفوحُ من المَكان رائحة ُ الرطوبَة والعَفن ، المُثيرة للتقزز . ولم يكُ من النادر ، هنا ، أن يَصدِفَ مرورُ جرذٍ قذر ، مُتطفل ، كيما يُضافر من كربَة النفس وأمارَة جزَعِها . حتى إذا انتهيتُ ، أخيراً ، إلى جدار مَسدودٍ ، فإني أيقنتُ بأنّ ثمة فتحة ما ، أو مَنفذ ، يُفضي إلى خارج الممرّ . أخذتُ بتحسّس سطحَ الجدار بأناملي ، المُرتعشة ، إلى أن عثرتُ على تجويفٍ فيه ، طولانيّ ، هداني بدوره إلى تجويفٍ آخر ، سفليّ : وكانَ ذلكَ هوَ بابُ المَخرج ، حيث دلّتني أناملي إلى أنه مصنوعٌ من الخشب الغليظ ، المُدعّم بصفائح عريضة من الفولاذ . من هذه المادّة المعدنية ، الصُلبَة ، صُنِعَ أيضاً الساقط والدقارة. فما هيَ إلا هنيهةٍ قصيرة من المُعالجَة ، وكانَ البابُ طوعَ يَميني . نورٌ باهِرٌ ، هوَ ما أعشى عينيّ أولاً ، قبلَ أن يَتسنى لهما مُعايَنة ما يُحيطهما من مناظر.
" إنه نهرُ القنوات ، ما في ذلك من رَيْب " هتفَ داخلي ، المُفرَخ الرَوع ، بسرور وبهجة. كانَ المكانُ يليقُ بسرّ الممرّ ، فعلاً . إذ طوِّقَ مَخرجُ النفق بأجمَة كثيفةٍ من شجيراتٍ دغليّة ، خشِنة الملامِس ، مما يَجعلها غيرَ مَرغوبَة بالاجتياز من لدن الأشخاص الفضوليين ، المُحتمل مرورهم بهذه البقعة الموحِشة ، النائيَة. فضلاً عن كون باب المخرج مَخفياً بعناية بوساطة طفيلياتٍ أخرى ، نباتيّة ؛ من طحالب وأشنات وفطرياتٍ ، ناميَة على سطحه الخشبيّ ، العتيق القِدَم . كذلك ، فإنّ الباب بنفسه كانَ واطئاً للغايَة ، بسبب تناهي عدّة درجات إليه من الداخل. وإذاً ، في هذا الفجّ من الخضرة اليانعة ، المُونقة بثمار الأشجار المُختلفة والضاجّ بطنين النحل والزنابير، رأيتني أجرجرُ أقدامي هنا وهناك ، فيما بصري على الوتيرة نفسها من الحركة. ولكن ، عمّ كنتُ أبحثُ ثمة ، حقيقة ً؟ في واقع الحال ، فإني لم أكن أعرفُ جواباً آنئذٍ . وربما لا أعرفه الآنَ أيضاً ، بعد ذلك العمر المديد ، الذي مضى ؛ وحينما أخط كلمات كناشي هذه على أوراقٍ مَنذورةٍ ، مثل العمر سواءً بسواء ، للضياع والعَدَم . بيْدَ أنّ بَحثي ، المُطوّل نوعاً ، لم يَذهبَ سُدىً في آخر المطاف. فما أن همَمَتُ بترك المكان ، يائساً من جدوى المكوث فيه ، حتى جُذِبَ بَصري فجأة ً نحوَ شجيرَة تين ، غضّة الأغصان والأوراق ، كانت مُهيمنة بظلالها وبعُرْفها ، الحرّيف ، على مدخل باب النفق : فعلى جذع الشجيرة ، الصقيل المَلمَس ، كانَ ثمّة نقشٌ مَنحوت بعناية بوساطة آلة حادّة ، على الأرجح . وبدا لعيني ، من الوهلة الأولى ، أنّ ذلك كانَ يُمثل شكلَ الخنجر. فحينما دققتُ في النقش عن قرب، إذا بي أهتفُ مُروَّعاً : " يا ربّ السمَوات ، العُلى. إنه صورة عن الذكر الخشبيّ ، المُصنَّع ؛ الذي كانت تتسلى به ياسمينة ". فما أنْ نطقتُ كلمتي ، حتى أجفلتُ ثانية ً؛ إذ خيّل إليّ أنّ ثمّة حركة ً ما ، مُريبة ، تصْدُرُ من مكان قريب.
" الشكرُ لله ، لأنّ هذا المَمرّ ، الذي اخترتهُ أنتَ ، لم يكن طويلاً مثل شقيقه ذاكَ " خاطبني ميخائيل بصوتٍ خفيض ، حالما أطلّ من باب النفق ووقعَ نظره عليّ . قدّرتُ ودونما حاجةٍ لسؤال ، أنّ صديقي فقدَ صبرَهُ في المَمرّ الآخر ، وكانَ أن فضلَ الرجوعَ ، القهقرى ، لكي يُلاقيني هنا أخيراً . ما أن تأملني الدكتورُ عن كثب ، حتى قدّرَ ، من جهته ، أنّ تسمّري هناك ، الواجم ، له داع ٍ مُستطير . فما عتمَ أن تقدّمَ مني،على الفور، مُستفهماً عن جليّة المسألة : " لا بدّ أنّ لقية ً ثمينة ، مَطلوبة ، جعلتكَ في هذه الحال من الخبَل " ، قالها بشيء من المَرَح. وكنتُ لحظتئذٍ أكثر سروراً بلقائه ثمة، أمامَ باب المخرج. فأجبته بما يُشبه لهجتِهِ : " اُنظرْ يا عزيزي ، هنا ". ثمّ أضفتُ شارحاً مَغزى النقش " لقد سبقَ لي ، كما تذكر ربما ، أن قصصتُ على مَسمَعكَ حكاية الذكر ذاكَ ، المُصنع ؛ الذي جلبَ فكرته ، من بلاده ، مَملوكُ الزعيم ، القبرصيّ . وها هوَ ذا ، الآنَ ، مَنقوشٌ كصورةٍ على جذع هذه التينة . لِتشغِلنّ دماغكَ الكبير، إذاً ، كيما توافيني برأيكَ في لغز ما تراهُ عينكَ " " إنكَ مُصيبٌ بتوصيفكَ لهذا النقش ؛ بأنه لغزٌ " ، قالَ لي صديقي ساهِماً بفكره بعيداً . ثمّ ما لبَثَ أن أخلدَ للصمت ، فيما كانت حجرتا عينيْه ، الرماديتيْن ، ما فتأتا تتنقلان بخفة خلل شكل النقش ذاك. ثمّ إذا به يقولُ بهدوء ، وهوَ يُحرّك يدَهُ هذه المرّة فوقَ جبينه : " إذا كانَ من عَمَدَ إلى نحتِ هذه الصورة هوَ صاحبُنا ، المُتورّط بذبح الوصيف ، فمن المُمكن أن يكونَ قد تخلّص من أداة القتل برميها في مكان ما ، هنا " " رائع ، يا دكتور . إنها فكرة رائعة ، حقاً " ، هتفتُ لصديقي مُباركاً له نباهته وفطنته. على ذلك ، ودونما أن نضيّعَ وقتاً في المُناقشة ، قمنا للتوّ نسعى خلفَ تلك الأداة ، الموسومة. كانَ من الطبيعي ، ولا غرو ، أن نستهلّ بحثنا بتمحيص المكان الظليل ، المُشكّل من أفياء شجيرة التين ، المُباركة ، ذات المَشام المُميّز ، الطاغي . وحينما شدّدتُ على بركة التينة ، فليسَ لأنها مَنحتني ذاكَ النقش حَسْب ، بل وأيضاً الخنجر ذاته ، المُستعمل في نحتِهِ. نعم. كانَ ذلك خنجراً ، في آخر الأمر ـ كما حَدَستُ قبلاً ، دائماً وباصرار. أمّا المفاجأة ، الحَقة ، فكانت تنتظرُ كلانا ، أنا والدكتور ، حينما مُسِحَ أثرُ الطين ، الجاف ، من على تلك الأداة ، القاتلة. إذاك ، طالعنا نقشٌ على صفحةِ قبضة الخنجر ، العاجيّة ، مكتوبٌ بأحرف عربيّة ، واضحة : " الزعيم ".
> ويليه الفصل السادس من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " مَجمر " ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرواية : مَطهر 8
-
الرواية : مَطهر 7
-
الرواية : مَطهر 6
-
الرواية : مَطهر 5
-
الرواية : مَطهر 4
-
الرواية : مَطهر 3
-
الرواية : مَطهر 2
-
الرواية : مَطهر
-
الأولى والآخرة : صراط 7
-
الأولى والآخرة : صراط 6
-
الأولى والآخرة : صراط 5
-
الأولى والآخرة : صراط 4
-
الأولى والآخرة : صراط 3
-
الأولى والآخرة : صراط 2
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|