|
العراق الافتراضي
فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
الحوار المتمدن-العدد: 3012 - 2010 / 5 / 22 - 21:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أفتُتحَ في العام 2003م موقع "الحياة الثانية" Second Life أو ما يسمى بالعالم الافتراضي Virtual World على شبكة الانترنيت، الذي أسسته مؤسسة "ليندين لاب" Linden Lab، و"يسكنه" الآن ملايين الأعضاء من كل ارجاء العالم، بعد أن قاموا بتنزيل برامجيات Softwares خاصة على حواسيبهم سمحت لهم باختلاق عوالم من ثلاثة أبعاد 3d أي أماكن مجسمة يقومون ببنائها وتسمح للآخرين بزيارتها. وهكذا تأسست عشرات الشركات التجارية والمؤسسات في هذا الموقع، وصار أعضاؤه يتمتعون بإمكانات توطيد الصداقات وتشييد المنازل وتأسيس مكاتب للاعمال، ويمارسون الرياضة ويشاهدون الافلام السينمائية، بل حتى يمتلكون النقد المالي الخاص بهم، الذي يمكن تحويله الى دولار أميركي في العالم الحقيقي. وفي "الحياة الثانية" يختلق "المواطنون" شخوصهم الافتراضيين، ويسيرون تحت الماء، ويحلقون بالطائرات، وينفذون أي شيء قد يخطر على بالهم. وقد أصبحت السويد اول دولة في العالم تفتتح لها سفارة افتراضية في هذا الموقع. وبعيداً عن التحليل التكنولوجي أو الاقتصادي لهذا الاختراع، فإنه سيسهم "سيكولوجياً" في إمكانية نقل الصراعات النفسية المحتدمة داخل الشخصية البشرية إلى آفاق رحبة من التطهّر الانفعالي والتعبير الحر، داخل عوالم افتراضية يختلقها الشخص بإرادته بعيداً عن قيود العالم الواقعي المفروض عليه بشخوصه وعلاقاته وذكرياته وعقده؛ دون إنكار ما لهذا النقل من وجوه سلبية محتملة تتعلق بعيش الفرد في عالمين نفسيين متناقضين في آن معاً. فالمحروم قد يصبح غنياً؛ والمكبوت عاطفياً قد يغدو "دون جواناً"؛ والمتقدمة بالسن قد تمسي فتاة في ريعان شبابها؛ والساكن في زقاق تكتظ فيه الأزبال والمتاريس والكلاب السائبة وصور السياسيين الرثة وسواقي الفضلات البشرية الطافحة قد يرى نفسه مستلقياً في قصرٍِ على ساحل ذهبي الرمال تحدّه خضرة الغابات وزرقة البحر وغناء الطيور؛ والمهجّر من بيته لأسباب طائفية قد يصير مالكاً لعمارة سكنية في عالم تحكمه قواعد المنطق وسنن العقل! وعلى أساس هذه الامكانية العلاجية الفريدة، فما دامت وزارة العلوم والتكنولوجيا في العراق (حسب تصريحات متكررة نسبت لها مؤخراً) قد حققت "خطوات" مهمة في درب انجاز مشروع "الحكومة الإلكترونية" الذي سيتيح لكل مواطن عراقي أن "ينجز" كافة معاملاته الحكومية من داخل بيته، ببضع ضغطات على لوحة المفاتيح في حاسوبه الشخصي!.. فأقترحُ على الوزارة أن تمد نشاطها الى موقع "الحياة الثانية" على الانترنيت، وتكون الرائدة في تأسيس اللبنة الأولى لأول دولة (وليس سفارة) على أراضيه باسم "جمهورية العراق الافتراضية"، كنوع من ستراتيجية نفسية شعبية تعويضية غايتها التخطي السيكولوجي لقيود واقع مرفوض نحو أفق افتراضي منشود. إلا إن مهمة الوزارة ينبغي أن تكون فنية صرفة، أي لا تتجاوز حدود تأجير الموقع المطلوب لبناء الدولة الافتراضية، وتحديد أساليب الدخول الالكتروني اليه. أما عملية التخطيط لبناء الدولة وطبيعة دستورها وقوانينها وآلياتها وعلاقاتها التنظيمية، فيجب أن تترك لاجتهادات الفرد العراقي، بأن تزود كل أسرة عراقية بكلمة السر Password الخاصة بها لدخول وطنها الافتراضي المنشود ضمن مظاريف الكترونية مغلقة توزع مع البطاقة التموينية. وبذلك تتاح فرصة عادلة لجميع العراقيين (بكافة مكوناتهم التي لا يمل السياسيون من تذكيرنا بها على مدار الساعة) للاشتراك بعملية التأسيس هذه. ولكي لا يختلط الحابل بالنابل، ولا ينتصر حوار الطرشان على حوار العقلاء في هذه الدولة الافتراضية، كما هو حاصل في الدولة الواقعية القائمة، فلابد من اخضاع اجتهادات المواطنين وتأسيساتهم الافتراضية، لمنطق الاحصاء العلمي الاحتمالي، أي لا يسن دستور أو قانون، ولا ينتخب برلمان أو رئيس، ولا يؤسس لعرف أو تقليد، ولا تشيد بناية أو شارع، إلا بعد استيفاء الأغلبية "الاحصائية" (باستخدام معادلات الإحصاء الاستدلالي) وليس الأغلبية "المطلقة" (50+1) كما هو سائد في عالم الواقع. ولو حاولتُ استباق نتائج هذه التجربة الفريدة، لأتنبأ بصورة العراق كما سيفترضها ناسه الذين أرهقهم اللهاث وراء الحدث بعد أن يأسوا من امكانية صنعه، فأظنني سأجد الآتي: * سيشيدون عاصمة افتراضية يظل إسمها "بغداد"، يتجولون متأنقين مسالمين في شوارعها وحدائقها ومتاحفها وأسواقها، ليل نهار، نساءاً ورجالاً، متدينين وعلمانيين. وسيتفقون على نصب تذكاري واحد يمثل هويتهم الوطنية، هو "نصب الحرية" لجواد سليم. * سيصوتون لصالح دستور موجز يحفظه الجميع عن ظهر قلب، يتألف من (4) بنود لا غير، هي:الدين لله والوطن للجميع/ "المواطنة" والمساواة أمام القانون هي المبدأ المنظم لعلاقة الفرد بالدولة/ الحرية الفكرية والشخصية حق وواجب لكل انسان/ العدل الاجتماعي وتحريم العنف بكل أشكاله، أساسا الدولة والمجتمع. * سينتخبون ممثليهم على أساس إناطة مهمة التشريع والقضاء وادارة الحكم بالتكنوقراط العلمانيين، والتخطيط التربوي والاصلاح الاجتماعي والتنمية البشرية للأكاديميين والمثقفين اللامعين، والتخطيط الحضري للمعماريين والفنانين، والنشاط الاعلامي للصحفيين المستقلين، وحفظ الأمن والنظام لأفراد يخضعون دورياُ لاختبارات نفسية صادقة تثبت عدم اصابتهم بالسادية أو الهذائية (البارانويا) أو السيكوباثية أو عصاب الطائفية. * سيتعاونون على تشييد متحف افتراضي للتأريخ الاجتماعي، متخصص بعرض المنقرضات السوسيولوجية المفترسة (كالطائفة والعِرق والدكتاتورية والمقابر الجماعية والاحتلال والإرهاب والفساد والتهجير وتسييس الدين والميليشيات والسجون السرية والحواجز الكونكريتية وسور بغداد وانقطاع الكهرباء)، على هيأة بقايا بشرية مفخخة، ورسائل تهديد مكتوبة، وصور فوتوغرافية، وأفلام وثائقية، وبانورامات حية لمآسي يومية تحاكي الماضي الدموي. * سيتوصلون إلى إصدار قائمة بمصطلحاتٍ تثير اشمئزازهم، فيتعاهدون على عدم تداولها لفظياً وعدم السماح لها بالاستيطان لا في ذاكراتهم ولا في مؤسسات دولتهم الافتراضية، من قبيل: (المنطقة الخضراء/ العملية السياسية/الاحتلال/ السفارة الأمريكية/ دول الجوار/ المحاصصة/ الميليشيات/ الاجتثاث/ القوائم الفائزة/ القاعدة/ الفصل السابع/ المربع الأول/ الشيعة/ السنة/ فخامة../ معالي../ دولة../ القائد/ الرفاق/ الجيش الشعبي/ القادسية/ أم المعارك/ أم الحواسم/ أبو غريب/ بوكا/ نقرة السلمان/ قصر النهاية...). * والأهم من كل ذلك، أظنهم سيُجمِعون على الاستمرار بالتمسك بخارطة العراق، إسماً وشعباً وجغرافيا! ترى أيهما أجمل وأقرب للمنطق السليم: عراق "السياسيين" الواقعي؟ أم عراق "الشعب" الافتراضي؟!
#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)
Faris_Kamal_Nadhmi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النزعة العلمانية في الشخصية العراقية
-
عُُصاب التفاوض السياسي
-
سيكولوجية العمامة واليشماغ !
-
تحليل الشخصية الشيوعية العراقية
-
مقالات ودراسات في الشخصية العراقية: (صدور كتاب لفارس كمال نظ
...
-
سيكولوجية المنطقة الخضراء (تحليل لشخصية السياسي العراقي المُ
...
-
الحوار المتمدن ... وجدلية ((الإرادة - الحلم ))
-
الحب الرومانسي بين الفلسفة وعلم النفس: (صدور كتاب لفارس كمال
...
-
الطفل العراقي .. ورأسمالية الحروب .. وسيكولوجية الثورة
-
أنماط الشخصية العراقية الحالية وآفاق الوحدة المجتمعية
-
شارع المتنبي في الذاكرة العراقية الجمعية
-
كيف ينظر المثقف العراقي للولايات المتحدة الأمريكية؟ - تقصي م
...
-
وداعاً -عبدالله مهدي الخطيب- آخر فلاسفة الشيوعية في العراق
-
قلق الموت لدى الأستاذ الجامعي العراقي – دراسة ميدانية
-
مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 3 -
...
-
مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس) 2 -
...
-
(مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي (من حمورابي الى ماركس)(1 –
...
-
عقدة (الطابور) في الشخصية العراقية
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية(دراسة ميداني
...
-
هل كان (مؤيد نعمة) معالجاً نفسياً؟
المزيد.....
-
-45 ساعة من الفوضى-: مصادر تكشف لـCNN كواليس إلغاء قرار ترام
...
-
مستشار ترامب: يجب على مصر والأردن أن تقترحا حلا بديلا لنقل س
...
-
-الطريق سيكون طويلا جدا- لإعادة بناء غزة من الصفر
-
إدارة ترمب تسحب 50 مليون دولار استخدمت لـ-الواقي الذكري- في
...
-
أميركا نقلت صواريخ -باتريوت- من إسرائيل إلى أوكرانيا
-
-الشيوخ- الأميركي يعرقل مشروع قانون يعاقب -الجنائية الدولية-
...
-
مقتل العشرات بتدافع في مهرجان هندوسي ضخم بالهند
-
ترمب يأمر بتقييد إجراءات عمليات التحول الجنسي للقاصرين
-
دفع أميركي باتجاه وقف هجوم حركة -أم 23- على شرق الكونغو
-
توقيف رجل يشتبه في تخطيطه لقتل مسؤولين في إدارة ترمب
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|