أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 5















المزيد.....


الأولى والآخرة : صراط 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3020 - 2010 / 5 / 31 - 10:43
المحور: الادب والفن
    


البَحْرُ ، البحر . إنه هذا الخائلُ ، المُتجبّر ، المُستحيلُ إرضائه .
ها أنا ذا هنا ، في سفينة الطوفان ، لا برّ لي . لا يمامة ثمة ، في الأفق ، تبددُ قنوطي ببضعة من طين ، حقير ؛ علامة خلاص . ومن الطين ، خلِقَ جَسَدُ آدم وإلى أصله عادَ ليندسّ ، أبداً . أما الروح ، فإنها ليسَتْ من أيّ مكان ولا من أيّ مادّة . إنّ النصَبَ يَهُدّ بَدَني ، كما وروحي سواءً بسواء . ومثلما الأمر مع فجأتي بأيّ حَدَس ، مُرتبط مع جريمة ، جديدة ؛ ها هوَ الدوارُ يُمسك بتلابيب الروح والبدَن . إلا أنه دوارٌ دائمٌ ، خبيثٌ ، يَرجعُ على أدراجه بين فينة وفينة ، وبالكاد يُفارق راكبَ البحر . إنّ هذا اليمّ ، الخِضمّ ، مَقدورٌ لا فكاكَ من أغلاله ، طالما أنّ سَفرَ المَركب ضروريٌ ، ومن المُحال الإستغناء عنه . كم تشبه حياةُ المَرء ، المركبَ. فالعمر رحلة ٌ، تنتهي في ساحل بحر الحياة ، وقد تحطمَ مركبُها على أسنة الصخور السرمديّة ، الأبديّة . إنّ البحرَ لعنة ٌ، مثلما هيَ الحياة .
" أتشعُر ببعضَ التحسّن ، يا آغا ؟ " ، يسألني القاروط مُجدداً . وكما في كلّ مرّة ، لم يكن الرجلُ ينتظرُ جوابي . مظهري الرثّ ، المُتهالك ، هوَ من كانَ عليه أن يتكلّم دوماً . كنتُ مع البك هنا ، فوق سطح المركب ، بين الكائنات والمُجرّدات ، يُحيطنا الأزرقُ من كلّ جانب ويَهمي على رؤوسنا ، أيضاً . وحينما قلتُ أنّ الحياة َ لعنة ٌ، فالأزرق لونها ولا شكّ . إنه لونُ الإفرنج ، الأثير في مُفاضلة ألوان الطبيعة ؛ كما أنّ الأخضرَ لونُ الإسلام ، المُفضل. الأزرقُ ، سَماءٌ مُستحيلة الركوب ، وبَحرٌ إغواءُ ـ كالخطيئة المُهلكة .
أما الأخضر ، فبَرٌّ معشوشبٌ بالأمان والسكينة والهدوء : إنني أتوقُ الآنَ لهذا اللون ، المتواشج مع روحي ، في حضور خصْمِهِ ، الخطِر ـ كما توقي للصُحبَة ، الحَبيبة ، في وجودِ عدوّي ، المُبين .

بيْدَ أنّ القاروط ، آنئذٍ ، لم يكن قد أفصحَ لي عن عداوته بعدُ . بل وعلى العكس من ذلك ، كانَ الرجلُ في غايَة اللطف معي ، ولم يألُ جهداً في مدّي بالعون خلال رحلتنا الطارئة، المُستطيرة ، من بيروت إلى الإسكندرية . ولمَ سيُجانب اللطفَ في صُحبتي ، ما دامَ أمرُ المُهمّة صارَ مَقضياً : أجل ، لقد تمكّنَ الماكرُ من إقناعي بخطته ، المُبيّتة . كانَ عليّ قبلاً ، ولا ريب ، أن أقرأ في قسمات عبد الله أفندي ، المُتشككة ، مفرداتِ الرفض ، الفصيحة ؛ حينما عَرَضَ الآخرُ ، الداهيَة ، مُخططه الزاعمَ قدرته على تخليص مدينتنا من مأزقها ، الوخيم . على أنّ حضورَ المير بشير ، المَرهوب الجانب ، شاءَ أن يُفاقمَ من ارتباك موقفي وحيرتي . إنّ العاملَ الخارجيّ ، الموضوعيّ ، ليُسهمَ أحياناً كثيرة في اتخاذ المرء لقرار ما ، مصيريّ ، كانَ الأجدرُ به أن يتمهّلَ في إقراره . ولكنها شعرة معاوية ، الواهيَة ؛ تلكَ الفاصلة بين مُفردتيْ " نعم " و " لا " .
فيما مضى من أيام ، كنتُ أهيمُ في متاهة المأزق ، ذات الممرات العديدة ، المُتداخلة . المتاهة مَعرفة . فأن تتوغلَ في معميّاتِ المأزق ، المُغلّسَة ، يَعني إصرارَ البحث عن النور في إكتناه أسراره وألغازه وغوامضه . أما الطريق المَسدود ، فمتاهة مُزيّفة ، خادعة ، ماكرة ـ شبيهة بشخص القاروط . إنّ هذا الرجلَ ، كما تفكّرتُ في أمره على مَدى سنوات المنفى ، هوَ من أوصلَ مدينتنا ، ومَجلسها العموميّ ، إلى ذلك الطريق ، المَوصوف . فهوَ من كانَ قد إقترحَ على أركان المجلس ، أثناء غيابي في مهمّتي بإمارة الجبل ، محاولة فتح طريق القلعة ؛ أينَ مقرّ الوزير ، المُحاصَر . ولكي يَضمُنَ نجاحَ خطته ، كانَ الشقيُّ على إستعدادٍ ، ظاهراً ، للمقامرَة بحياته ؛ حينما عرَضَ على أخواننا ، أيضاً ، التوسّط بنفسه بينهم وبينَ آمر الانكشارية . وكالعادة ، كانَ صديقي النابه ، العريان ، هوَ الوحيد بينهم من إعترضَ على الأمر ، مًشككاً دونما مواربة بنزاهة الإقتراح : " كيفَ يُمكن ، بالله عليكم ، لركن في المجلس ، أن يقومَ بالوساطة مع أعدائه ؟ " ، قالَ لهم كبيرُ العمارة مُتسائلاً بذكاء . الحجابُ نفسه ، الذي منعني من الرؤية بوضوح هناك ، في الإمارة اللبنانية ، يبدو أنه سبقَ وأغشى على أعين جماعتنا ثمة ، في الشام . إنه حجابُ المَكر والدّهاء والخبث . إنّ الأفعوان عينه ، الموهوب برؤوس تلك الصفات ، المُنكرة ، يتلوّى الآنَ قدّامي على ظهر المركب ، مُتصنعاً هيئة الصديق المُشفق ، المَلول . ولكن ، فلأستعِدْ أولاً ما كانَ من مُبتدأ الأمر ؛ المُستهلّ بدوره بحضور القاروط من الشام ، على حين فجأة ، وبدون سابق إنذار .

قادَنا رسولُ الأمير ، أنا والأفندي ، إلى القصر الصغير ، المُعتبَر ، الكائن في مُنخفض من مُستهلّ وادي الغرب ، والمَحفوفة جدرانه بدسكرة من أشجار الجوز والتوت والتين ، والمَحروس مَدخله برجال أشداء ، مسلحين . وكانت مشاعلُ كبيرة ، معدنية الإطارات ، هيَ من تتولى إنارة مخارج القصر بضيائها الساطع ، المُبهر .
عندئذٍ ، ماكانَ في وارد خاطرنا ، أبداً ، أنّ القاروط سيكونُ بإنتظارنا ؛ هناك في مقرّ الحاكم . وكانت سحنة البك ، المصريّ ، الحَسنة التقاسيم والمَعدومة التعابير في آن ، أوّل ما لفتني ثمة ، في ديوان المير بشير ، المُهيب . هذا الأخير ، كانَ يتصدّرُ المكانَ المتأنق العمارة والتلبيس ، والحافل بموجوداته من أثاث ولوازم ورياش ومَتاع . بطبيعة الحال، لم يكن الرسولُ من قدّمنا للحاكم ، بل هوَ وكيله ؛ المَدعو إبراهيم بك . ولمَ يتسنّ لي عندئذٍ مُعاينة شكل الوكيل ، طالما أنّ عينيّ تحجّرتا في عينيّ سيّده ، الشديدتيْ النفاذ . فلم أستطع إستردادَ بصري من عينيّ الأمير ، قبلَ أن يُبادر هوَ للإشارة إلينا بالجلوس في الطوطيّ ذاته ؛ أينَ كانَ يقعد القاروط . لم تكن الساعة متأخرة كثيراً ، وعلى ذلكَ رأيتُ سمّار الأمير ، من حاشية وضيوف ، ما فتأوا على كثرتهم هنا ، في الديوان . رونقُ الأمير ، كانَ طاغ ولا غرو على ما عداه من الحضور . كانَ وجهُهُ برونزياً ، رائقَ الرواء ، بلحية يتخللُ الشيبُ شقرتها . بشرة وجه أميرنا ، المُتخمة بالتجاعيد علاوة على عنقه ويديه ، جعلته أكبر من سنه ، الحقيقية ؛ المُشرفة على العقد السادس . إنها تجاعيدُ الهمّ ، لا الزمن . فهذا الرجلُ ، المُتمتع بوجاهة شاه ، سبقَ له أن عانى الكثير الكثير ؛ في طفولته كما وفي فتوّته وكهولته . إنه رفيقُ الرحلة ، الأفندي العلامة ، من كانَ عليه ، خلل الأيام الفائتة ، أن يَمُدّني بالمعلومات اللازمة ، الغزيرة ، عن نشأة المير بشير ومراحل حياته ، اللاحقة .
" هذا صاحبُكم ، أحمد بك المُبجّل ، حضرَ إلينا من وقته " ، نطقَ الميرُ كلماته بتؤدة ، وبصوتٍ عميق أصدى حتى أعلى قبّة الديوان . ثمّ أردَفَ بنبرة أخرى ، فكِهَة : " لا أعتقدُ أنكم بحاجةٍ لمعرفة جليّة الأمر ، على لسان البك . فمن ملامحكم ، الجَزعَة ، يبدو أنّ خبرَ الوزير قد تناهى لعلمكم ، بفضل ثرثرة رسولنا ، المألوفة ". وبالرغم من مِحْنة المَوقف ، فقد شاعَ المَرَحُ في سحنات الحاضرين ؛ ولكن ، ليسَ قبلَ أن تأذنَ لهم سحنة سيّدهم ، المُعتادة على الجهامة . إلا أنه لا ملمَح المير ، الصارم ، ولا أيضاً ملبَسه ، القاتم ، الأشبه بالقباء ، كانا قادرَيْن على إخفاء شفافيّة نفسه ، وربما رقتها . ملاحظة أخرى ، كانَ عليّ وقتئذٍ أن أقنصَ شواردَها من هيئة الأمير : وهيَ أنه ، وبغض البصر عن مَرَحِهِ ، الطاريء ، فما كانَ بأقلّ قلقا منا ؛ نحنُ ضيوفه ، الشوام .
ولكنّ تفاصيل الواقعة المُريعة ، المَهولة ، المُنتهيَة بمقتل كلّ من وزير السلطان ومبعوثه ، كانَ على القاروط صَدْمنا بها ثمة ؛ في النزل المَبذول لإقامتنا . وإذاً همّ كلّ منا بأخذ وضعيّة مُناسبّة ، مريحة ، فوق مجالس قاعة الضيافة ، الكبرى ، المُظهّرة بالدّمقس الأحمر اللون . وإذا بخلوتنا تقتحَمُ ، على حين بغتة ، من لدن نرجس وصديقتها ، شمس . أمامَ إلحاح الأولى ، العنيدة ، رضخَ جدُّها ، على مضض ، لطلبها أنْ تشاركنا السهرة مع صديقتها ؛ مُتجاهلاً ما يُمكن أن تكتنفه القصّة من أشياء ، شنيعة ، غير لائقة بسَمَع الحَريم .

وكنتُ قد بدأتُ القولَ ، قبلاً ، بالإشارة إلى أنّ القاروط ، ولغاية في نفسه ، كانَ قد أقنعَ مجلسَ العمومية ، الشامية ، بمحاولة فتح الطريق إلى القلعة ؛ وأنه تعهّدَ كذلكَ أن يكونَ واسطة خير ، في هذه المسألة . إنّ آغا باقوني ـ بحَسَب الراوي دائماً ـ لم يكن إذاك يعرف أنّ البك ، المصريّ ، هوَ أحد أركان العمومية . فضلاً عن أنّ معرفتهما ببعض ، الآغا والبك ، كانت متوثقة نوعاً منذ وقت آمر القابيقول السابق ، الراحل ؛ الذي كانَ يقيمُ ، كما هوَ معلوم ، في سوق ساروجة . من ناحيته ، فآغا باقوني قبلَ بفكرة الإجتماع مع القاروط ، بما أنه كانَ يَسعى للصلح مع المجلس على أساس عدائهما المُشترك للوزير . وحينما تمّ اللقاء بينهما ، فإنّ أغا يقيني ، الدالاتي باشي ، كانَ حاضراً أيضاً . إنّ الإنكشاريّ ، في واقع الحال ، هوَ من كانَ قد قدِمَ ، لوحده ، إلى قصر القاروط ، لكي يُنصت لإقتراحات مجلس العمومية .
" لنعجّل بولوج مقرّ الوزير ، ولنرغمه من ثمّ على مغادرة البلد . فقد وصلتنا أخبارٌ ، موثوقة ، بأنّ جلالة السلطان ، حفظه الله ، في سبيله لأن يأمرَ ولاة حلب وحمص وطرابلس بالتوجّه مع قواتهم للشام ، بهدف فكّ الحصار عن القلعة . إنّ جلالته ، كما تناهى إلينا ، غاضبٌ لتجاهل أعيان المدينة مبعوثه ، سعادة القبجي ؛ الذي حملَ لنا فرمان الأمان بمقابل تأمين حياة الوزير وإرساله إلى الآستانة ، عن طريق مرسى صيدا " ، قالَ آغا يقيني لآمر القابيقول .
إنّ حجّة آمر الأورطات ، على ما يبدو ، كانت من القوّة ، أنّ آغا باقوني طفقَ صامتاً لفترة طويلة ، وقد بانتْ على ملامحه أمارات القلق والجَزع . ولكنها كانت ، في الحقيقة ، حجة من حَبْكِ البك ، المصريّ . وعلى كلّ حال ، فإنّ الانكشاري ما عتمَ أن فاجأ الجليسَيْن ، الآخرَيْن ، بقبوله عرضَ المجلس ذاك ، مُشترطاً أن يُشارك هوَ ، شخصياً ، بالإشراف على الأمر برمّته .
من ناحية أخرى ، كانَ القاروط قد أمّنَ الإتصالَ مع الوزير بوساطة قبجي السلطان بالذات . فهذا الأخير ، كانَ على الأرجح قانطاً من مهمّته ، ويرجو الخلاص سريعاً من المأزق ، حتى يرجع للآستانة بمعيّة الوزير ، فيعزز بذلك مركزه عند الباب العالي .
ما لم يكن في وارد أيّ من الطرفيْن ـ المجلس والوزير ـ أنّ آمر القابيقول ، الماكر ، كانَ يَعُدّ فخاً ، مُحكماً ، من المُفترض أن يُطبق على طريدته ، المَطلوبة ، في اللحظة المناسبة . وإذاً ، فإنّ آغا باقوني كانَ يمتلكُ من الدهاء والإخبات ، ما يُعادل قسوته ، المُفرطة . فقد تصنعَ الرجلُ ، الماكرُ ، الذعرَ والإرتباك قدّامَ ركنيْ المجلس ، حينما إجتمع معهما ثمة ، في منزل القاروط . حتى إذا تأكدَ أنّ الوزير وافقَ ، أخيراً ،على مغادرة القلعة ، فإنه بدأ فوراً بالتحرّك.

في البدء ، ومنذ بزوغ الفجر ، تقدّمت من جهة العمارة ، البرانيّة ، قوّة من الدالاتية ، محدودة الحجم ـ وفق شروط الإتفاق ـ فرابطتْ أمامَ باب القلعة ، فيما إنسحبَ أفرادُ الانكشارية من المكان . فما هيَ إلا ساعات قليلة ، حتى بدأتْ عساكرُ الوزير بمغادرة مقراتهم ، وهمُ عزل من السلاح الفرديّ والثقيل . كانت علامات الضعف والخور ، الجليّة ، مُرتسمة على ملامح كلّ منهم . إذ كانوا قد أمضوا أكثرَ من أربعين يوماً ، ثمة في القلعة ، مُحاصرين ومحرومين من أسباب العيش الضرورية ، الكافية ؛ اللهمّ إلا ما كان يمُدّهم به من مئونة ، ذلك السرداب ، السريّ، المُفضي إلى خارج أسوار المدينة . هكذا وفي الحال ، توجّه هؤلاء العساكر إلى سوق ساروجة ، لكي يضعوا أنفسهم بأمرة المجلس ؛ الذي سبقَ ومنحهم الأمان التام . ولكن ، ها هيَ الساعاتُ تمرّ بطيئة ، ممضة ، وما من خبر عن الوزير والقبجي . وكانَ جمعٌ من الخلق ، غفيرٌ ، مُتجمّعٌ مذ لحظة مُنبلج الصبح هناك ، بالقرب من بوابة القلعة وأسوارها ، المُحاذية للسوق الكبير ، المَسقوف ؛ المَنعوت باسم السلطان عبد الحميد الأول . وإذا بأحدهم يَصرخُ بأعلى صوته في الناس ، المُتجمهرين ثمة : " يا عبادَ الله ، إنّ المارقَ وصاحبَه قد ركنا للفرار " . ثمّ أتبعه مَمسوسٌ ، آخر ، بالصياح مُحَرِّضاً : " إنهما الآنَ في السراي ، بحماية الدالاتية ، الملاعين " . هكذا ، ونتيجة لتحريض جماعة أبن وهّاب ، زحفَ الدهماءُ والغوغاءُ والزربُ باتجاه المقرّ السابق للوزير ؛ والذي كانَ هوَ قد فرّ منه إلى حمى القلعة ، منذ مستهلّ ثورة العامّية ضدّه .
ثمة ، أمامَ مدخل السراي ، المُتهدّم جزئياً ، عادَ أولئكَ العوام للتجمهر ، وهمُ على أشدّ ما يكونوا من حماس وطيش واستثارة . نعم . لم يُجانب أولئك المحرّضون الصوابَ ؛ فإنّ الوزيرَ والقبجي ، إضافة لبعض المرافقين ، كانوا فعلاً قد تسللوا إلى السراي ، خلل ممرّ ، خفيّ ، موصول من تحت الأرض بالقلعة . أما عن أولئك المرافقين ، فلم يكونوا سوى آغا يقيني وحوالي العشرين من أفضل رجاله .

" ولكن ، كيفَ نمى لعلمهم ، أولئك الوهّابيين ، خبَرُ الوزير وجماعته ؟ "
سألتُ القاروط بنبرَة ، مُستغربَة . فما كانَ منه ، على دهشتي ، إلا الإفترار عن فم بسّام ، ليُجيبني بغير إكتراث وبلهجته الطريفة ، المصرية : " وأنا إيه عرّفني ، يا آغا " ، وأضافَ مُتمماً قصّ الحكاية " كانَ آغا يقيني ، صديقنا ، شاهداً إذاً على نهاية الوزير ؛ تماماً ، كما سبقَ له أن شهدَ بداية مَجده ؛ هناك ، في الشام : ولكن ، عوضاً عن مذلة الهروب ، المُرافق بعشرين خيالاً حَسْب ؛ فإنّ الباشا ، قبل نحو العام ، كانَ قد دخلَ المدينة مثل فاتح ، مُنتصر . أجل ، فآنذاك كانَ هذا الوالي ، الجديد ، قد تعمّدَ دخولَ الشام بعراضة مُهيبة ، صاخبَة ؛ طالما أنه جاءها لكي يستأصل شأفة الوجاقات ، نهائياً ـ كما سبقَ له أن فعلَ بإخوانهم هناك ، في تخت السلطنة العليّة . من الآستانة ، إذاً ، قدِمَ الباشا بمعيّةعشرين ألفاً من الجند ، الشاكي السلاح ؛ المُهندَمين باللباس المُستحدث ، المُغاير لهندام الانكشارية ، المُنقرضين . وحينما تناهى موكبه ، أخيراً ، إلى بوابة القلعة ، الدمشقية ، فالمدفعية قامت بتحيّته بقنابرها ، المُرعدة ، والمُتماهي وقعُ دويّها مع صدى الأناشيد والطبول والمَزاهر والزرنايات الصَدِحَة ، المُحتفلة ؛ التي كانت تصدر عن أفرادٍ من فرق المتصوّفة ، المُختلفة " .
سكتَ مُحدّثنا ، لكي يستردّ أنفاسه . ولكنني ، بالرغم من استمتاعي بروايته ، الدقيقة ، لتلك الأحداث وخلفياتها ، إلا أني لحظتُ نوعاً من الشماتة ، المواربَة ، في نبرَة الرجل ؛ عندما شاءَ الإطنابَ بوصف موكب الوزير . وعلى أيّ حال ، فما أن إستشفّ القاروط مدى تلهف الحضور ، الواضح ، على سماع بقية الحكاية ، حتى إستأنفَ كلامه : " وبالجملة ، فإنّ لحظة إنتقام وجاق الانكشارية ، الشامي ، من خصمه ذاك ، اللدود ، كانت قد حانت حقا . ومن مجرى الواقعة ، يبدو أنّ آغا باقوني كانَ قد أعدّ كلّ شيء بتأنّ ورويّة ، وبدقة تامّة . فهوَ على الأرجح من كانَ قد شدّدَ على عسكره ، كما وعلى الجماعة الوهّابية ، أن يتجنبوا الإحتكاكَ بقوّة الدالاتية ، المرافقة للوزير ، حتى لو بادرَ أفرادها للمقاومة . وفعلاً ، هذا ما كانَ فعله أولئك الأورطات ، الشجعان ، الذين ردّوا هجمات الغوغاء ، المسلحين ، طوال ذلك اليوم الطويل ، المُستطير . ولكن ، قبيل منتصف الليل ، ظهرَ على قسمات الوزير أمارات القنوط واليأس والتسليم . فطلبَ من القبجي والدالي باش ، بإلحاح ورجاء ، أن يدعاه يواجه مصيره ، لوحده ، وأن يغادرا المكان بغير إبطاء " ، قالها القاروط ثمّ سكتَ مُتصنعاً ، كما قدّرتُ ، الحزنَ والأسى .

يتعيّن عليّ الإشارة أيضاً ، بأني كنتُ آنئذٍ ألحظ كذلك تعابير وجه نرجس ، الجميل ، وكيفية تأثره بتفاصيل الحكاية ، المَرويّة . إذ كانت الفتاة ، القوية والرقيقة في آن ، ظماءة ً لمَنهل القول ، مُتلهفة للمزيد من مُعينه . وكانت ملامحها تتغيّرُ باستمرار ، تبعاً لوقع الحدث ، المُعيّن ، في نفسها . وها هوَ القاروط ، يُحقق أمنية البنت ، بل وأمنياتنا كلنا ، فيواصل روايته لمختتم مأساة الوزير : " هنا ، حَصَلتْ المفاجأة . فإنّ جانباً من جدار الحجرة ، التي كانَ يتواجد فيها المُحاصَرون ، إنهارَ على حين غرّة ، وإندفع من خلاله المهاجمون ، المسلحون بالسيوف والغدارات والخناجر والفؤوس . فما أن أشهرَ الباشا طبنجته ، لكي يدافع عن نفسه ، حتى اُرديَ بعدة طلقات من لدن غدارات خصومه . عندئذٍ ، وفي اللحظة نفسها ، إنقضّ آخرون على الدالي باش ، المُتناهض للمقاومة ، فتمكنوا من أسره وتقييده بحبل . ثمّ التفتوا إذاك إلى ناحية الرجل الثالث ، القبجي ؛ الذي كانَ في تلك الآونة مُصفراً ومُروّعاً . إلا أنّ الرجلَ تمكنَ من النطق ، وبصعوبة ، فقال للخصوم بلغته العثمانية وهوَ ما يفتأ يرتعدُ بشدّة : " أمان ، أمان . إنني مبعوثُ جلالة مولانا السلطان " . بيْدَ أنّ أولئك العوام ، المتوحشين ، لم يأبهوا لتوسلاته ، فألحقوه على الفور بصاحبه ، الوزير. وإذ أظهرَ أولئك الغوغاء تعقلاً ، بإطلاقهم سراح الدالي باش مع مجموعة عسكره ، إلا أنهم إقترفوا شناعة لم تحصل من قبل ، أبداً ، في تاريخ الولاية الشامية : فلقد عرّوا تماماً جثتيْ الوزير والقبجي ، ثمّ مثلوا بهما بالسيوف والخناجر ، قبل أن يُخرجوهما إلى مدخل السرايا ، بغية عرضهما على الجمهور المُتحمّس ، المَمسوس . والأدهى ، أنّ ملابسَ الوزير ، الرسميّة ، المُزيّنة بالأوشحة والأوسمة ، قد تمّتْ بسْمَرَتها بقطعتيْن من الخشب ، مُتقاطعتيْن على شكل الصليب ، ثمّ هُرعَ بها من لدن موكب تلك الجماعة المهووسة ، المُتفرعنة ، لكي تجوبَ دروب حيّ النصارى ؛ الكائن بين باب شرقي وباب توما . ثمة ، في دروب ذلك الحيّ ، المُقفرة ، كانَ أولئك الغوغاء يصرخون طوال الليل ، مُنشدين هذه اللازمة :
" الباشا بلا ذمّة ، باشتنا كان حُرْمَة
الباشا بلا ديانة ، باشتنا اسمُه حَنا ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5


المزيد.....




- بمشاركة روسية.. فيلم -أنورا- يحظى بجائزة -أوسكار- لأفضل فيلم ...
- -لا أرض أخرى-.. فيلم فلسطيني-إسرائيلي يظفر بأوسكار أفضل وثائ ...
- كيف سقينا الفولاذ.. الرواية الأكثر مبيعا والتي حققت حلم كاتب ...
- “الأحداث تشتعل”.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 183 كام ...
- أين ومتى ستشاهدون حفل الأوسكار الـ97؟.. ومن أبرز المرشحين لل ...
- الكويت.. وزير الداخلية يعلق على سحب الجنسية الكويتية من الفن ...
- هل تتربع أفلام الموسيقى على عرش جوائز أوسكار 2025؟
- وزير الداخلية: ما -العمل الجليل- الذي قدمه الفنانون للكويت؟ ...
- في العاصمة السنغالية دكار.. المتحف الدولي للسيرة النبوية في ...
- مصر.. إيقاف فنان شهير عن العمل لتعديه على لقاء سويدان


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : صراط 5