|
التكنولوجيا.. آلهة العالم الجديد / من مبدع لها الى عبد لها
سيمون خوري
الحوار المتمدن-العدد: 3012 - 2010 / 5 / 22 - 17:38
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
الإعلان عن التوصل الى خلية إصطناعية جديدة ، يبدو أنه سيحدث ثورة علمية خارقة ، أكثر عمقاً وأوسع مدى بكثير مما حققته النظريات السابقة في مختلف العلوم . ربما ستؤدي الى إعادة تشكيل جديد للمجتمعات بصورة مختلفة عما عليه الأن . بالطبع ليس في عمرنا الحالي بل في عقود قادمة . بطريقة لا تستطيع أي ثورة سياسية مجاراتها . العديد من التعليقات التي قرأتها على هذا الخبر تناولت المسألة من حيث علاقة الخبر بالشأن الديني . وبتقديري ان الموضوع أكثر تجاوزاً لهذه المسألة الجانبية . لأن لدينا مشكلة حول الفهم والنص الديني جرى التعاطي مع الحدث من هذه الزاوية ، وأعتقد أنه تعاطي يحمل شئ من التسرع في الحكم على الأشياء . الدين كمفهوم بصورة عامة في حالة تراجع ، وهو قضية نسبية فلا يشغل بال العلماء لا قضية الوحي الألهي ، ولا الوعد الألهي العقاري بالجنة أو النار . لذا المسألة ليست في منظورها الديني ، بل في أثارها المستقبلية على الإنسان في حال إستمرار صيغة العولمة بأشكال مختلفة مطورة نفسها بأشكال تنسجم وسياق التطور التكنولوجي السريع المعرفي . وربما شركات الدواء العالمية وقضية " مرض الخنازير " مجرد نموذج . توحد الطبيعة ، ليس فكرة جديدة ، بل منذ أكثر من قرن من الزمن كتب " جون موير " وهو أحد علماء المذهب الطبيعي ، " عندما يشد المرء اليه بقوة شيئاً في الطبيعة ، سيجد أنه مربوط بإحكام الى سائر الكون " . وهكذا فإن المجرات ، والبنى الكونية الأكبر مربوطة كلها الى مبدأ عدم اليقين في نظرية " الكم الميكروسكوبية " . نتحدث الأن عن هذا الإكتشاف ، بإعتباره فتحاً علمياً غير مسبوقاً ، وباباً أخر لإكتشافات أخرى كتحصيل حاصل لهذا الإكتشاف . بيد أني ما أخشاه أننا ، أو بالأحرى أجيال البشرية القادمة ، قد تشفق على ما وصلت اليه الإنسانية من عبودية وخضوع للتكنولوجيا التي لا أحد بإمكانه تقديم ضمانات حول طرائق إستخدامها . في ظل غياب نظام عدالة إجتماعي راقي ليس قائماً على مبدأ الإستغلال . نحن الأن كبشر في منطق تعامل سوق البورصة اليومي الحاكم الأوحد في العالم مجرد ارقام إستهلاكية . وأي دولة يجري التعامل معها بإعتبارها سوقاً وبحسب عدد سكانها ، وقدرتها الإستهلاكية لمنتجات التسليع الدائم . ويبدو أننا سنتوحد مع الموتى في لغة الأرقام . فالحديث مثلاً عن ضحايا العنف والأرهاب في العراق أو في أي مكان أخر يتنفس فيه الأرهاب يجري الحديث عن أرقام وليس عن أسماء لبشر كان لهم وجود وكيان . توحدت كافة الأجساد في رقم يسجل في دوائر الإحصاء . حتى هؤلاء الضحايا تحولوا الى سلعة يجري المتاجرة الدولية بها وفق نظام " الشحاذة الوطنية " للحصول على تعويضات أو أموال دعم " الصمود " ..؟ نوع من الغش والإحتيال والإستغلال حتى للموتى كأرقاماً ، وليس كبشراً . كل شئ عملياً حولته الرأسمالية الى سلعة ، وجرى تعليب كل إحتياجات الإنسان سواء كمواد غذائية إستهلاكية أم كمواد ترفيهية ، أو كوجود إنساني .. ربما غداً قد نفاجئ بهواء معلب نقي يباع في محلات السوبر ماركت ، في ظل إستمرار حالة تفشي تدهور الوضع البيئي في العالم . والهواء هو السلعة الوحيدة التي بقيت خارج حدود إستغلال طغيان العولمة المتوحش . وقد يقترح غداً أحدهم كنوع من التخلص من عبء الأسماء ، والحكم على طبيعة الإنتماء والهوية أن تحل لغة الأرقام بدل لغة الأسماء . ويصبح لكل فرد " كوداً " معيناً رقماً متداولاً لا تعرف إنتماءه الديني " إذا بقي إنتماء ديني " ولا تعرف هويته الجغرافية فالعالم عبارة عن قرية صغيرة .. أو بعبارة أدق " مول " كبير . وهكذا يمكن أن نكتب على صفحات الكمبيوتر " ردأ على مقال كتبه السيد الرقم كذا .. " ويرد الأخر رداً على ما كتبه الرقم ... الخ ربما شئ لطيف أن تختفي الألقاب والأنتماءات العقائدية والخلافات الجغرافية ، لكن شئ خطير ومفزع أن يتحول الإنسان الى رقماً . في السجون السياسية بحكم الخبرة المتواضعة في هذا المجال ، يعطي المعتقل السياسي رقماً ، ويختفي الأسم ، وهي عملية أسهل لإخفاء الرقم من سجلات القيد الدنيوي . ترى هل سيحول نظام العولمة الذي سيستوعب بدورة هذا الإكتشاف العملي الهائل هذا العالم بكل جمالة الى سجن رقمي كبير لأحياء متحركة تدفع ثمن ما تأكل وتشرب وتستنشق من هواء . ومن لا يملك نقداً للدفع فمصيره حذف رقمة من سجلات الأحصاء ..؟ شئ مرعب أن نكتب بلغة الأرقام قصائدنا في الحياة ، ونعلن عن حبنا وفرحنا بلغة رقمية كودية ، أو يجري تشفير شدو العصافير والبلابل ، وضحكات الأطفال ، ونحمل قلوباً إصطناعية ، أو ربما قلوب إحتياط إضافية . عندها ستختفي لغة الحب ، وستطفو على السطح لغة الرقم . فالرقم لا يعرف معنى الحب . ترى ما هو الرقم الذي يعبر عن قولنا حبيبتي أو حبيبي ؟ . بيد أن أسماء الله الحسني قد تصبح أرقام الله الحسنى . ليست هنا مشكلة . ومع ذلك عندما تختفي اللغة سنتحول الى شعوب من الصم والبكم . ربما هكذا تطور من حسن حظ النظام العربي ، بيد أنه في سجلات الإحصاء العالمية فإن زعامتهم الرقمية تساوي ناقص صفراً. قد يعتبر البعض أن موقفي ضد التطور العلمي .. لكن الحقيقة هو أني أشعر أن هناك تراجعاً في قيمة الإنسان ودوره في هذه الحياة . وربما هذا بإعتقادي هو قمة مأساة الوضع الإنساني المعاصر. لأن الإنجازات العلمية لا يمكن لها أن تقودني الى حالة الأنبهار بها ، لأنها تخفي ورائها حالة عجز إنساني في التحكم بمصيره ، وتسليم التكنولوجيا تقرير مصير الإنسان بدلاً عنه . فنحن نتصور أننا نعيش في عالم رحب ، فيما نحن في الحقيقة غائبون عنه في حالة إنقياد الى وهم يجعل هذه الحياة بلا معنى . ويفرغها من قوة دفقها ودفعها السابق . وهنا يصبح السؤال أكثر حيرة ، ترى ما هو مستقبل الإنسان الأن وفي الغد . عندما تصبح التكنولوجيا هي التي تحدد صياغة مستقبل وشكل الأنسان القادم ..؟ هل يبقى لكافة المعاني من معنى .. الإلتزام بقضايا الإنسان .. أي إنسان نتحدث عنه ..؟ وعن أية مشاعر نعبر ..؟ الخوف على الإنسان في أن يتحول من منتجع ومبدع للتكنولوجيا الى عبد لها ومخلوق منها ولها .. هذا هو الخوف على مستقبل البشرية . أن تتحول التكنولوجيا الى آلهة العالم المعاصر ، ويتحول الإنسان من مبدع لها الى خادم وعبد لها .
#سيمون_خوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التكنولوجيا ... آلهة العالم المعاصر .؟ / من مبدع لها الى عبد
...
-
البحث عن نموذج جديد للعدالة
-
إرهاصات ماقبل التغيير القادم ..؟/ اليونان نموذجاً
-
مسيرة المليون / شهود على ما حدث في أثينا
-
مارغريتا .. آه ..يا مارغريتا
-
مشاعية - الجنة الفردوسية - / حرية جنسية - مساواة إجتماعية -
...
-
من هي - المومس - المجتمع .. أم بائعة الهوى ..؟
-
عندما - يتغوط - العقل / تصاب - المؤخرة - بالصداع ..؟
-
إذا كان ( الإله) ليس وهماً.. / فهو ملحد ؟
-
قبيلة - الماساي - الأفريقية/ ومعابد - الإلهه- في مالاوي
-
عندما يتحول الدين الى / فلكلور للفرح والمحبة
-
لماذا إختفى مفهوم الرجعية / من أدبيات اليسار ..؟
-
من إسراطين ..الى نيجيريا / حوار هادئ مع الأخ العقيد القذافي
-
ما بين أحفاد السيدة - ماكبث -/ وبقايا ماري إنطوانيت ..؟
-
مؤتمر - قمة - العائلات الحاكمة / في العالم العربي
-
ببغاء - السيدة مرتا - / وأبونا الخوري..؟
-
برج - الأسد -
-
إعلان- الجهاد - النووي ..؟
-
هل - الملائكة - سعاة بريد / لتوزيع النصائح ..؟
-
تلميذ في الإبتدائية .. مدير جمعية تعاونية ..؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|