غادة عبد المنعم
مفكرة
الحوار المتمدن-العدد: 3033 - 2010 / 6 / 13 - 20:19
المحور:
الادب والفن
عند تأملك لأفيش مهرجان كان فى دورته الحالية تطالعك صورة الممثلة الفرنسية جوليت بينوش بتلك الابتسامة المبهجة والمكتملة، التى كأنها تدعونا للحاق بها والدخول لعالم السينما حيث نستمتع بتلك اللحظة من الفهم الهادئ السعيد. فى هذا الأفيش لم يكن غريبا أن نراها بهذا الهدوء وكأنها تقصد أن تصدنا فتزرع فينا الرغبة فى الانسلال للدخول، والتهيؤ للمشاهدة والاستقبال. أو أن نراها كأنها هى نفسها فن السينما بغموضه الذى لولا أنه يردك ويطالبك بالتعمق فيه لنسيته بعد مشاهدتك الأولى لأفلامه ... إنها الممثلة ذات الروح الكبيرة فى الفن الأكثر انتشارا وإثارة.
جوليت بينوش تلك الروح الخفيفة التى يمكنك أن تلمسها، وتختلط بحوافها كلما شاهدت لها فيلما، الممثلة التى قد تكون صاحبة الروح الأخف بين ممثلين السينما فى العالم. فهى
لا تتقمس أبدا أى دور تؤديه..!!؟ هذا على الرغم من أن (التقمس) هى الكلمة الأعظم فى الأداء التمثيلى، و الحالة الأكثر تعقيدا بالنسبة لأي ممثل. ما تفعله جوليت عندما تقترب من أى دور هو أنها تترك روحها الخفيفة لتتسع فتدخل منها منطقة الشخصية فتستطيع بذلك القبض على حالة كل شخصية تؤديها، و تتلون بها.
هذه هى السهولة التى تنعكس على المتفرج وهو يشاهدها فيشعر كأنه يصاحب روحها أو يمسها. يعتقد المشاهد كلما شاهد ممثلين كبار من أصحاب الأرواح المتسعة مثلها، أنهم لا يبذلون مجهودا ليؤدون شخصيات أدوارهم، لكنهم على العكس من ذلك يبذلون مجهوداَ لا يمكننا إداركه.
فى تصورى بينوش تحاول بجهد مستمر الغوص والاختلاط بكل دور تؤديه، جهد لا يأتيها من الذهن، ولا من التقصى الذهنى لحالة كل شخصية، ولكن من الروح الدءوبة فى محاولتها للفهم، أو بالأحرى للاختلاط بحالة روح أخرى تجسدت على الورق.. هى لا تمر بمرحلة التخيل، ولا بمرحلة الملاحظة، أو التقمس، وبالطبع لا تمر بمرحلة إعادة الإنتاج لما درسته من ملامح خارجية لكل شخصية تؤديها، لكنها فقط تترك نفسها أو بالأحرى روحها لتتشبع بروح شخصية ما على الورق، شخصية تستيقظ فيها، وكأنها ولدت فى هذا الجسد أوكأن الجسد تبدل بروحه التى اشتملت ما هو طارئ عليها لتبتعد ولو قليلا عن تاريخها الشخصى، وتصبح هى نفسها الشخصية المتخيلة.
أدوار جوليت بينوش تشهد على ذلك ففى فيلم شيكولاته مثلا، وهو فى تصورى الفيلم الذى يمكنك رؤية بينوش فيه فى دور يوازى سحرها الشخصى، حيث الدور الذى رشحت عنه للمرة الأولى لجائزة الأوسكار، نرى بينوش وهى تؤدى شخصية ساحرة، لبائعة الشيكولا ته، تلك السيدة التى يمكنها أن تصنع الحب والبهجة، القادرة على تغيير البشر حولها نراها وقد اقتربت تماما من دورها حتى أنها كانت كالبطلة التى تجسدها، تصنع الشيكولا ته فى اللوكيشن أثناء تصوير الفيلم وتوزعها على زملائها ربما متصورة أن بإمكانها أن تحدث نفس التأثير الذى تحدثه الشخصية التى تجسدها، هى ربما لا يمكنها كالشخصية التى كانت تؤديها أن تسحر القلوب بشيكولاتة من صنعها لكنها بلاشك تستطيع أن تمد حتى قلبك شريط خفيف من النور لتستميلك للمعنى الأعمق من مجرد أحداث الفيلم بل لتستميلك للروح الحالمة نفسها لفيلم شيكولاته.
وعلى عكس ظهورها الحالم المتألق فى هذا الدور نجدها فى فيلم Breaking and Entering"" أو ما يمكن ترجمة اسمه بـ " انفصال والتحام " تظهر كشخصية منطفئة تماما عارية من سحر الحزن أو بهجة الحب وبلا أى دفاعات للاستحواذ على حس المشاهد، فى أول نصف ساعة من الفيلم يندهش المشاهد لموافقتها على لعب هذا الدور فمن بداية الفيلم لا تلمس وجودها الطاغي، لكنك بالتدريج تلحظه ينسرب لك من روحها مباشرة، لتعكس لك جوهر مشاعر الأم، هذا الجوهر الذى قبضت عليه تماما، الأم الحائرة فى النصف الأول مع ابنها المراهق الذى لا تعلم كيف تتواصل معه ، فى مجتمع الغربة وحيث لا تعرف كيف تعيش وتتعامل فى مجتمع معادى لحد كبير بينما لا تدرك ماذا يمكنها فعله سوى أن تترك نفسها عاجزة غير قادرة على التحكم فى شيء، حالمة بالعودة للوطن فى صمت دون أن ُتطلع حتى ابنها على هذه الرغبة ودون أن تجرؤ حتى على الحلم بتحققها كأنثى. ثم نراها فى النصف الثاني من الفيلم وشخصيتها تتطور وتظُهر الكثير من الإصرار و القوة، هذا الإصرار الذى لا يلين لأم وهى تختصر لحظتها فى حس حماية ابنها بأي شكل؟ تنتقل شخصيتها من الضعف للقوة دون أن يشعر المشاهد بخلل فى أداء الممثلة ولا بدهشة للتألق الذى يحل محل الانطفاء. فى هذا الدور يمكنك من خلال أدائها وحتى فى اللحظات الأولى لظهورها على الشاشة أن تتأكد أنها تلعب دور مهاجرة أو مواطن من الأقليات فهى تعكس بمهارة هذا الارتباك المتردد، والتردد الحائر من ثقافة، ومن قواعد لا تعرفها لمجتمع الغربة، أو بالأحرى قواعد تعرفها دول أن تفهمها أو تتمكن من التفاعل معها. هذا النوع من الغربة الذى يلتهم الجزء الفرح المطمئن من الروح.
فى فيلم المريض الانجليزي نجد أن المخرج "أنتونى منجله" قد عثر على ضالته عندما أسند لها دور الممرضة وهو الدور الذى حصلت عنه على جائزة الأوسكار عام 1996فهو لم يكن فى حاجة لممثلة مبهرة الجمال لتؤدى له الدور الوحيد فى الفيلم الذى يرمز للحياة، لكنه احتاج لممثلة ممتلئة بالحياة لتؤدى دور ممرضة عادية. تلك الشخصية الوحيدة فى الفيلم التى لو غابت منه أو تم حذفها لصار من الصعب على المشاهد أن يتمم مشاهدته . فوسط الموت المحقق من جهة، والرغبة فى الموت من جهة أخرى تشع "جوليت بينوش" بالحياة لتُطمئن المشاهد، كأمل فى حياة ستتحقق بعد الحرب، أمل فى تجدد لابد وأن يحدث. أو كقطرة من التفاؤل وجودها ضرورى فى فيلم يدور حول الموت ليس فقط ليتمكن المشاهد من إتمام رؤيته للفيلم، ولكن لأن الحياة التى استمرت بعد الحرب العالمية لم يكن من الممكن أن تستمر لولا أن بذورها كانت موجودة وقت الحرب، خاملة ربما، ولكن حقيقية ومنتظرة لتنبت من جديد.
فى فيلم "أزرق" الجزء الأول من ثلاثية المخرج كسلويسكى "ألوان" نجد "جوليت بينوش" تكرر هنا تمثيل شخصية تحتاج لعكس تنوع فى طبيعتها، فشخصية "جولي" فى الفيلم، ليست من هذا النوع الأحادى الرومانسى الذى يعكس مجرد لحظة عابرة تمتد إلى مالا نهاية، لكنها شخصية حقيقية أكثر ثراء، أرادها المخرج أن تتجلى لنا محاطة بأجواء شاعرية ومع ذلك أرادها أن تظهر فى بنائها هذا التناقض بين ما هو حياتي عادى وغير شاعري وبين ما هو شاعري رومانسي. ففى الأجواء التى أراد المخرج أن ينسج فيها أحداث فيلمه تتألق "جوليت بينوش" بنوع من الأداء قد يصدمك وينفرك من إكمال الفيلم لو لم تكن الممثلة التى تؤديه تدرك أنها تؤدى من منطقتين مختلفتين فالجزء الأول من الفيلم تسيطر عليه الرومانسية، أما فى النصف الثاني فتبدأ الشخصية فى التحول لشخصية عادية تحمل من التصميم والإصرار لإنسان حقيقى ما يوازى ما تحمله من حزن تراجيدي رومانتيكى لشخصية الأم المفجوعة فى موت ابنتها، والأرملة المفجوعة فى موت زوجها. فى هذا الفيلم استطاعت "جوليت بينوش" بملامحها الفرنسية التقليدية أن تعكس سمات التكوين التقليدى للشخصية الفرنسية كما هو محفوظ فى الذهنية العالمية للمشاهد، كما عكس أدائها الكثير من السمات المخزونة فى ذهن المشاهد لهذه الشخصية فخلطت بين الجانب العملي لدى الفرنسيين والذى يظهرهم كشخصيات ساعية للتجويد وهو الذى يمنح للشخصية الفرنسية سمتها وشكلها الحضاري مع الجانب الآخر لها، الذى يتمثل فى التماهى فى الرومانسية ومحبة الفنون، وهو الجانب الذى يسيطر علي الشخصية الفرنسية ويعطيها طابع الفنان.
هذه هى الممثلة "جوليت بينوش". نجمة مهرجان كان الذى انقضت دورته منذ أيام والتى كانت تتصدر أفيشه مرحبة بزواره ومحبيه من محبي فن السينما فى كل أنحاء العالم.
#غادة_عبد_المنعم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟