أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 9















المزيد.....

الرواية : مَطهر 9


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3045 - 2010 / 6 / 26 - 15:15
المحور: الادب والفن
    


لتفرّج الجَنّة ساقيْها ؛
فمن أيّ أبوابها يَلجُ الحَقُّ ؟
فيها أنسُ القلب والوصالُ الحَقُّ
ونحنُ ، عشاقاً ، بها أحَقُّ
ولكنه بابُ السرِّ ، من كنا نبغي وُلوجه ؛
فمن أيّ سبيل ومفتاحُهُ الحَقُّ ؟

حالما وَلجتُ دارَ الزعيم ، عَبْرَ بابه المُنفرج صفق درفتيْه ، عَرَتْ القشعريرة ُ كلّ خلجةٍ من خلجات جَسَدي ونفسي على السواء. عندئذٍ ، راحَ يَنخِسُ أنفي مَشامٌ مُعتق، غريبٌ، من أثر ذاكَ الحريق المَشؤوم ، مَشوباً بعَبق الذكرى. الوقتُ ، كانَ إذاك ظهراً ؛ فيه صَبٌ من حِمَم الهاجرَة، اللاهبَة ـ كأنما لمُضافرة آثار نكبة هذه الدار الحزينة، المَهجورة.
" اُنظرْ إلى ما بَقيَ من المنزل ، المُوحِش ، الذي كانَ قبلاً بَهجة ً لعين الزائر " ، قلتُ لصديقي ميخائيل . ولكنه ، بالمقابل ، ما كانَ بحاجةٍ لشرح أو توضيح ؛ طالما أنني سبقَ وأعلمته بتفاصيل مأساة ظهيرة الانكشارية تلك ، التي ذهَبَتْ بالدار وأهلها معاً. في هذه الهُنيهة، المُبتدَهة بإطلالتي على أطلال الحبيبة ، كنتُ بحاجةٍ حقا لمن يُعزيني : إنّ القسم العلويّ من المنزل ، المُحتفي في زمَن مَجدِهِ بالمُطارحات الغراميّة كما والمكائد الغريمة، كانَ الآنَ مُتداع وأيلاً للإنهيار في لحظة وأخرى. على ذلك ، مَررنا حِذاء قاعة السلامْلك دونما أن ندخلها ، مُكتفين بارسال نظراتٍ خاطِفة ، مُبْتسَرة ، خلل أبوابها ونوافذها ، العديدة.
" يبدو أنّ أولئك الأوباش ، الانكشاريين ، قد نهبوا كلّ ما صادفوه هنا " ، علّقَ صديقي على ما عايَنه من خلوّ تلك القاعات الكبرى ، الوسيعة ، من الأثاث والرياش والتحف. فأشرتُ إلى تلك الناحيَة ، قائلاً بأسى : " ثمة ، كانت تتمّ اجتماعات مجلس العموميّة ، وفيها حاصرَنا أفرادُ الأورطات عند هجومهم على الدار " . ثمّ أضفتُ ، مومئاً إلى جهة البحرَة " قبل ذلك ، كنا نجلس هناك ؛ أين تمّ ، على الأرجح ، تسميمُ آغا أميني ".
" مما أمَدتني به أنتَ من معلومات ، فإنّ جرائمَ أخرى ، عديدة ، ارتكِبَتْ في هذه الدار ، المَنكوبَة. وعندي ، أنّ دسّ السمّ لآغا القول ، كانَ إحدى حلقات سلسلة الجرائم تلك "
" إنها جريمة ٌ واحدة حَسْب ، تلك التي سَبَقتْ تسميم الآغا ؛ وهيَ مَصرَعُ وصيف الشاملي " ، أوضحتُ لمُحدّثي . وكنتُ مُعتقداً ، لوهلةٍ ، أنه يَخلط بين جريمَتيْ هذه الدار ومَثيلتيْهما ؛ اللتيْن اقترفتا ثمة، في دار الحديث البرّانية. بيْدَ أنّ ميخائيل ، مُبيّناً بدوره ما يَعنيه ، ما عتمَ أن أشارَ إلى الحَرَمْلك ، قائلاً : " أقصدُ حالات الوفاة المُلغزة ، الغامِضة ، التي سبقتْ ذلك ". فما أن نطقَ صديقي جملته ، حتى شعرتُ بضربَةٍ هيّنة على أمّ رأسي : إنه الدوّارُ نفسه ، الذي كنتُ اُحسّ به في كلّ سانِحَةٍ كانَ يَجدُّ فيها خبَرُ إحدى الجرائم تلك.

رغبة ٌ بالكشف مُلِحّة، هيَ من كانت تسوسُ فرَسَ إرادتي ، حينما وَجَدتني هنا ، في منزل الزعيم ؛ أينَ استهلّتْ سلسلة الجرائم المعلومة، الأربع. وكنتُ بطبيعة الحال ما أفتأ وقتئذٍ على جَهل ٍ، مُقيم ، بخصوص شخص القاتل ، المَجهول. على ذلك ، فقد شئتُ هذه المرّة الإستعانة بعقل صديقي الجديد ، السّديد ، علّني أتمكن من ربط تلك الجرائم ، الأربع ، مع بعضها البعض ؛ أنا من كانَ قد تاهَ عنها ، زمناً ، في غمرَة الأحداث العاصفة ، المُتواتِرَة ، التي هزّتْ مدينتنا في الآونة الأخيرة.
وحسنٌ فعلتُ ، حينما أشرَكتُ ميخائيل بالأمر ، بعدما سبقَ أن استفدّتُ أيضاً من فِطنة وخِبرَة عبد اللطيف أفندي . ها هوَ صديقي ، وعلى حين غرّة ، يَطرَحُ عليّ مَسألة ً أكثر جِدّة ؛ بربطِهِ تلك الجرائم ، الأربع ، مع ما سَبَقها من حوادث الموت ، الغامضة ، التي يُعتقدُ ، على سبيل الشبهة ، أنّ كلاً من زوجة الزعيم ووصيفه قد دبّراها معاً.
" حتى اللحظة ، لم أكن لأعرفُ ، قطعاً ، صحيحَ هذا الأمر من مَعلولِهِ " ، قلتُ للدكتور المُرشِد . نعم . قد يكونُ شعوري بأنّ خطوي يَتجه إلى طريقه ، المَطلوب ، ربما كانَ من وارد تلك المُلاحظة ، العابرَة ، التي فاهَ بها صديقي . بيْدَ أنّ حقيقة ً أقدَم عَهداً ، هيَ من كانَ عليها الآنَ أن تنير طريقي : العلاقة المُلتبسَة بينَ الأختيْن ، ياسمينة ونرجس ، وبين المَملوكيْن ، الروميّ والصقليّ. " ما رأيكَ ، دكتور ، أن نلقي نظرَة عن قرب على ذلك المكان ؟ " ، عدتُ أقولُ له مومئاً برأسي إلى جهة الحرملك . ولكنه ، كما بدا من تضييق عينيْه بشكّ ، ما كانَ مُتحمّساً لهكذا مغامرة . الحق ، فإنّ القسم العلويّ من الدار ، المُتهتك البنيان بفعل القصف والحريق ، كانَ على وشك الانهيار نهائياً وفي أيّ سانِحة ، مُحتملة.
" الحديقة غير مُتضرّرَة ؛ فبامكانكَ انتظاري فيها ، ريثما أعودُ من فوق " ، اقترحتُ على صديقي مُجدّداً. إذاك ، تقدّمني مُتبسّماً نحوَ مَدخل الدرج المؤدي للحرملك ، والذي كانَ يُشبه في عمارَتِهِ رواقاً أنيقاً ، دقيقَ الحَجم . فبالرغم من عدَم قناعة ميخائيل بجَدوى هذا التصرّف ، إلا أنه أرادَ إظهار استهتاره بالخطر . بدوري ، كنتُ على يقين بأنّ مَبعَث تردّده ، الموصوف ، ما كانَ بدافع خشيتِهِ على نفسه.

عوارضُ مِحْنة منزل الشاملي ، كانت مُتجلّية ولا غرو في هذا القسم منه ، المَنكوب بشدّة . إلى مكان ٍ ياما شَهَدَ قبلاً مُناكدات نسوة الدار ومكائدهنّ ، علاوة ً على المُطارحات الغراميّة العارمَة ، رأيتني إذاً أعودُ ثانية ً بعدما اندثرَ ما سَلفَ من عزه وعترته. هناك ، في جهة الفناء المَسقوف ، القصيّة ، كانت تقوم حجرة ياسمينة، المسكينة ـ والمفقودة الأثر ؛ بحَسَب ما كنتُ مؤمناً به آنذاك.
فبطبيعة الحال ، لا يُمكنني وَصف ما اعتراني في تلك الهنيهة ، المؤثرة ، التي كنتُ أهمّ خلالها الإطلالَ على حضور الحبيبة، الغائب ؛ التي كنتُ ، بالمقابل ، موقناً بأنها رَحَلتْ عني ، أبداً. فلو أنّ القيامَة ، القريبَة ، قد أذِنتْ هنيهتئذٍ لما كانَ لمَجامرها أن تخلّفَ أثرَها ، البيّن البُرهان ، أكثرَ مما رأته عيني ثمة ؛ في تلك الحجرة الحزينة ، المُحترقة كلياً : إنّ الرمادَ حَسْب ، كانَ قد بقيَ من أثر ذلك الجحيم ، المُضرَم الأوار ، الذي ذهَبَ بكائنات وموجوداتِ الحجرة جميعاً ؛ رماداً مُقدّساً ، كانَ جديراً ولا ريب بأن يُرفعَ فوقه ، لاحقاً ، قبّة ُ المَقام الياسميني.
" لن نعثرَ على أثر ٍ ما ، هنا ؛ في هذه الحجرة المُحترقة تماماً " ، قالَ لي ميخائيل بنبرَة مُواسيَة أكثر منها مُتيقنة. وإذاً ، كانَ صديقي قد حَدَسَ بأني أبحثُ عن أثر ما ، مُحتمل ، يُمكن أن يَقودَ إلى كشفِ أستار القاتل، المَجهول. إلا أنني كنتُ جامِداً ما أفتأ ، فلم أستطع إجابته على الفور . وعلى ذلك ، ما لبثَ أن أردَفَ هوَ قائلاً فيما يَدُهُ تشير إلى جهة الباب الداخلي ، المُفضي للقبو : " علينا أن نجتاسَ ذلك المكان ، فربما تطرأ لنا علامة ٌ ثمّة، مُعيّنة ،على مرور ٍ دخيل ٍ، قد تساعدنا في بحثنا ". وكنتُ، من جهتي، قد فكّرتُ بالأمر نفسه مذ اللحظة التي وطأتُ فيها عَتبة الحجرة . فأومأتُ له برأسي مُوافقا ، ثمّ تقدّمتُ أولاً من مَدخل ذلك الباب الخشبي ، المُتفحّم بدوره ، والمُؤدي على كلّ حال للمَمرّ السرّي.

" هيَ ذي ساعة ٌ من البحث مَضتْ ، دونما أيّ نتيجة ، مُجديَة "
ندّتْ عني بتأفف ، بينما كنتُ أهمُدُ قانطاً على أرضيّة القبو . وبينما كانَ صديقي يَضعُ المُشكاة جانباً ، لكي يَجلسَ بقربي ، فإني استعدّتُ مَشهَدَ تلك الظهيرة الأخيرة ، الجهنميّة ، التي قضيتها هنا ، في هذا المَكان المَنحوس : آنذاك ، كانَ المَملوكُ القبرصيّ هوَ من حملَ مصباح الإنارة ، حينما هممنا بالخروج من القبو عبْرَ بابه هذا ، المَفتوح على الممرّ . أمّا رفيقه ، الصقليّ ، فإنه كانَ قد تعهّدَ وزرَ البقجة الثقيلة ؛ التي حَوَتْ مُدّخرات سيّده ، الأثمن والأكثر قيمة.
فجأة ً، سَطعَتْ صورة ُ نرجس ، البهيّة ، مُتماهية ملامحُها مع ملامح ياسمينة : " لا عَجَبَ في ذلك ، فإنهما أختان من أب واحدٍ " ، فكرتُ ببساطة وبحزن أيضاً. ولكنهما ، مَضيتُ مُفكّراً ، كانتا من والدتيْن مُختلفتيْن في الأصل والعقلية ، وفوق ذلك ، غريمَتيْن. فما أن بلغَ سرّي إلى نواطق أحرف المفردة الأخيرة ، حتى رأيتني أقفزُ من محلّي ـ كمَن أصيبَ بمَسّ : " هيا ، يا صديقي . هلمّ ندخل خلل هذا الباب ، علّنا نهتدي لشيء ذي قيمة في بحثنا ؛ ثمة ، داخل الممرّ السرّي " ، خاطبتُ ميخائيل بالهام مُباغتٍ . وكنتُ ، إحتياطاً ، قد طلبتُ من الزعيم مفتاحَيْ بابَيْ الممرّ ذاك ، حيث سبقَ لي أن استعملتُ أحدهما قبل قليل ؛ حينما كانَ عليّ النزول إلى القبو صُحبَة صديقي. وإذ لبثَ هذا مُتردّداً ، فإني ذكّرته بما سلفَ من حكايَة خطبة ياسمينة للمرحوم قوّاص آغا ؛ وما كانَ من اشتراطها عليه مهلة الألف يوم ويوم ، لحين أجل دَخلتها ، المَأمولة.
بعدئذٍ ، ما عتمَ ميخائيل أن تحرّكَ بأثر خطواتي ، فيما كانَ يُهَمْهمُ بما ينمّ عن ريبَتِهِ بفكرتي تلك ، الخرقاء ؛ المُحيلة إلى ليالي شهرزاد ، الاسطوريّة. المهمّ ، أنه أشعلَ جذوة المشكاة ، ثمّ ناولني إياها لكي أتقدّمه في المَسير ، طالما أنني سبقَ واجتزتُ هذه البقعة مَرّتيْن : الأولى ، خلال الرؤيا ، التي جَمَعتني مع ياسمينة ، المسكينة ، بمواجهة إثنيْن من طائفة الجنّ ، الشريرة ؛ والمرّة الأخرى ، كنتُ فيها مغشياً عليّ في بحران الحمّى ، ومَحمولاً بالتناوب على كلّ من كتفيْ المَملوكيْن ، المَلوليْن .

تلك الرؤيا ، عليها كانَ أن تضيء ذاكرتي الآنَ ، فيما أنا أتوغل في الغلسَة ، لأستعيدَ بالتالي تيْهي خلل النفق ؛ الذي يبدو أنه بدوره مُتعدّد المَمرات . فما أن أنهيتُ شرَحَ الأمر لصديقي ، حتى كنا فعلاً أمامَ مُفترق طريقيْن ، ضيّقيْن نوعاً ، يؤدّي كلّ منهما إلى جهة مُختلفة . إذاك ، وَرَدَ في خاطر صديقي فكرة ٌ جديدة ، جيّدة : أن يَعمَدَ كلّ منا ، بدوره ، إلى المضيّ في احدى المَمرَيْن ، وأن يتقابلَ مع صاحبهِ عند الإياب في نفس نقطة الانطلاق.
" ولكن ، ما العمل وليسَ لدينا سوى مصباحٌ واحدٌ ، فقط ؟ " ، سألتُ ميخائيل . فأطرقَ قليلاً وهوَ يقدَحُ ذهنه ، ثمّ ما لبثَ أن رفع رأسه مُبتسماً بألفة : " أنتَ تعلم أني أدخنُ الغليون ، فلن يكونَ عسيراً عليّ الاستعانة ببصيص حَجَرَة الاشتعال ، الخاصّة به ". وهكذا كان . فما لبثنا أن ودّعنا بعضنا البعض بتلك المسحَة من المَرَح ، المُغطيَة على قلقنا وهواجسنا : وإذ لم يكن من شيمَة صديقي ، الدهريّ ، أن يَخشى الجنّ وهوَ في عمق مملكتهم ؛ فإني ، بالمقابل ، كنتُ مَذعوراً من فكرة الالتقاء بأحدهم ؛ أنا من كانَ وقتئذٍ أعزلَ من خاتم النجاة ؛ المُرَقش على وجهه اسمُ مولانا ، قدّسَ سرّه.
وبما أنيّ مسلمٌ، ولله الحمد ، فلا غرو أن أختارَ الممرّ ذاك ، الكائن على جهة يمين المَفرق . وبيُمْن نيّتي ، الصافيَة ، سِرْتُ مُستعيناً بنور المشكاة في تسهيل طريقي كما وتبديد مخاوفي. إنّ هذا الممرّ الفرعيّ هذا، شأنَ أصله الرئيس ، كانَ ذا أرضيّة مُتربَة ، فيما كانَ سقفه مَشغولاً بمُجزعات الحَوْر ، المَنحوتة. وكانت تفوحُ من المَكان رائحة ُ الرطوبَة والعَفن ، المُثيرة للتقزز . ولم يكُ من النادر ، هنا ، أن يَصدِفَ مرورُ جرذٍ قذر ، مُتطفل ، كيما يُضافر من كربَة النفس وأمارَة جزَعِها . حتى إذا انتهيتُ ، أخيراً ، إلى جدار مَسدودٍ ، فإني أيقنتُ بأنّ ثمة فتحة ما ، أو مَنفذ ، يُفضي إلى خارج الممرّ . أخذتُ بتحسّس سطحَ الجدار بأناملي ، المُرتعشة ، إلى أن عثرتُ على تجويفٍ فيه ، طولانيّ ، هداني بدوره إلى تجويفٍ آخر ، سفليّ : وكانَ ذلكَ هوَ بابُ المَخرج ، حيث دلّتني أناملي إلى أنه مصنوعٌ من الخشب الغليظ ، المُدعّم بصفائح عريضة من الفولاذ . من هذه المادّة المعدنية ، الصُلبَة ، صُنِعَ أيضاً الساقط والدقارة. فما هيَ إلا هنيهةٍ قصيرة من المُعالجَة ، وكانَ البابُ طوعَ يَميني . نورٌ باهِرٌ ، هوَ ما أعشى عينيّ أولاً ، قبلَ أن يَتسنى لهما مُعايَنة ما يُحيطهما من مناظر.

" إنه نهرُ القنوات ، ما في ذلك من رَيْب "
هتفَ داخلي ، المُفرَخ الرَوع ، بسرور وبهجة. كانَ المكانُ يليقُ بسرّ الممرّ ، فعلاً . إذ طوِّقَ مَخرجُ النفق بأجمَة كثيفةٍ من شجيراتٍ دغليّة ، خشِنة الملامِس ، مما يَجعلها غيرَ مَرغوبَة بالاجتياز من لدن الأشخاص الفضوليين ، المُحتمل مرورهم بهذه البقعة الموحِشة ، النائيَة. فضلاً عن كون باب المخرج مَخفياً بعناية بوساطة طفيلياتٍ أخرى ، نباتيّة ؛ من طحالب وأشنات وفطرياتٍ ، ناميَة على سطحه الخشبيّ ، العتيق القِدَم . كذلك ، فإنّ الباب بنفسه كانَ واطئاً للغايَة ، بسبب تناهي عدّة درجات إليه من الداخل. وإذاً ، في هذا الفجّ من الخضرة اليانعة ، المُونقة بثمار الأشجار المُختلفة والضاجّ بطنين النحل والزنابير، رأيتني أجرجرُ أقدامي هنا وهناك ، فيما بصري على الوتيرة نفسها من الحركة.
ولكن ، عمّ كنتُ أبحثُ ثمة ، حقيقة ً؟
في واقع الحال ، فإني لم أكن أعرفُ جواباً آنئذٍ . وربما لا أعرفه الآنَ أيضاً ، بعد ذلك العمر المديد ، الذي مضى ؛ وحينما أخط كلمات كناشي هذه على أوراقٍ مَنذورةٍ ، مثل العمر سواءً بسواء ، للضياع والعَدَم .
بيْدَ أنّ بَحثي ، المُطوّل نوعاً ، لم يَذهبَ سُدىً في آخر المطاف. فما أن همَمَتُ بترك المكان ، يائساً من جدوى المكوث فيه ، حتى جُذِبَ بَصري فجأة ً نحوَ شجيرَة تين ، غضّة الأغصان والأوراق ، كانت مُهيمنة بظلالها وبعُرْفها ، الحرّيف ، على مدخل باب النفق : فعلى جذع الشجيرة ، الصقيل المَلمَس ، كانَ ثمّة نقشٌ مَنحوت بعناية بوساطة آلة حادّة ، على الأرجح . وبدا لعيني ، من الوهلة الأولى ، أنّ ذلك كانَ يُمثل شكلَ الخنجر. فحينما دققتُ في النقش عن قرب، إذا بي أهتفُ مُروَّعاً : " يا ربّ السمَوات ، العُلى. إنه صورة عن الذكر الخشبيّ ، المُصنَّع ؛ الذي كانت تتسلى به ياسمينة ". فما أنْ نطقتُ كلمتي ، حتى أجفلتُ ثانية ً؛ إذ خيّل إليّ أنّ ثمّة حركة ً ما ، مُريبة ، تصْدُرُ من مكان قريب.

" الشكرُ لله ، لأنّ هذا المَمرّ ، الذي اخترتهُ أنتَ ، لم يكن طويلاً مثل شقيقه ذاكَ "
خاطبني ميخائيل بصوتٍ خفيض ، حالما أطلّ من باب النفق ووقعَ نظره عليّ . قدّرتُ ودونما حاجةٍ لسؤال ، أنّ صديقي فقدَ صبرَهُ في المَمرّ الآخر ، وكانَ أن فضلَ الرجوعَ ، القهقرى ، لكي يُلاقيني هنا أخيراً . ما أن تأملني الدكتورُ عن كثب ، حتى قدّرَ ، من جهته ، أنّ تسمّري هناك ، الواجم ، له داع ٍ مُستطير . فما عتمَ أن تقدّمَ مني،على الفور، مُستفهماً عن جليّة المسألة : " لا بدّ أنّ لقية ً ثمينة ، مَطلوبة ، جعلتكَ في هذه الحال من الخبَل " ، قالها بشيء من المَرَح.
وكنتُ لحظتئذٍ أكثر سروراً بلقائه ثمة، أمامَ باب المخرج. فأجبته بما يُشبه لهجتِهِ : " اُنظرْ يا عزيزي ، هنا ". ثمّ أضفتُ شارحاً مَغزى النقش " لقد سبقَ لي ، كما تذكر ربما ، أن قصصتُ على مَسمَعكَ حكاية الذكر ذاكَ ، المُصنع ؛ الذي جلبَ فكرته ، من بلاده ، مَملوكُ الزعيم ، القبرصيّ . وها هوَ ذا ، الآنَ ، مَنقوشٌ كصورةٍ على جذع هذه التينة . لِتشغِلنّ دماغكَ الكبير، إذاً ، كيما توافيني برأيكَ في لغز ما تراهُ عينكَ "
" إنكَ مُصيبٌ بتوصيفكَ لهذا النقش ؛ بأنه لغزٌ " ، قالَ لي صديقي ساهِماً بفكره بعيداً . ثمّ ما لبَثَ أن أخلدَ للصمت ، فيما كانت حجرتا عينيْه ، الرماديتيْن ، ما فتأتا تتنقلان بخفة خلل شكل النقش ذاك. ثمّ إذا به يقولُ بهدوء ، وهوَ يُحرّك يدَهُ هذه المرّة فوقَ جبينه : " إذا كانَ من عَمَدَ إلى نحتِ هذه الصورة هوَ صاحبُنا ، المُتورّط بذبح الوصيف ، فمن المُمكن أن يكونَ قد تخلّص من أداة القتل برميها في مكان ما ، هنا "
" رائع ، يا دكتور . إنها فكرة رائعة ، حقاً " ، هتفتُ لصديقي مُباركاً له نباهته وفطنته. على ذلك ، ودونما أن نضيّعَ وقتاً في المُناقشة ، قمنا للتوّ نسعى خلفَ تلك الأداة ، الموسومة. كانَ من الطبيعي ، ولا غرو ، أن نستهلّ بحثنا بتمحيص المكان الظليل ، المُشكّل من أفياء شجيرة التين ، المُباركة ، ذات المَشام المُميّز ، الطاغي . وحينما شدّدتُ على بركة التينة ، فليسَ لأنها مَنحتني ذاكَ النقش حَسْب ، بل وأيضاً الخنجر ذاته ، المُستعمل في نحتِهِ. نعم. كانَ ذلك خنجراً ، في آخر الأمر ـ كما حَدَستُ قبلاً ، دائماً وباصرار.
أمّا المفاجأة ، الحَقة ، فكانت تنتظرُ كلانا ، أنا والدكتور ، حينما مُسِحَ أثرُ الطين ، الجاف ، من على تلك الأداة ، القاتلة. إذاك ، طالعنا نقشٌ على صفحةِ قبضة الخنجر ، العاجيّة ، مكتوبٌ بأحرف عربيّة ، واضحة : " الزعيم ".

> ويليه الفصل السادس من الرواية ؛ وهوَ بعنوان " مَجمر " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5


المزيد.....




- وفاة الممثل الأمريكي فال كيلمر عن عمر يناهز 65 عاماً
- فيلم -نجوم الساحل-.. محاولة ضعيفة لاستنساخ -الحريفة-
- تصوير 4 أفلام عن أعضاء فرقة The Beatles البريطانية الشهيرة ...
- ياسمين صبري توقف مقاضاة محمد رمضان وتقبل اعتذاره
- ثبت تردد قناة MBC دراما مصر الان.. أحلى أفلام ومسلسلات عيد ا ...
- لمحبي الأفلام المصرية..ثبت تردد قناة روتانا سينما على النايل ...
- ظهور بيت أبيض جديد في الولايات المتحدة (صور)
- رحيل الممثل الأمريكي فال كيلمر المعروف بأدواره في -توب غن- و ...
- فيديو سقوط نوال الزغبي على المسرح وفستانها وإطلالتها يثير تف ...
- رحيل أسطورة هوليوود فال كيلمر


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 9