أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - ليندا كبرييل - في بيتنا قرد















المزيد.....



في بيتنا قرد


ليندا كبرييل

الحوار المتمدن-العدد: 3013 - 2010 / 5 / 23 - 17:53
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي
    


الجمال يدافع عن نفسه بكل الصور . شئتم أم أبيتم , الجمال ليس ما ترونه بمشاعركم اللاحيادية فحسب , بل كما يعبّر عن نفسه أيضاً , وسأداهمكم بالتعبير عنه من جانب لن يكون في حسبانكم , أعلم أنكم لن تتوقعوا ازدهار الجمال على يديّ هذا الصانع لكنكم ستضبطون أنفسكم مراراً وأنتم تبتسمون لمرآه وحركته . أتحدث عن حيوان . كيفما كتبت عنه لن أوفِهِ حقه من الشكر والعرفان , ولو قلت إن مكانته ترقى إلى شعوري كأني أتحدث عن ولدي فصدقوني ! إنه ليس مجرد حيوان نربّيه لنتسلى به , أعطينا علاقتنا به بُعداً مرتبطاً بالوعي ليبادلنا الحياة حياة والجمال جمالاً. لحظة الحب لأي كائن حي : لنبات أو حيوان أو انسان , فلتة جميلة أرفض أن أتعامل معها ببطر , فالوجود يصبح زاهياً بصانعَيْه : نحن والآخر , والآخر هنا هو قرد .. نعم قرد! أشعر ببعضكم يضحك مستهبلاً كلامي , وبعضكم الآخر قد تجاوزت عيناه حاجبَيْه فانشكلتْ عيونه بسقف جبينه ؟ لا عجب ! فالكلاب التي يفاخر العالم باقتنائها لم نعتدْ نحن العرب أن ننظر لهذا الحيوان الشهم الأمين بمحبة وعطف , فكيف لو سمعتم بالدارويني المريب ذي الخلقة التي تشاركنا 96% من جيناتنا ؟؟
جالسة على الدرجة فوق الوسطى من سلم الحياة , مسندة ظهري إلى حائط بلد بعيد بحكم زواجي من أجنبي . جمعتني الصدفة وما أقلّها ببعض العائلات العربية التي اتفقنا معاً أن المشترك الثقافي الذي يجمعنا لا بدّ بالوصال أن يُنتِج حالة وجدانية كلنا في حاجة إليها في غربة صعبة , فيصبح الجميل في هذه اللحظة أجمل في اللحظة التالية , ويتجدّد الأجمل مع كل يوم يمرّ علينا وبوجود الآخر . التزاور كان دورياً يكاد لا ينقطع . سبّبتْ لهم معرفة وجود قرد في بيتي خربطة في حساباتهم الإيمانية التعبدية , وسببتْ لي هذراً وهزلاً , ما أغناني عنهما ! لكني وصلتُ إلى نقطة في علاقتي معهم لم يعدْ بالإمكان التراجع عنها لفضّ العلاقة بيننا . كان ( المبنطلون والمفسطنات ) لاعنو مظاهر الغرب , عندما يحين دورهم لزيارتي , كانوا وقبل اجتياز عتبة بيتي يقومون بشدّ خصلة من شعرهم ثم البصاق بطريقة مقرفة على الأرض فوق رأس الشيطان دون أي حرج وهم يتعوذون بالله , ولا بدّ من دخول بيتي بالقدم اليسرى التي تدعس على رأس الشيطان والقذارة , فهذا كفيل بطرد النجس عنهم  ! كيف لا ؟ وكلب جارتي العمياء قد دخله وقرد يمرح فيه ؟ ؟
تخايلني ذكرى غير مستيقنة من تفاصيلها , لما كنت طفلة , كأني رأيت أولاد الحارة عندما تجمّعوا فوضعوا تنكة ثقيلة فوق قرد وقطة , وأشعلوا النار من حولها , وبدأ زعيق القرد ومواء القطة المفجع من حرارة التنك والاختناق , لافاً احتقان الأجواء بأدران الزمن الصوتي العربي الممتلئ آنذاك بادعاءات البطولة على اليهود ووهم الحرية وأكاذيب الوحدات العربية . ماذا تنتظرون من شجرة العليق ؟ أستحمل لكم عنباً أم ياسميناً ؟؟ جيل امتصّتْ الهزائم المتوالية مشاعره وأجدبتْ ثنايا التفكير في ذهنه فأقحل . أشرفتُ على مرحلة من العمر يبدأ عندها السؤال فيما سيؤول إليه عقلي لكني ما زلتُ أذكر الحادثة كما لو كانت بالأمس ! هبّ والدي وعمي يطفئان النار التي تحلق حولها صبية داهمهم الخرف العاطفي , يصفقون ويدورون حولها مهللين في مشهد بدائي بحت , أين منه القبائل الأمازونية التي لم تعرف معنى المدنية بعد !
غربتي في اليابان عمرها من عمر ابني الكبير , شاب مهندس يملأ عيني فرحاً ودمعاً .لا أذكر كيف بدأتْ صداقته القوية بالحيوان ؟ أذكر أني اشتريتُ له لعبة من قماش على شكل قرد . أهي ذكرى الماضي تلبّستني دون وعي مني فامتدّتْ يدي إلى هذه اللعبة بالذات دون غيرها ؟؟ أو أن للجينات ذاكرتها ولا يمكن أن تفلت من قانون الوراثة فأصبح طفلي أسيراً لها ؟؟ أم أني بطريقة روحانية أوحيتُ لطفلي أن يمدّ يده عليها ويتمسّك بها ؟؟ أحبّها جداً , ولم يكن يفارقها , فأصبح منقاداً طائعاً لحكم اختيار أخذ بتلابيبه ما كان له حتى أن يفكر بالإفلات منه , لكأنه قدر انحكم به منذ شهور عمره الأولى! ككل الأطفال الذين تداهمهم نوبات بكاء غير متوقعة كنت أقف أمامها عاجزة عن احتوائها حتى اهتديتُ إلى مصاحبته لحديقة الحيوان القريبة من بيتي . كان لوقع نظره أول مرة على القرود والغزلان بالذات تأثير إيجابي رائع , لقطتُ الحل على الفور لمَرآه ضاحكاً مستبشراً لمنظر القرود وهي تشاكس الغزلان فترميها بالطعام ليهرع الغزال لالتقاط ما جاد به صاحبه , أو يراها تتسلق الأشجار العالية ثم تقفز منها إلى التعلق بالحبال الممدودة , ثم في حركة مدهشة تتشقلب لتعلق قدماً واحدة بالحبل ويظلّ جسمها يتأرجح بالفضاء ورأسها للأسفل تلتقط بمهارة أوليمبية فائقة كل ما يرمي لها المعجبون بالحركات البهلوانية .
كنت في اللحظات الصعبة التي أعجز عن التعامل مع ابني , أجرّ عربته إلى تلك الحديقة , إلى حيث المتناقضَيْن في الذهنية العربية التي ربطتْ الجمال بالغزال والقبح بالقرد في مثلنا الشهير " القرد بعين أمه غزال " , حتى اللغة العربية غير المحايدة بالأساس فضّلت أن تصفّ إلى جانب الغزال ضد القرد عندما اختارتْ أن تقرن في نغمة ووزن ولفظ قريب ( جمال ) ب( غزال ) , و ( سعدان ) ب( شيطان ) , و ( قرد ) ب( قبح )!قرد واحد بكل ظرفه وشقاوته أفضل من ألف غزال باهت لا يجلب انتباه أحد ! لم يكن ولدي يبتهج إلا عندما نصل إلى هاتين النقطتين القريبتين من بعضهما لحسن حظي , في غربة لا قريب فيها ولا معين , كأن الظروف تتعاون معي وتخدمني دون إرادة أو دراية مني , وكأني بولدي أراد أن يؤكد لي أن الغزال غزال على نفسه , وأن المحبة غير قابلة للترجيح والمفاضلة , وأنها كالشمس تشرق بنورها على الجميع ولا يستقيم بهاؤها إلا إذا نظر إليها كل الأحياء معاً . أصبحت زيارة الحديقة عادة ملازمة لنا لفترة امتدّت حتى دخوله المرحلة الابتدائية .
كان يومُ الاحتفال بدخوله المدرسة الابتدائية رائعاً فوق كل تصور ! لو كان ( هذا اليومُ ) يعلم ما ينتظره من مجد لطلب من الزمن تخليده في سجلّ الشرف , لتتعلم الأحداث الكبرى كيف تنبض بالفرح والسعادة والحبور . كان يوماً متبختراً مفاخراً على بقية الأيام العادية ! عاد ولدي من الاحتفال المدرسي وهو يمني النفس بالذهاب إلى مدينة الألعاب مع أصحابه كما اتفقوا . لم يكن يعلم  بالمفاجأة_ الهدية التي خبّأناها له أنا وأبوه . كنا قد تأكدنا من المسؤولين أن لا مانع من تربية قرد من نوع _ ماكاكا _ أسوة بالكلاب والقطط على ألا نستفيد منه تجارياً , وأن نحمله مرة على الأقل أسبوعياً ليحيا حياة طبيعية مع رفيقته وأصدقائه , ولِمَ لا ؟ أليس كائناً يتنفس ويحيا مثلنا ؟ فمن أين جاءته النجاسة وقد خلقه الله ككل الأحياء ؟ حتى على ربكم تفترون أيها المتعلمون ؟؟ حملناه إلى البيت من المصحة بعد أن تأكدنا خلوّه من الأمراض . وكانوا قد حمموه وحفّضوه بالبامبرز وفوقه شورت بنفسجي اللون وبلوز مورّد اخترتهما بنفسي . قرد ذكر لا ذيل له , عمره سنتان لون شعره بني أصهب , قد يمتد العمر به إلى خمس وثلاثين سنة تقريباً .
دخل ابني .. رمى بحاجياته وهو يلهث ويقول إنه على موعد مع رفاقه . ناداه أبوه أن يستلم هديته منا أولاً ولْيفعلْ ما يشاء بعد . وقف يتدلل ويتحزّر عما تكون ؟ كشف أبوه عن ساتر ليظهر القرد جالساً برأس منحن ونظرات مكسورة محتارة كمنْ تلقى عقوبة ! تسمّرتْ عيناه عليه .. ثم ترددتْ بينه وبيننا , فغر فاه غير مصدق , واقترب منه وجلاً حذراً ولمس بكفه كتف القرد فهمهم القرد بوداعة .. همس ابني وقد جحظتْ عيناه : قرد حقيقي  ! ثم عالج ذهوله بابتسامة صائحاً بقوة : إنه حقيقي !! تحوّل إلى القرد الذي جلس ممصوصاً في مكانه في بغتة هذا الفيض الشعوري وسأل بلهفة المحتاج : أهذا لي ؟ لا أصدق  !! ارتمى علينا سعيداً ونحن نضحك .. هرع خارج البيت حيث رفاقه  يستعجلونه , صوته يتناهى إلينا وهو يشرح بحماس وانفعال أن أصبح لديه قرد حقيقي , لكن رفاقه استخفوا بقوله , فما كان منه إلا أن شدّ أحدهم من يده وتبعه الآخرون ليروا المعجزة الكبرى  !
تحلق الأولاد حول " وافي " _ وهذا اسمه _ والدهشة قد خيّمتْ على وجوههم !! وبدؤوا يتوددون إليه ضاحكين ويلاعبونه .. وما هي إلا دقائق حتى استأنس " وافي " وبدأ يستجيب لأصوله ويصبح صورة مثيرة لعفريت يدور في أنحاء الغرفة والأولاد وراءه وأمامه وحوله وهو يقفز بينهم . بغمضة عين تحوّل بيتي إلى روضة أطفال حيث خرج أحدهم وأعلن لكل الرفاق من كبار وصغار ما ينتظرهم من متعة في بيت القرد ! وشعرت أني فعلاً في مسرح قرود , الأجنبي عادة لا يتحمّل الضوضاء لكني لم أجدْ نفسي مضطرة للاعتذار من الجيران , فقد كان أولادهم رفاق ولديّ الإثنين عفاريت أكثر من القرد نفسه , والمضحك أن الجميع وجدوا طرافة في تسميته ( أفريت ) عندما رؤوا ابني يشير إلى حركاته ويصفه بالعفريت  ! ووجدتْ هذه التسمية مجراها على ألسن الجميع حتى كدت أنا نفسي أنسى اسمه الحقيقي ( وافي ) , ومع الأيام ما عاد اسم ( أفريت ) مقترناً بمعنى عفريت العربية . نسي الرفاق هدايا أهاليهم التي حملوها معهم من روبوتات وأجهزة لعب إلكترونية , وكذلك اتفاق مدينة الملاهي وطنّشوا على موعد العودة إلى البيت , إذ تدقّ ساعة المدينة يومياً في الخامسة مساء وتعلن للأولاد السعداء النجباء أن وقت العودة إلى المنزل قد حان , ثم يلحق الإعلان أغنية تقول :" اغتسلوا , كلوا جيداً واستريحوا قليلاً ثم ابدؤوا بمراجعة دروس الغد يا جيل الغد الجميل ". في ذلك اليوم تعاونت الأمهات فأحضرتْ كل واحدة صحناً مما طبخته واجتمع في بيتي أكثر من عشرين طفلاً وما لبثت الوفود أن توافدت زرافات للتهنئة  !وتناول الجميع عشاءهم مع النجم الذي تجري كل هذه الهيصة على شرفه وهو يدور بين الأولاد يأكل من هذا لقمة ويخطف من يد هذه موزة والكل يناديه ليفوز بفخر مصافحته ثم لا يلبث أن يقفز على ظهر أحدهم ليتسلق على الخزانة ويجلس فوقها ويمدّ يديه إلى أقصى ما يستطيع ويبدأ يصفق , الكاميرات والفلاشات تومض يلتقطون الصور معه والكل سعداء يضحكون . أظن أني كنت أسعد الجميع , فقد أنجز " وافي " بساعة زمان ما عجزتُ عنه منذ خمس سنين .
عشتُ في اليابان , مجتمع أجنبي قلما يعرف الاختلاط مع الغريب . من اللحظة التي حللتُ فيها ذاع صيتي وعُرفتُ بذات العيون الكبيرة والشعر الملفوف , هاتان الصفتان العزيزتان على قلب ذلك المجتمع الذي يدفع الغالي ليربح هذا القليل بنظرنا لكثرة ما نشاهده . الوراثة حابت ابني كثيراً فمنحته من حسن الخلقة ما جعل الأولاد يخشون هذا الطارئ الجمالي الشاذ لنظرهم الذي اعتاد على نسخة شكلية واحدة , فاعتزلوه وجعلوه خارج دائرة ألعابهم دوماً , وإن أشركوه فإنما تكملة للعدد , لكنه بحسه الطفولي البريء كان يندفع دون أن يفهم ما وراء الأكمة من حسابات ويحتج إن رفضوه على معاملتهم المحيرة معه . لم يكن لديه ما يفوش به عليهم سوى معايرتهم أنهم لا يستطيعون ركوب الطائرة مثله ومشاهدة بلاد العالم الجميلة ولا يتكلمون مثله لغتين  ! في حين كانوا يردّون له الصاع صاعين عندما يحاولون عمداً أذيته جسدياً أو نفسياً بإقصائه عن مجال أحاديثهم أو ألعابهم حتى يملّ , فيعود منكسراً للبيت . ولعل عزلته هذه شدّته لمحبة الحيوان الذي لا غاية له إلا الإخلاص للذي يحنّ ويعطف عليه . فكنت أركّب ابني الكبير في الكرسي الخلفي للدراجة وابني الصغير في كرسي معلق بمقودها وننطلق ثلاثتنا في اتجاه حديقة فيها الكثير من الوسائل الترفيهية ونحن نغني : هالصيصان _ لق لق_ شو حلوين _لق لق_ عم يدوروا حول أمون مبسوطين !نأكل الأيس كريم ندخل في بحيرة الرمل نبني بيوتاً لتيتي وجدو وخالة وعمو , بعدها ندخل في بحيرة الماء والأطفال يرشون بعضهم بعضاً ثم نختتم جولتنا بزيارة لا بد منها لحديقة الحيوانات لنمسّي عليها بالخير والتمني لها بليلة سعيدة .
من جهتي حاولت دوماً أن أدعم علاقتي بأمهات ولديّ الإثنين فتارة أدعوهنّ لتذوّق طعام بلدي وأخرى أنظّم دعوة لمجموعة من الأطفال ... ومع ذلك لم أحرز تقدماً ملحوظاً , وكان علي أن أجاهد على جبهتين : طفلي الأول والثاني أيضاً الذي بدأ يعي أهمية الصديق في حياته . أما الثاني فكان عشقه للسيارات عجيباً , في عمر الثالثة كان يعرف معظم ماركات السيارات العالمية والبلدان المصنعة لها وملك كل موديلاتها , أعتقد كان لديه ما لا يقلّ عن مئة نموذج مصغّر , لذا كان اهتمامه بالحيوان أقلّ وإن كان لا يرفضه . كان الأخان مع صديقيْن لهما يقضون أروع الأوقات يمثلون أدواراً يحتاجون فيها لعنصر خامس في ملعب كرة القدم فيستعينون بي كحارس مرمى حلّ محلي فيما بعد " وافي/ أفريت " الذي كان يلتقط الكرة ببراعة , لعله ظنها جوز الهند ! وما لبث اسم آخر أن وجد طريقاً يزاحم الإسمين السابقين وتلبّس القردَ تماماً بأمر من جموع الأطفال : " رود خوليت " , هل تذكرون هذا اللاعب الهولندي الفذ ؟ اشتهر في ثمانينيّة القرن الماضي في ميدان كرة القدم . المعذرة من مقامك الكبير يا عزيزي " رود خوليت " إنه حكم الأطفال ومنك السماح !
كان قدوم عيد ميلاد السيد المسيح سعادة , اتخذ بهجة أكبر بحضور " أفريت خوليت " الذي كان يساعدنا في إعداد الكاتو , إحضار الخلاط والأوعية من الرفوف العالية كان من اختصاصه , كذلك نقل الأوعية المتسخة إلى المجلى , فكان يرميها رمياً يكاد يطبشها ويكسرها حتى تعلم بمساعدتنا كيف يضعها بهدوء وانتباه , القرد حيوان مقلد وذكي حقاً . أما اللحظة الممتعة المنتظرة فهي عندما نزين شجرة العيد , كان الأخان يلبّسان " وافي " ثياب بابا نويل ثم يعمدان إلى ربط طابتين ملونتين من طابات الزينة بخيط يعلقانه فوق رأسه فتبدو الطابات كأنها حلق يتدلى من أذنيه فإذا شاهد نفسه في المرآة انطلق يقفز ضاحكاً مصفقا .. دوماً مصفقاً ! لم أسمع ضحكة صافية من جوا قلب ولديّ كذلك اليوم ! أما زينة الشجرة , فلا جدال , تختلف عن أي زينة أخرى في العالم , طبعاً كانت لعباً من قماش على شكل قرد وسيارات صغيرة بالإضافة إلى الطابات الملونة البراقة , وتحت الشجرة كنا نصنع مغارة من الورق , نضع فيها الرموز المصنوعة من الجبس من حامليْ الهدايا المحيطين بالمسيح المولود وأهله وبعض الحيوانات , قلب الطفل أرشدني أنا البالغة أن الإقتصار على وضع الأغنام والبقرة والكلب والحمار إنتقاص لهذا الحدث الجمالي : المسيح ولو أنه لم يربّ قرداً لكنه أحبّ الكل دون تفرقة , ووجود القرد لا بدّ منه لإغناء المغزى من الحدث , حتى الثعلب والذئب والأسد .. كل المتوحشة ستشعر بالألفة والودّ في حضور المسيح , هكذا قال ابني !! أما ابني الثاني فيصرّ على وضع سيارتين عند مدخل المغارة لنقل المهنئين !
في هذا الجو من الغربة النفسية حلّ القرد الحقيقي حلاً لمشاكل ولديّ , فقد جمع " وافي " الأصدقاء على قلب واحد , نجاح القرد أضاء عجز الإنسان في تأكيد قانون الجاذبية البشرية . أصبح بيتي محجّة للأطفال وأخذت أستعدّ بما تشتهي النفوس لإغرائهم بصداقة أولادي , لكن إغراء القرد " خوليت " للأصدقاء لم يكن يفوقه شيء آخر . بقلب الأم القلقة على أولادها كنت أسعد من أولادي بالتأكيد . بوجود " وافي " انطوى القلق من الوحدة والإقصاء , وانهزمت المخاوف من التعايش مع مجتمع غريب . لم يكنْ مجرد حيوان في البيت نربيه , بل كائناً له وجود ومعنى نحن أضفيناه عليه , منح منْ في البيت بهجة أدّت إلى تقبّل التكاليف اليومية برضى , وإشاعة الحب والسلام لينعكس كل هذا إيجابياً من الفرد على الكل , ومن الكل على المحيط ومنه إلى المجتمع .
الذي يقول إن القرد نجس وقبيح فلْيحاسب الله الذي خلقه أو الطبيعة التي أوجدته ! ما ذنب المسكين أن تحاسبوه على شيء لم ( يقترفه ) ولا يد له فيه ؟ ألا نظرتم عينيه الوديعتين ؟ أتحمّلونه الشؤم والقرف أيها العاقلون ؟ تعالوا نحاسبكم على عجائب خلقتكم لنرى ! أبهذه السهولة برمجوا جيناتكم حتى ما عادت عقولكم تنظر الحقيقة إلا من خلال ما لُقِنتم ؟ لا عجب .. هكذا نحن في كل شؤون حياتنا ننساق خلف سطوة المسبقات الذهنية ونمضي دون التفكير بجدوى حقنا في البحث ومراجعة خرافات خيّمت على عقولنا المسطحة !
قردي العزيز أيها السادة حقق إعجازاً أخجلني أنا المربية لطفليْن . ما الذي كان يخيف ابني الكبير من الماء ؟؟ كان يُريني نجوم الظهر وأنا أحمم رأسه . فكنت أقلب رأسه للوراء وبكأس صغير أصبّ الماء على رأسه وأنا ألهيه بالغناء وبحكي القصص لكنه كان يدرك حيلي ويشدّ رأسه بعيداً عني كلما جاء بعض الماء على وجهه . عملية مرهقة ومزعجة في وجود طفل آخر له متطلباته , نصحتني إحدى الأمهات أن أستشير طبيباً بهذا الخصوص , لكن حضور القرد " وافي " قلب كل المعادلة ومن اليوم الأول ! حلّ المشكلة بطريقة لم اتوقعها .
كنت عادة بعد الانتهاء من حمام الولدين ووضعهما في البانيو الكبير ألتفت للقرد " وافي " الذي تعلم كيف يحمم نفسه بنفسه مع الأيام ثم يدخل في البانيو الصغير المخصص له , وكنت مجهزة بعض الألعاب ليتسلى بها أولادي وتمضية فترة ممتعة في الحمام , ومن بينها مسدسات ماء رشاش . قبل حضور " وافي " كان الولدان يرشان بمسدس الماء الحائط المقابل بمادة كيماوية آمنة ويرسمان عليه أشكالاً طريفة , لكن" العفريت وافي " غيّر قواعد اللعبة من اليوم الأول لحضوره وأوجد لها قانوناً جديداً : نرشّ بعضنا البعض ! شهق ولدي الكبير من مفاجأة غمر المياه وجهه بشكل غير متوقّع , كنت أرقب رد فعله بطرف عيني دون تدخل , أظهر في البداية انزعاجاً لم يلتفت إليه أحد لكنه لم يشأ أمام متعة اللعب التي استمر بها أخوه لا مبالياً مع " وافي " أن تفلت الفرصة من يده فوجد حاله منخرطاً مرغماً ثم طائعاً ثم متمتعاً فضاحكاً فمشاركاً فسعيداً . ماذا أقول ؟ أسعدني إلى حد لم أتمالك نفسي من التأثر . كيف لا أحبك يا عفريت ؟ حلول المشاكل ليست عند الأطباء بقدر ما هي في كيفية تعزيز العلاقة مع الآخر .
قردي العزيز علّمني كيف أحافظ على شعور ولدي وكرامته وأحترم رفضه فلا آتيه بالقوة والتسلط . كان ذلك عندما بدأ " وافي " يتعلم كيف يقضي حاجته . في المرات الخمس الأولى استجاب سريعاً , فكان يشلح البامبرز لوحده ويقضيها في المكان المخصص له . فجأة بدأ يتراجع . لم ينفع الصبر , بدأت أتصنّع الغضب فكان ينظر لي شذراً ويفرّ من أمامي ويختبئ تحت طاولة دراسة ابني أو يقفز من رف لآخر مما صنعناه له خصيصاً , وزاد أن رفض لبس البامبرز احتجاجاً على معاملتي له , وكنت أترجاه ألا يفعلها فوق الخزانة فهذا معناه أن عليّ أن ( أتسلقها مثله ) والتنظيف وراءه . لكن العفريت كان إغاظة لي يحصرها حتى يفقد قدرته على الحصر فينزل ليفعلها في مكان آخر غير المخصص له ! إنه يفهم إذاً معنى المجاكرة , فكنت أعصّب بداخلي منه ... حتى كان ذلك اليوم الذي فعلها فوق الصوفا الجديدة , فصرخت في وجهه وضربته على قفاه فردّ عليّ بزعيق شديد وهرب من أمامي إلى مكانه المفضّل على الرف , أجبرته على لبس البامبرز فلم يرفض كما توقعتُ , لكنه احتجاجاً لم يعد ينزل لا لطعام ولا لشراب ويرفض الطعام من يدي فكان ابني يسايره بعد عودته من المدرسة ويرتقي مقعداً ليصله ويبدأ يأكل أمامه حتى يقلده فيفعل , ويأبى أن يستجيب لمحاولاتي في حثه بلطف على الأكل , فقدَ شهيته للطعام تدريجياً واللعب مع الأطفال وظهر الهزال عليه واضحاً والمصيبة أن ولديّ أيضاً تضامنا معه اعتراضاً على معاملتي الجافة , هرعت بالأفندي إلى المصحة , بعد فحصه أكدوا لي سلامته لكن تصرفي كان خاطئاً معه , وكما أن الانسان بسعيه لتفهّم أخيه الانسان يصبح أكثر قرباً لاستجلاء المشاعر الانسانية كذلك الحال مع الحيوان الذي يشعر بالمحبة والحنان فيخلص أكثر , هكذا قال المشرف .
يا سلام ! القرد يشعر بالمهانة عندما يتعرض إلى التوبيخ ! يا ليت المعلمين في مدارسنا العربية يسمعون هذا الكلام , إذا كان قردنا من كف صغير على قفاه وافتعال بعض الغضب أشعره بكل هذا الانكسار فكيف الحال بمن في سجوننا العربية ؟ هل تصدقون أني منذ ذلك الحين ما غربت شمس إلا وتذكرت التعذيب والإذلال وسحق الكرامة للسجين الأعزل ؟ يا لدلالك أيها القرد !
عدنا إلى البيت وولدي يحمله على صدره كطفل له رغم ثقله ,فناديته لأحمله أو لأضعه في سلة الدراجة لكن الاثنين رمقاني بنظرة غضب وعتاب وأشاحا بوجهيهما عني ! ألا يشعر السجان بالخجل من انسانيته في بلادنا ؟؟
في ذلك اليوم ولثلاثة أيام متوالية أصبتُ برشح شديد وارتفعت حرارتي إلى الأربعين حتى فقدت القدرة على الحركة . كان زوجي خلالها يعتني بأفراد البيت بتحضير الطعام لهم ثم الذهاب إلى العمل . لا أدري كم ساعة نمتُ من أثر الدواء , استيقظت خائرة القوى وأنا أشعر بعطش شديد . وجدتُ " وافي " جالساً بجانبي , ناديت منْ يناولني كأس ماء لكن الولدين لم يسمعاني , عدت ووضعت رأسي على المخدة وأنا أشعر بصداع حاد , سمعت صوت الماء يترقرق , فظننت أن ابني سمعني , التفتُ على ربت على كتفي فإذ ب " وافي " يحمل طنجرة الطبخ ملأها ببعض الماء يقدمها لي ! ضحكت له بوهن فصفق , شربت من الطنجرة وأخذت أمسح على رأسه فصار يصفق ثانية , غاب لحظات وعاد متوسطاً يشدّ ولديّ من يديهما , ثم غاب لحظات أخرى وإذ به يحضر الوعاء الخاص بحاجته الذي أصبح يرفضه تماماً ثم شلح البامبرز ووضعه في سلة القمامة وجلس على مرحاضه ليريني أنه سيستجيب لمحاولاتي في تعليمه , يعني ( روحي مسامحة على اللي عملتيه معي ) ! نعم , أضحك الآن وأنا أتذكر الموقف بكثير من العطف والحنان . ما أن تحسنت صحتي قليلاً حتى كانت العدوى انتقلت إلى القرد رغم اتخاذنا الاحتياطات اللازمة لمنع العدوى . ذلك الصباح لم يأكل جيداً ورفض الاستحمام الذي يحبه كثيراً .
كانت امتحانات الفصل الأول المدرسي قد بدأت  وابني يؤديها بشكل جيد , لكنه في ذلك اليوم ذهب إلى المدرسة قلقاً على " وافي " ولم يستطع أداء الامتحان , لاحظتْ مدرسته أنه غير طبيعي ولم يجبْ إلا على سؤال واحد من الخمسة , حاولت استيعاب قلقه لكنه رفض الاستجابة وأصرّ على أنه لا يعرف جواب الأسئلة المتبقية . في فترة الراحة اصطحبته إلى غرفتها ولاطفته كي تفهم منه المشكلة , فطلب وعداً منها ألا تجبره على الامتحان , ففعلتْ بشرط أن يكون الأمر متطلباً ذلك . أخبرها باكياً أنه قلق على قرده , وكلما جاء ليحلّ الأسئلة تذكّره فيمتنع عليه الحل . أظهرت المدرّسة اهتمامها وأكدت أنه يجب الاطمئنان عليه فوراً . اتصلت بي هاتفياً تطلب زيارتي مع ابني لعشر دقائق , فأخبرتها أني ذاهبة للمصحة لأن المرض اشتدّ على القرد , فرجاها ولدي باكياً صارخاً أن تأذن له بعطلة استثنائية ليرعاه , لكنها رفضتْ بحزم وأفهمته أن واجبها أن ترعاه كطالب مسؤولة عنه مثلما واجب أمه أي أنا أن أرعى القرد , وكما أنه يقلق على وضع القرد الصحي فهي كمدرّسة تقلق على وضعه الدراسي, هناك منْ يتولى رعاية القرد إذا توعك لكن منْ يتولى رعاية الطالب إن تدهور وضعه العلمي غير الأستاذ ؟ اقتنع ابني بكلامها بأن يتحمّل كل فرد في موقعه مسؤوليته تجاه عمله , وسُرّ أنها وعدته بالاتصال ثانية للاطمئنان على القرد بشرط متابعة الامتحان حتى لا يتضاعف القلق , فتابع امتحانه في غرفتها .
في اليوم التالي تحسنتْ صحة " أفريت " وتماثل للشفاء وكأنه ليس منْ كان مريض الأمس .
سجّلتُ لكم لقطات من المادة النقية في الحياة , المشاعر التي لا دخل للعقل بها , كل الذي حصل أن استجابة مشاعر الحيوان للحنان فكّ سحر غباء الانسان في تعامله مع أخيه الانسان فسجّل الحيوان بذلك انتصاره على عقل الانسان ورجاحته . هل وصلنا إلى مرحلة يلقن الحيوانُ الانسانَ درسأ في الحياة ؟؟ علاقات الأصدقاء أصبحت جميلة بوجود " العفريت أفريت خوليت " الذي لمّ شملهم في كل المناسبات , فهو بابا نويل موزع هدايا العيد , هو نجم الحفل الذي يقيم الملك للرقص , ولا يكتمل فريق الكرة إلا بوجود " خوليت " حارس المرمى . إنه الدهشة , الضحكة , والفرحة بكل عفوية وطرافة . الأولاد أصدروا القرار أفعليهم ستحتجّون ؟؟ أيها البشر أحكامكم المفزعة على كل جميل بالحياة كافية لتدويخ الشيطان . أنتم لا تملكون  من الحياة إلا شهادة قيد النفوس في الداخلية .. وما تحتها . هاهاها ... أسفي عليكم

شاهد :
amazing_friends_02.jpg

اضحك : funky_monkey.wmv



#ليندا_كبرييل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- -لم يفز أي من الطرفين في هذه الحرب-.. محلل يعلق لـCNN على هد ...
- ترحيب عربي بإعلان وقف إطلاق النار في لبنان وسط دعوات لاتفاق ...
- هدنة لبنان.. وزير دفاع إسرائيل يدعو قواته لـ-التحرك بقوة ودو ...
- رئيس الإمارات يصدر عفوا عن 2269 سجينا
- الهند تخطط لإرسال مركبة علمية إلى المريخ
- انفجار في ميدان اختبار جنرال موتورز بميشيغان يتسبب في حريق و ...
- لمن الفضل في وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل؟ بايدن وترام ...
- كيف ينظر سكان غزة لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب ال ...
- رصد أصوات غامضة في المحيط.. من يتحدث إلى من؟
- رصد قاعدة نووية أمريكية مخفية تحت جليد غرينلاند


المزيد.....

- اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با ... / علي أسعد وطفة
- خطوات البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا ... / سوسن شاكر مجيد
- بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل / مالك ابوعليا
- التوثيق فى البحث العلمى / د/ سامح سعيد عبد العزيز
- الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو ... / مالك ابوعليا
- وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب / مالك ابوعليا
- مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس / مالك ابوعليا
- خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد / مالك ابوعليا
- مدخل إلى الديدكتيك / محمد الفهري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - التربية والتعليم والبحث العلمي - ليندا كبرييل - في بيتنا قرد