|
سفر الخروج / 3
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 3020 - 2010 / 5 / 31 - 13:07
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
سفر الخروج / 3
تتوجب التحية للسيد عذري مازغ وقد انبرى لنقد أطروحتي حول محطة الإنحطاط التي تحط فيها البشرية اليوم واحتمالات الخروج من هذه المحطة الكارثية. الحق أنني كنت أكتب أطروحتي هذه والتي استغرقت عدة حلقات على صفحات " الحوار المتدن " وفي ذهني استثارة بعض العناصر في الأحزاب " الشيوعية " التي لم تتفتت بعد، وقد انقلبت لأحزاب تمثل حقاً طبقة البورجوازية الوضيعة، استثارتها للإهتمام بمستقبل الإنسانية بمثل ما أرادهم مؤسس الأممية الثالثة بكل أحزابها الشيوعية فلاديمير لينين، ومن باب أن كارل ماركس لم يقضِ عمره يصمم مشروعا من خياره بل كتب ما كتب وقال ما قال مدفوعاً بالاهتمام بمستقبل الإنسان. السيد عذري لم يتجاهل مستقبل الإنسانية كتجاهل الأحزاب الشيوعية، التي انقلبت لأحزاب للبورجوازية الوضيعة، ولذلك انبرى يقول أن المخارج التي افترضها فؤاد النمري ليست محتملة وليست صحيحة. ولذلك فقط أرجوه أن يتقبل تحياتي بغض النظر عن النتائج التي توصل إليها نقده للأطروحة.
أسفت حقاً لأن السيد عذري دخل المعركة بلا سلاح، وكان عليه ألا يفعل ذلك، إذ يحزننا أن يهزم وهو من طلائع المناضلين لخير وسعادة البشرية. معركة النقد تقتضي الناقد قبل كل شيء أن يتسلح بسلاح النقد الوحيد وهو امتلاك الحقيقة مقابل أخطاء وضلالة المنقود. نقرأ السيد عذري يقول أن المخارج التي افترض النمري احتمالها هي عملياً غير محتملة، لكنه سكت لدهشتنا ولم يشر إلى أي إحتمال أو مخرج آخر، ولكأنه يقول أن العالم ليس في أزمة خلافاً لما يقوله اليوم كل علماء الإقتصاد والساسة من شتى المشارب. لو أنني تحدثت " بمكر "، كما يقول السيد عذري، عن المخارج المحتملة الثلاث لرتب ذلك عليه أن يحمي قراءه من مكر النمري ويشير إلى المخرج الحقيقي من الأزمة الحالية أو أن يؤكد لهم، على الأقل، أن الحال هو عال العال وليس هناك من أزمة كما يدعي النمري. لا أدري كيف أن السيد عذري لم يعِ أنه كان يطلق رصاصاته خارج الهدف. فاحتمالات المخارج الثلاث ــ أقول احتمالات لأنها مجرد مقترحات ــ كان أولها والأرجح إحتمالاً هو نهاية التاريخ، كأن تنهيه حرب نووية بين أمريكا وروسيا وتعيد العالم إلى العصر الحجري، هو الأرجح لأن الطبقة الوسطى الحاكمة في الطرفين لا تمتلك مشروعاً تنموياً يتكفل بتوفير وسائل العيش للناس، فطريقها مسدودة بإحكام. من المرجح بعد أن يتملكها اليأس والإحباط وتتحقق من أنه لم يعد لها مكان في التاريخ أن ترتكب حماقة تهديم الهيكل على من فيه قبل أن تغادر المسرح. أما الإحتمال الثاني فهو يعتمد على تبكير الشيوعيين باسترداد وعيهم الماركسي، الذي كانوا قد فقدوه إثر هزيمة البروليتاريا العالمية على يد خروشتشوف وعصابته، لاستخدامه في فتح منفذ ييسر خروج العالم من أزمته الكارثية. والإحتمال أو المقترح الثالث هو أن تهب جماهير المعدمين المتحدرين من الطبقة الوسطى في طور انهيارها، أن تهب وتأخذ الأمور بأيديها وتعود إلى الإنتاج البضاعي لكن ليس إلى الإطار الرأسمالي الذي أكدت استحالته على عكس ما ادعى السيد عذري لاستغرابي أنني دعوت إليه.
الإرباك الذي أربك خطاب عذري ناجم كما تبدّى عن أن عذري مسكون بالفلسفة. كارل ماركس وفردريك إنجلز حملا نعش الفلسفة على كتفيهما ودفناها في مقبرة التهويمات المثالية وعوّضا عنها علم الديالكتيك ومع ذلك ظل السيد عذري مسكون بالفلسفة التي لا تسمح له بالإحاطة الكافية بعلم الديالكتيك. وطالما أن الشيء بالشيء يذكر تستحضرني هنا حادثة حدثت معي. دعيت قبل سنوات لإلقاء كلمة في مؤتمر ل " فلاسفة " الشرق الأوسط وفوجئت أثناء إلقائي للكلمة بصياح وصراخ من العديدين بين الحضور "الفلاسفة" يشتمونني ويسبونني فكان أن انسحبت محتجاً على منظمي المؤتمر لدعوتي كي أخطب في من يزعقون بدعم الإرهاب في بغداد باعتبارهم فلاسفة ! أعتذر من السيد عذري فأنا لا أرغب ولا أستطيع أن أقارنه بعصابات البعث الصدامي التي عاشت امتيازاتها من دماء الشعب العراقي، إلا أن الفلسفة تستجر الفلسفة. المسكونون بالفلسفة لا يستطيعون الإحاطة بكل مفاعيل علم الديالكتيك. لم يعد هناك فلسفة في العالم بل هناك علم الديالكتيك.
كمسكون بالفلسفة يضل السيد عذري كلما اقترب من علم الديالكتيك. فهو ينكر، لدهشتنا كونه دارساً للفلسفة، أن تطور الشيء إنما هو النتيجة المباشرة لصراع الأضداد في ذات الشيء. وبما أن الأمر هو كذلك فإن تسارع صراع الأضداد من شأنه أن يسارع في تراكم التطورات الكمية التي تؤدي إلى التغير الكيفي. هذا من بداهة القول دون أن يكون علي واجب الإستشهاد كما يطالبني السيد عذري اللهمّ إلا إذا كان يعتقد بأن تطور الأشياء يحدث بعيداً عن صراع الأضداد وحينذاك لن يكون لنا كلام معه قال ما قال وكتب ما كتب. كما لا يؤمن السيد عذري بأن صراع الأضداد يمكن أن يفشل ويضمحل قبل تحقيق التغيّر النوعي، كأن يفشل الصراع بين الرأسماليين والعمال وينطفئ قبل أن يفجر الثورة الإشتراكية. ينكر هذا رغم أنه ثابت في القانون العام للديالكتيك كما هو قائم اليوم. تراجعت البروليتاريا في مختلف البلدان الرأسمالية و الإشتراكية سابقاً. فبعد أن كان عدد البروليتاريا في الولايات المتحد أكثر من 70 مليونا في خمسينيات القرن الماضي هو اليوم بحدود 30 مليوناً فقط، وكان في بريطانيا 30 مليوناً وهو اليوم 12 مليوناً فقط. تنكمش البروليتاريا بنسبة 60% وذلك لا يجعل السيد عذري يوافق على أن الصراع بين البروليتاريا والرأسماليين قد تراجع واضمحل ! كما لا يوافق بأن شبح الثورة الإشتراكية لم يعد يحوم في سماء العالم مثلما رآه ماركس وإنجلز قبل أكثر من مائة وستين عاماً دون أن يعلل ذلك. ولنا هنا أن نذكّر السيد عذري بأن كارل ماركس قد أشار إلى أن التناقض بين العبيد والسادة انطفأ في روما قبل نهاية القرن الخامس دون أن ينقل العالم إلى النظام الإقطاعي، واحتاج العالم لأكثر من أربعة قرون أخرى كي ينتقل من عصر العبودية إلى عصر الإقطاع بل إن الإقطاع لم يكتمل حتى في عهد السلطنة العثمانية في أوائل القرن العشرين.
مسألة أخرى تعتور إحاطة السيد عذري بعلم الديالكتيك وهي التعاون بين النقيضين كي يتم الصراع المتزامن بين الطرفين. الشرط بتواجد النقيضين المتزامن داخل الوحدة الواحدة كي تكون هذه الوحدة مستقلة في الوجود هو بحد ذاته تعاون بين النقيضين. فلولا تعاون الألكترون والبروتون بالإنجذاب لبعضهما لما اصطرعا حتى كانت هناك ذرة الهيدروجين، ومثل ذلك كل العناصر الأخرى. الموجات الضوئية والصوتية تتكون من تضاغط يعقبه تخلخل ولولا هذا التخلخل لما تشكل التضاغط التالي ولما انتقل الصوت ولا الضوء. وفي الأجسام الحية تولد الخلايا لتموت ولو لم يلد الموت معها لما ولدت أصلاً. لا يمكن أن يدخل الرأسماليون والعمال في صراع قبل تعاون الطرفين في تشكيل مؤسسة الإنتاج الرأسمالية. الرأسمالي يجهز المكان والمكائن والمواد الخام قبل أن يستقدم العمال للشغل. ومن المفيد هنا أن نتمعن في قيمة المنتوج فهي تنقسم إلى قسمين، الأول ويحتوي على قيمة المواد الخام وقيمة بدل إستهلاك المكائن وبدل الإيجار وتجهيز المكان، والقسم الثاني وهو القيمة المضافة وتنقسم إلى قسمين الأول قيمة مجمل الأجور والثاني القيمة الزائدة التي يختلسها الرأسمالي من جملة القيمة المضافة. لا تتواجد السلع في الأسواق إلا بتعاون العمال مع الرأسماليين ولو أن جوهر هذه السلع هو الصراع. وليس عقد العمل المعقود بين الرأسمالي والعامل إلا شروطا للتعاون بين الطرفين.
جزعت كثيراً بعد أن قرأت الحلقة الثانية من مقالة السيد عذري في نقد سفر الخروج وقد وجدته لغوا لا طائل منه سوى العودة إلى القول بأن الطبقة الوسطى ليست هي الطبقة السائدة في المجتمعات الرأسمالية؛ بل حتى لو أن ما أقوله هو الصحيح فالطبقة التي كانت متوسطة أصبحت طبقة رأسمالية كونها غدت الطبقة التي تمتلك أدوات الإنتاج. السيد عذري يتجاهل كبرى الحقائق الماثلة اليوم في العالم الرأسمالي سابقاً. يتجاهل أن 80% من مجمل الإنتاج القومي للولايات المتحدة الأميركية هو من الخدمات التي يتم إنتاجها لا بوساطة أية أدوات إنتاج ولا أية رؤوس أموال. ثم إن امتلاك أدوات الإنتاج ليس هو ما يحدد نظام الإنتاج، فالفلاح يمتلك أدوات إنتاجه لكنه ليس رأسمالياً. ما هو حدّي هنا هو تقسيم العمل؛ فمن ينتج الخدمة يستطيع أن يبادل إنتاجه مستقلاً في السوق بل وحتى في غير السوق، لكن البروليتاري لا يستطيع أن يبيع قوة عمله إلا للرأسمالي كي ينتج بالتعاون مع عمال كثيرين سلعة يمكن مبادلتها في السوق. هذا هو بالضبط ما يميز البورجوازي الوضيع عن البروليتاري. الطبقة الرأسمالية ممثلة بالخمسة الكبار في مؤتمر رامبوييه لم تنتحر كما أحب أن يسخر السيد عذري بل وجدت نفسها قد خرجت من التاريخ ولا سبيل لعودتها، خرجت من التاريخ بفعل ثورة التحرر الوطني العالمية التي استندت على ظهور الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العظمى كاقوى قوة في الأرض. نظام الإنتاج الرأسمالي خرج من التاريخ لكن صناديق الرأسماليين كانت ما زالت مترعة بالأموال، وتحدث الإقتصاديون في السبعينيات عن بحيرتين (Two Pools) من الدولارات بحيرة اليورودولار أو الدولار الأوروبي وبحيرة البترودولار أو الدولار النفطي. معنى الإنتحار تحقق في أن الرأسماليين خلال السنوات الأربعة التالية للمؤتمر 1976 ـ 1980 وزعوا على الدول النامية التي قطعت الروابط معهم حديثاً ما يناهز 2 تريليون دولاراً رغم أنهم يعرفون تماماً أنها دول غير مليئة، فكان أن تضاعفت ديون العالم الدولية خلال تلك الفترة القصيرة خمس عشرة مرة. ويجب ألا يفوتنا هنا الإعتراض المنيع على فهم السيد عذري لأطروحة ماركس حول ارتفاع معدل (وخطان تحت كلمة معدل) فائض القيمة بعدد أقل من العمال وإلا فالرأسمالي الذي يشغّل أربعة عمال فقط يربح أكثر من ذاك الذي يشغّل أربعمائة !! ومن لديه أدنى إلمام بفائض القيمة لآ يمكن أن يلغو بمثل هذا اللغو. فائض القيمة يتجسد بقيمة الإنتاج لساعات العمل الزائدة عن الساعات اللازمة لإنتاج قيمة جهد العامل المبذول. ولذك فكلما زاد عدد العمال بمعدل إنتاج ثابت كلما زاد فائض القيمة. ويجب ألا ننسى هنا أن الرأسمالي يعمد إلى ترك 3 ــ 4% من قوة العمل المتاحة معطلة لا تعمل وهو ما يساعده على التحكم بمعدل الأجور.
بغض النظر عن مدى اهتمام السيد عذري بالعمل الشيوعي فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن بداية نجاح أو فشل العمل الشيوعي تتوقف على تحديد هوية العدو الطبقي للبروليتاريا وهو ما يحدد أرض المعركة وسلاحها كما يحدد التاكتيك بمختلف مندرجاته مثل قوى الإحتياط بين معركة وأخرى. النمري يؤكد أن عدو الشيوعيين (والإنسانية) اليوم هو الطبقة الوسطى التي هي على استعداد لأن تدمر العالم كل العالم وليس فقط الثروة والبيئة، وأما عذري مازغ قيقول أن العدو هو نفس العدو قبل مائتي عام لم يتغير ولم يتبدل وهو الرأسماليون. لن يقطع في أمر هذا الخلاف سوى الحقائق القائمة على الأرض وليس التنظيرات المبتسرة.
فؤاد النمري
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بين الرأسمالية والإستهلاكية
-
أزمة اليونان مرة أخرى
-
ما تفسير الأزمة في اليونان؟
-
سفر الخروج 2
-
سفر الخروج
-
حول أطروحة المحطة المنحطة مسدودة المنافذ
-
حميد كشكولي ضد الإشتراكية
-
محطة الإنحطاط التي تحط فيها البشرية اليوم
-
تاريخ الإنسان كتبته العبودية وليس الحرية
-
تطوير العمل الفكري والثقافي للحزب الشيوعي العراقي
-
هل الرأسمالية متقدمة على الإشتراكية !؟
-
من يفتح ملف الإشتراكية !؟
-
ليس شيوعياً من يغطي على الأعداء الفعليين للشيوعية
-
القانون العام للحركة في الطبيعة (الديالكتيك)
-
الوحدة العضوية للثورة في عصر الإمبريالية
-
البورجوازية الوضيعة وليس الصغيرة ..
-
نحو فهم أوضح للماركسية (3)
-
نحو فهم أوضح للماركسية (2)
-
نحو فهم أوضح للماركسية
-
رسالة إلى أحد الديموقراطيين الليبراليين
المزيد.....
-
موسكو: ألمانيا تحاول التملّص من الاعتراف بحصار لينينغراد إبا
...
-
مظاهرات بألمانيا السبت وغدا ضد اليمين المتطرف
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 589
-
تحليل - فرنسا: عندما يستخدم رئيس الوزراء فرانسوا بيرو أطروحا
...
-
برقية تضامن ودعم إلى الرفاق في الحزب الشيوعي الكوبي.
-
إلى الرفيق العزيز نجم الدين الخريط ومن خلالك إلى كل مناضلات
...
-
المحافظون الألمان يسعون لكسب دعم اليمين المتطرف في البرلمان
...
-
استأنفت نيابة العبور على قرار إخلاء سبيل عمال شركة “تي أند س
...
-
استمرار إضراب عمال “سيراميك اينوفا” لليوم السابع
-
جنح مستأنف الخانكةترفض استئناف النيابة وتؤيد قرار إخلاء سبيل
...
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|