|
الأولى والآخرة : صراط 5
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 3020 - 2010 / 5 / 31 - 10:43
المحور:
الادب والفن
البَحْرُ ، البحر . إنه هذا الخائلُ ، المُتجبّر ، المُستحيلُ إرضائه . ها أنا ذا هنا ، في سفينة الطوفان ، لا برّ لي . لا يمامة ثمة ، في الأفق ، تبددُ قنوطي ببضعة من طين ، حقير ؛ علامة خلاص . ومن الطين ، خلِقَ جَسَدُ آدم وإلى أصله عادَ ليندسّ ، أبداً . أما الروح ، فإنها ليسَتْ من أيّ مكان ولا من أيّ مادّة . إنّ النصَبَ يَهُدّ بَدَني ، كما وروحي سواءً بسواء . ومثلما الأمر مع فجأتي بأيّ حَدَس ، مُرتبط مع جريمة ، جديدة ؛ ها هوَ الدوارُ يُمسك بتلابيب الروح والبدَن . إلا أنه دوارٌ دائمٌ ، خبيثٌ ، يَرجعُ على أدراجه بين فينة وفينة ، وبالكاد يُفارق راكبَ البحر . إنّ هذا اليمّ ، الخِضمّ ، مَقدورٌ لا فكاكَ من أغلاله ، طالما أنّ سَفرَ المَركب ضروريٌ ، ومن المُحال الإستغناء عنه . كم تشبه حياةُ المَرء ، المركبَ. فالعمر رحلة ٌ، تنتهي في ساحل بحر الحياة ، وقد تحطمَ مركبُها على أسنة الصخور السرمديّة ، الأبديّة . إنّ البحرَ لعنة ٌ، مثلما هيَ الحياة . " أتشعُر ببعضَ التحسّن ، يا آغا ؟ " ، يسألني القاروط مُجدداً . وكما في كلّ مرّة ، لم يكن الرجلُ ينتظرُ جوابي . مظهري الرثّ ، المُتهالك ، هوَ من كانَ عليه أن يتكلّم دوماً . كنتُ مع البك هنا ، فوق سطح المركب ، بين الكائنات والمُجرّدات ، يُحيطنا الأزرقُ من كلّ جانب ويَهمي على رؤوسنا ، أيضاً . وحينما قلتُ أنّ الحياة َ لعنة ٌ، فالأزرق لونها ولا شكّ . إنه لونُ الإفرنج ، الأثير في مُفاضلة ألوان الطبيعة ؛ كما أنّ الأخضرَ لونُ الإسلام ، المُفضل. الأزرقُ ، سَماءٌ مُستحيلة الركوب ، وبَحرٌ إغواءُ ـ كالخطيئة المُهلكة . أما الأخضر ، فبَرٌّ معشوشبٌ بالأمان والسكينة والهدوء : إنني أتوقُ الآنَ لهذا اللون ، المتواشج مع روحي ، في حضور خصْمِهِ ، الخطِر ـ كما توقي للصُحبَة ، الحَبيبة ، في وجودِ عدوّي ، المُبين .
بيْدَ أنّ القاروط ، آنئذٍ ، لم يكن قد أفصحَ لي عن عداوته بعدُ . بل وعلى العكس من ذلك ، كانَ الرجلُ في غايَة اللطف معي ، ولم يألُ جهداً في مدّي بالعون خلال رحلتنا الطارئة، المُستطيرة ، من بيروت إلى الإسكندرية . ولمَ سيُجانب اللطفَ في صُحبتي ، ما دامَ أمرُ المُهمّة صارَ مَقضياً : أجل ، لقد تمكّنَ الماكرُ من إقناعي بخطته ، المُبيّتة . كانَ عليّ قبلاً ، ولا ريب ، أن أقرأ في قسمات عبد الله أفندي ، المُتشككة ، مفرداتِ الرفض ، الفصيحة ؛ حينما عَرَضَ الآخرُ ، الداهيَة ، مُخططه الزاعمَ قدرته على تخليص مدينتنا من مأزقها ، الوخيم . على أنّ حضورَ المير بشير ، المَرهوب الجانب ، شاءَ أن يُفاقمَ من ارتباك موقفي وحيرتي . إنّ العاملَ الخارجيّ ، الموضوعيّ ، ليُسهمَ أحياناً كثيرة في اتخاذ المرء لقرار ما ، مصيريّ ، كانَ الأجدرُ به أن يتمهّلَ في إقراره . ولكنها شعرة معاوية ، الواهيَة ؛ تلكَ الفاصلة بين مُفردتيْ " نعم " و " لا " . فيما مضى من أيام ، كنتُ أهيمُ في متاهة المأزق ، ذات الممرات العديدة ، المُتداخلة . المتاهة مَعرفة . فأن تتوغلَ في معميّاتِ المأزق ، المُغلّسَة ، يَعني إصرارَ البحث عن النور في إكتناه أسراره وألغازه وغوامضه . أما الطريق المَسدود ، فمتاهة مُزيّفة ، خادعة ، ماكرة ـ شبيهة بشخص القاروط . إنّ هذا الرجلَ ، كما تفكّرتُ في أمره على مَدى سنوات المنفى ، هوَ من أوصلَ مدينتنا ، ومَجلسها العموميّ ، إلى ذلك الطريق ، المَوصوف . فهوَ من كانَ قد إقترحَ على أركان المجلس ، أثناء غيابي في مهمّتي بإمارة الجبل ، محاولة فتح طريق القلعة ؛ أينَ مقرّ الوزير ، المُحاصَر . ولكي يَضمُنَ نجاحَ خطته ، كانَ الشقيُّ على إستعدادٍ ، ظاهراً ، للمقامرَة بحياته ؛ حينما عرَضَ على أخواننا ، أيضاً ، التوسّط بنفسه بينهم وبينَ آمر الانكشارية . وكالعادة ، كانَ صديقي النابه ، العريان ، هوَ الوحيد بينهم من إعترضَ على الأمر ، مًشككاً دونما مواربة بنزاهة الإقتراح : " كيفَ يُمكن ، بالله عليكم ، لركن في المجلس ، أن يقومَ بالوساطة مع أعدائه ؟ " ، قالَ لهم كبيرُ العمارة مُتسائلاً بذكاء . الحجابُ نفسه ، الذي منعني من الرؤية بوضوح هناك ، في الإمارة اللبنانية ، يبدو أنه سبقَ وأغشى على أعين جماعتنا ثمة ، في الشام . إنه حجابُ المَكر والدّهاء والخبث . إنّ الأفعوان عينه ، الموهوب برؤوس تلك الصفات ، المُنكرة ، يتلوّى الآنَ قدّامي على ظهر المركب ، مُتصنعاً هيئة الصديق المُشفق ، المَلول . ولكن ، فلأستعِدْ أولاً ما كانَ من مُبتدأ الأمر ؛ المُستهلّ بدوره بحضور القاروط من الشام ، على حين فجأة ، وبدون سابق إنذار .
قادَنا رسولُ الأمير ، أنا والأفندي ، إلى القصر الصغير ، المُعتبَر ، الكائن في مُنخفض من مُستهلّ وادي الغرب ، والمَحفوفة جدرانه بدسكرة من أشجار الجوز والتوت والتين ، والمَحروس مَدخله برجال أشداء ، مسلحين . وكانت مشاعلُ كبيرة ، معدنية الإطارات ، هيَ من تتولى إنارة مخارج القصر بضيائها الساطع ، المُبهر . عندئذٍ ، ماكانَ في وارد خاطرنا ، أبداً ، أنّ القاروط سيكونُ بإنتظارنا ؛ هناك في مقرّ الحاكم . وكانت سحنة البك ، المصريّ ، الحَسنة التقاسيم والمَعدومة التعابير في آن ، أوّل ما لفتني ثمة ، في ديوان المير بشير ، المُهيب . هذا الأخير ، كانَ يتصدّرُ المكانَ المتأنق العمارة والتلبيس ، والحافل بموجوداته من أثاث ولوازم ورياش ومَتاع . بطبيعة الحال، لم يكن الرسولُ من قدّمنا للحاكم ، بل هوَ وكيله ؛ المَدعو إبراهيم بك . ولمَ يتسنّ لي عندئذٍ مُعاينة شكل الوكيل ، طالما أنّ عينيّ تحجّرتا في عينيّ سيّده ، الشديدتيْ النفاذ . فلم أستطع إستردادَ بصري من عينيّ الأمير ، قبلَ أن يُبادر هوَ للإشارة إلينا بالجلوس في الطوطيّ ذاته ؛ أينَ كانَ يقعد القاروط . لم تكن الساعة متأخرة كثيراً ، وعلى ذلكَ رأيتُ سمّار الأمير ، من حاشية وضيوف ، ما فتأوا على كثرتهم هنا ، في الديوان . رونقُ الأمير ، كانَ طاغ ولا غرو على ما عداه من الحضور . كانَ وجهُهُ برونزياً ، رائقَ الرواء ، بلحية يتخللُ الشيبُ شقرتها . بشرة وجه أميرنا ، المُتخمة بالتجاعيد علاوة على عنقه ويديه ، جعلته أكبر من سنه ، الحقيقية ؛ المُشرفة على العقد السادس . إنها تجاعيدُ الهمّ ، لا الزمن . فهذا الرجلُ ، المُتمتع بوجاهة شاه ، سبقَ له أن عانى الكثير الكثير ؛ في طفولته كما وفي فتوّته وكهولته . إنه رفيقُ الرحلة ، الأفندي العلامة ، من كانَ عليه ، خلل الأيام الفائتة ، أن يَمُدّني بالمعلومات اللازمة ، الغزيرة ، عن نشأة المير بشير ومراحل حياته ، اللاحقة . " هذا صاحبُكم ، أحمد بك المُبجّل ، حضرَ إلينا من وقته " ، نطقَ الميرُ كلماته بتؤدة ، وبصوتٍ عميق أصدى حتى أعلى قبّة الديوان . ثمّ أردَفَ بنبرة أخرى ، فكِهَة : " لا أعتقدُ أنكم بحاجةٍ لمعرفة جليّة الأمر ، على لسان البك . فمن ملامحكم ، الجَزعَة ، يبدو أنّ خبرَ الوزير قد تناهى لعلمكم ، بفضل ثرثرة رسولنا ، المألوفة ". وبالرغم من مِحْنة المَوقف ، فقد شاعَ المَرَحُ في سحنات الحاضرين ؛ ولكن ، ليسَ قبلَ أن تأذنَ لهم سحنة سيّدهم ، المُعتادة على الجهامة . إلا أنه لا ملمَح المير ، الصارم ، ولا أيضاً ملبَسه ، القاتم ، الأشبه بالقباء ، كانا قادرَيْن على إخفاء شفافيّة نفسه ، وربما رقتها . ملاحظة أخرى ، كانَ عليّ وقتئذٍ أن أقنصَ شواردَها من هيئة الأمير : وهيَ أنه ، وبغض البصر عن مَرَحِهِ ، الطاريء ، فما كانَ بأقلّ قلقا منا ؛ نحنُ ضيوفه ، الشوام . ولكنّ تفاصيل الواقعة المُريعة ، المَهولة ، المُنتهيَة بمقتل كلّ من وزير السلطان ومبعوثه ، كانَ على القاروط صَدْمنا بها ثمة ؛ في النزل المَبذول لإقامتنا . وإذاً همّ كلّ منا بأخذ وضعيّة مُناسبّة ، مريحة ، فوق مجالس قاعة الضيافة ، الكبرى ، المُظهّرة بالدّمقس الأحمر اللون . وإذا بخلوتنا تقتحَمُ ، على حين بغتة ، من لدن نرجس وصديقتها ، شمس . أمامَ إلحاح الأولى ، العنيدة ، رضخَ جدُّها ، على مضض ، لطلبها أنْ تشاركنا السهرة مع صديقتها ؛ مُتجاهلاً ما يُمكن أن تكتنفه القصّة من أشياء ، شنيعة ، غير لائقة بسَمَع الحَريم .
وكنتُ قد بدأتُ القولَ ، قبلاً ، بالإشارة إلى أنّ القاروط ، ولغاية في نفسه ، كانَ قد أقنعَ مجلسَ العمومية ، الشامية ، بمحاولة فتح الطريق إلى القلعة ؛ وأنه تعهّدَ كذلكَ أن يكونَ واسطة خير ، في هذه المسألة . إنّ آغا باقوني ـ بحَسَب الراوي دائماً ـ لم يكن إذاك يعرف أنّ البك ، المصريّ ، هوَ أحد أركان العمومية . فضلاً عن أنّ معرفتهما ببعض ، الآغا والبك ، كانت متوثقة نوعاً منذ وقت آمر القابيقول السابق ، الراحل ؛ الذي كانَ يقيمُ ، كما هوَ معلوم ، في سوق ساروجة . من ناحيته ، فآغا باقوني قبلَ بفكرة الإجتماع مع القاروط ، بما أنه كانَ يَسعى للصلح مع المجلس على أساس عدائهما المُشترك للوزير . وحينما تمّ اللقاء بينهما ، فإنّ أغا يقيني ، الدالاتي باشي ، كانَ حاضراً أيضاً . إنّ الإنكشاريّ ، في واقع الحال ، هوَ من كانَ قد قدِمَ ، لوحده ، إلى قصر القاروط ، لكي يُنصت لإقتراحات مجلس العمومية . " لنعجّل بولوج مقرّ الوزير ، ولنرغمه من ثمّ على مغادرة البلد . فقد وصلتنا أخبارٌ ، موثوقة ، بأنّ جلالة السلطان ، حفظه الله ، في سبيله لأن يأمرَ ولاة حلب وحمص وطرابلس بالتوجّه مع قواتهم للشام ، بهدف فكّ الحصار عن القلعة . إنّ جلالته ، كما تناهى إلينا ، غاضبٌ لتجاهل أعيان المدينة مبعوثه ، سعادة القبجي ؛ الذي حملَ لنا فرمان الأمان بمقابل تأمين حياة الوزير وإرساله إلى الآستانة ، عن طريق مرسى صيدا " ، قالَ آغا يقيني لآمر القابيقول . إنّ حجّة آمر الأورطات ، على ما يبدو ، كانت من القوّة ، أنّ آغا باقوني طفقَ صامتاً لفترة طويلة ، وقد بانتْ على ملامحه أمارات القلق والجَزع . ولكنها كانت ، في الحقيقة ، حجة من حَبْكِ البك ، المصريّ . وعلى كلّ حال ، فإنّ الانكشاري ما عتمَ أن فاجأ الجليسَيْن ، الآخرَيْن ، بقبوله عرضَ المجلس ذاك ، مُشترطاً أن يُشارك هوَ ، شخصياً ، بالإشراف على الأمر برمّته . من ناحية أخرى ، كانَ القاروط قد أمّنَ الإتصالَ مع الوزير بوساطة قبجي السلطان بالذات . فهذا الأخير ، كانَ على الأرجح قانطاً من مهمّته ، ويرجو الخلاص سريعاً من المأزق ، حتى يرجع للآستانة بمعيّة الوزير ، فيعزز بذلك مركزه عند الباب العالي . ما لم يكن في وارد أيّ من الطرفيْن ـ المجلس والوزير ـ أنّ آمر القابيقول ، الماكر ، كانَ يَعُدّ فخاً ، مُحكماً ، من المُفترض أن يُطبق على طريدته ، المَطلوبة ، في اللحظة المناسبة . وإذاً ، فإنّ آغا باقوني كانَ يمتلكُ من الدهاء والإخبات ، ما يُعادل قسوته ، المُفرطة . فقد تصنعَ الرجلُ ، الماكرُ ، الذعرَ والإرتباك قدّامَ ركنيْ المجلس ، حينما إجتمع معهما ثمة ، في منزل القاروط . حتى إذا تأكدَ أنّ الوزير وافقَ ، أخيراً ،على مغادرة القلعة ، فإنه بدأ فوراً بالتحرّك.
في البدء ، ومنذ بزوغ الفجر ، تقدّمت من جهة العمارة ، البرانيّة ، قوّة من الدالاتية ، محدودة الحجم ـ وفق شروط الإتفاق ـ فرابطتْ أمامَ باب القلعة ، فيما إنسحبَ أفرادُ الانكشارية من المكان . فما هيَ إلا ساعات قليلة ، حتى بدأتْ عساكرُ الوزير بمغادرة مقراتهم ، وهمُ عزل من السلاح الفرديّ والثقيل . كانت علامات الضعف والخور ، الجليّة ، مُرتسمة على ملامح كلّ منهم . إذ كانوا قد أمضوا أكثرَ من أربعين يوماً ، ثمة في القلعة ، مُحاصرين ومحرومين من أسباب العيش الضرورية ، الكافية ؛ اللهمّ إلا ما كان يمُدّهم به من مئونة ، ذلك السرداب ، السريّ، المُفضي إلى خارج أسوار المدينة . هكذا وفي الحال ، توجّه هؤلاء العساكر إلى سوق ساروجة ، لكي يضعوا أنفسهم بأمرة المجلس ؛ الذي سبقَ ومنحهم الأمان التام . ولكن ، ها هيَ الساعاتُ تمرّ بطيئة ، ممضة ، وما من خبر عن الوزير والقبجي . وكانَ جمعٌ من الخلق ، غفيرٌ ، مُتجمّعٌ مذ لحظة مُنبلج الصبح هناك ، بالقرب من بوابة القلعة وأسوارها ، المُحاذية للسوق الكبير ، المَسقوف ؛ المَنعوت باسم السلطان عبد الحميد الأول . وإذا بأحدهم يَصرخُ بأعلى صوته في الناس ، المُتجمهرين ثمة : " يا عبادَ الله ، إنّ المارقَ وصاحبَه قد ركنا للفرار " . ثمّ أتبعه مَمسوسٌ ، آخر ، بالصياح مُحَرِّضاً : " إنهما الآنَ في السراي ، بحماية الدالاتية ، الملاعين " . هكذا ، ونتيجة لتحريض جماعة أبن وهّاب ، زحفَ الدهماءُ والغوغاءُ والزربُ باتجاه المقرّ السابق للوزير ؛ والذي كانَ هوَ قد فرّ منه إلى حمى القلعة ، منذ مستهلّ ثورة العامّية ضدّه . ثمة ، أمامَ مدخل السراي ، المُتهدّم جزئياً ، عادَ أولئكَ العوام للتجمهر ، وهمُ على أشدّ ما يكونوا من حماس وطيش واستثارة . نعم . لم يُجانب أولئك المحرّضون الصوابَ ؛ فإنّ الوزيرَ والقبجي ، إضافة لبعض المرافقين ، كانوا فعلاً قد تسللوا إلى السراي ، خلل ممرّ ، خفيّ ، موصول من تحت الأرض بالقلعة . أما عن أولئك المرافقين ، فلم يكونوا سوى آغا يقيني وحوالي العشرين من أفضل رجاله .
" ولكن ، كيفَ نمى لعلمهم ، أولئك الوهّابيين ، خبَرُ الوزير وجماعته ؟ " سألتُ القاروط بنبرَة ، مُستغربَة . فما كانَ منه ، على دهشتي ، إلا الإفترار عن فم بسّام ، ليُجيبني بغير إكتراث وبلهجته الطريفة ، المصرية : " وأنا إيه عرّفني ، يا آغا " ، وأضافَ مُتمماً قصّ الحكاية " كانَ آغا يقيني ، صديقنا ، شاهداً إذاً على نهاية الوزير ؛ تماماً ، كما سبقَ له أن شهدَ بداية مَجده ؛ هناك ، في الشام : ولكن ، عوضاً عن مذلة الهروب ، المُرافق بعشرين خيالاً حَسْب ؛ فإنّ الباشا ، قبل نحو العام ، كانَ قد دخلَ المدينة مثل فاتح ، مُنتصر . أجل ، فآنذاك كانَ هذا الوالي ، الجديد ، قد تعمّدَ دخولَ الشام بعراضة مُهيبة ، صاخبَة ؛ طالما أنه جاءها لكي يستأصل شأفة الوجاقات ، نهائياً ـ كما سبقَ له أن فعلَ بإخوانهم هناك ، في تخت السلطنة العليّة . من الآستانة ، إذاً ، قدِمَ الباشا بمعيّةعشرين ألفاً من الجند ، الشاكي السلاح ؛ المُهندَمين باللباس المُستحدث ، المُغاير لهندام الانكشارية ، المُنقرضين . وحينما تناهى موكبه ، أخيراً ، إلى بوابة القلعة ، الدمشقية ، فالمدفعية قامت بتحيّته بقنابرها ، المُرعدة ، والمُتماهي وقعُ دويّها مع صدى الأناشيد والطبول والمَزاهر والزرنايات الصَدِحَة ، المُحتفلة ؛ التي كانت تصدر عن أفرادٍ من فرق المتصوّفة ، المُختلفة " . سكتَ مُحدّثنا ، لكي يستردّ أنفاسه . ولكنني ، بالرغم من استمتاعي بروايته ، الدقيقة ، لتلك الأحداث وخلفياتها ، إلا أني لحظتُ نوعاً من الشماتة ، المواربَة ، في نبرَة الرجل ؛ عندما شاءَ الإطنابَ بوصف موكب الوزير . وعلى أيّ حال ، فما أن إستشفّ القاروط مدى تلهف الحضور ، الواضح ، على سماع بقية الحكاية ، حتى إستأنفَ كلامه : " وبالجملة ، فإنّ لحظة إنتقام وجاق الانكشارية ، الشامي ، من خصمه ذاك ، اللدود ، كانت قد حانت حقا . ومن مجرى الواقعة ، يبدو أنّ آغا باقوني كانَ قد أعدّ كلّ شيء بتأنّ ورويّة ، وبدقة تامّة . فهوَ على الأرجح من كانَ قد شدّدَ على عسكره ، كما وعلى الجماعة الوهّابية ، أن يتجنبوا الإحتكاكَ بقوّة الدالاتية ، المرافقة للوزير ، حتى لو بادرَ أفرادها للمقاومة . وفعلاً ، هذا ما كانَ فعله أولئك الأورطات ، الشجعان ، الذين ردّوا هجمات الغوغاء ، المسلحين ، طوال ذلك اليوم الطويل ، المُستطير . ولكن ، قبيل منتصف الليل ، ظهرَ على قسمات الوزير أمارات القنوط واليأس والتسليم . فطلبَ من القبجي والدالي باش ، بإلحاح ورجاء ، أن يدعاه يواجه مصيره ، لوحده ، وأن يغادرا المكان بغير إبطاء " ، قالها القاروط ثمّ سكتَ مُتصنعاً ، كما قدّرتُ ، الحزنَ والأسى .
يتعيّن عليّ الإشارة أيضاً ، بأني كنتُ آنئذٍ ألحظ كذلك تعابير وجه نرجس ، الجميل ، وكيفية تأثره بتفاصيل الحكاية ، المَرويّة . إذ كانت الفتاة ، القوية والرقيقة في آن ، ظماءة ً لمَنهل القول ، مُتلهفة للمزيد من مُعينه . وكانت ملامحها تتغيّرُ باستمرار ، تبعاً لوقع الحدث ، المُعيّن ، في نفسها . وها هوَ القاروط ، يُحقق أمنية البنت ، بل وأمنياتنا كلنا ، فيواصل روايته لمختتم مأساة الوزير : " هنا ، حَصَلتْ المفاجأة . فإنّ جانباً من جدار الحجرة ، التي كانَ يتواجد فيها المُحاصَرون ، إنهارَ على حين غرّة ، وإندفع من خلاله المهاجمون ، المسلحون بالسيوف والغدارات والخناجر والفؤوس . فما أن أشهرَ الباشا طبنجته ، لكي يدافع عن نفسه ، حتى اُرديَ بعدة طلقات من لدن غدارات خصومه . عندئذٍ ، وفي اللحظة نفسها ، إنقضّ آخرون على الدالي باش ، المُتناهض للمقاومة ، فتمكنوا من أسره وتقييده بحبل . ثمّ التفتوا إذاك إلى ناحية الرجل الثالث ، القبجي ؛ الذي كانَ في تلك الآونة مُصفراً ومُروّعاً . إلا أنّ الرجلَ تمكنَ من النطق ، وبصعوبة ، فقال للخصوم بلغته العثمانية وهوَ ما يفتأ يرتعدُ بشدّة : " أمان ، أمان . إنني مبعوثُ جلالة مولانا السلطان " . بيْدَ أنّ أولئك العوام ، المتوحشين ، لم يأبهوا لتوسلاته ، فألحقوه على الفور بصاحبه ، الوزير. وإذ أظهرَ أولئك الغوغاء تعقلاً ، بإطلاقهم سراح الدالي باش مع مجموعة عسكره ، إلا أنهم إقترفوا شناعة لم تحصل من قبل ، أبداً ، في تاريخ الولاية الشامية : فلقد عرّوا تماماً جثتيْ الوزير والقبجي ، ثمّ مثلوا بهما بالسيوف والخناجر ، قبل أن يُخرجوهما إلى مدخل السرايا ، بغية عرضهما على الجمهور المُتحمّس ، المَمسوس . والأدهى ، أنّ ملابسَ الوزير ، الرسميّة ، المُزيّنة بالأوشحة والأوسمة ، قد تمّتْ بسْمَرَتها بقطعتيْن من الخشب ، مُتقاطعتيْن على شكل الصليب ، ثمّ هُرعَ بها من لدن موكب تلك الجماعة المهووسة ، المُتفرعنة ، لكي تجوبَ دروب حيّ النصارى ؛ الكائن بين باب شرقي وباب توما . ثمة ، في دروب ذلك الحيّ ، المُقفرة ، كانَ أولئك الغوغاء يصرخون طوال الليل ، مُنشدين هذه اللازمة : " الباشا بلا ذمّة ، باشتنا كان حُرْمَة الباشا بلا ديانة ، باشتنا اسمُه حَنا ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : صراط 4
-
الأولى والآخرة : صراط 3
-
الأولى والآخرة : صراط 2
-
الأولى والآخرة : صراط
-
الفصل الثالث : مَنأى 9
-
الفصل الثالث : مَنأى 8
-
الفصل الثالث : مَنأى 7
-
الفصل الثالث : مَنأى 6
-
الفصل الثالث : مَنأى 5
-
الفصل الثالث : مَنأى 4
-
الفصل الثالث : مَنأى 3
-
الفصل الثالث : مَنأى 2
-
الفصل الثالث : مَنأى
-
الرواية : مَهوى 11
-
الرواية : مَهوى 10
-
الرواية : مَهوى 9
-
الرواية : مَهوى 8
-
الرواية : مَهوى 7
-
الرواية : مَهوى 6
-
الرواية : مَهوى 5
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|