جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2995 - 2010 / 5 / 4 - 21:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقالُ بأن الشعراء وحدهم هم الانطوايون فقط على أنفسهم وهم وحدهم من يحب العزلة وعدم الاختلاط بالناس , ويقال ُ بأن كاتب القصة والرواية غير انطوائي ويحب مشاركة الناس حياتهم اليومية ومن هنا ومن حب الروائي لحياة الناس يكتب عنهم ويكتشف أنواع الناس ليبدو في كتاباته القصصية والروائية وكأنه عالم نفس , أما الشعراء والرسامون والنحاتون المثّالون فإنهم يستمدون مادتهم الإبداعية من وحيهم وعالمهم الخاص لذلك لا يتأثرون بالناس ولا يؤثرون بهم , وبعض المثقفين المزيفين يضحكون على أنفسهم حيث تجدهم يعيشون حياة طبيعية ويستجيبون لِما يستجيب له الإنسان العادي وهذا معناه عدم التطابق مع الثقافة أو مع ما ينادي به , وكل المخلوقات الطائرة تطير بأجنحتها إلا المثقف الحقيقي المبدع يطير بمخيلته , وتأخذه عوالمه الحسية إلى عوالم أخرى أبعد من الأماكن التي تصل إليها الأجنحة الطائرة , وتتطابق أخيلته مع ما يشعر به من خلجات نفسية وحسية وعاطفية , ومن السهل جدا أن يقع المثقف المبدع فريسة لشهواته الإبداعية ومن السهل على المثقف أن يقع فريسة للسلالات العاطفية مثل الحب والعشق والرثاء والحزن للآخرين , ومن السهل على المثقف المبدع أن يقع ضحية نجاحه الفني الابداعي أو أن تزداد أوهامه حدة بأنه يعيش من أجل الآخرين أو أنه يضحي بنفسه من أجل أن تعيش الملايين من البشر حياة كريمة أو أنه هو فعلاً الجندي المجهول أو عود الثقاب الوحيد الذي يشتعلُ في وجه الظلام أو أن تزداد مخيلة المثقف المبدع أنه شخصية سوبر جدا ومختلف عن الناس لذلك كلما شعر بالعظمة كلما شعر أنه بعيد عن الناس وأنه لا ينتمي إليهم ولا ينتمون إليه وفي النهاية يصبح المثقف فعلاً بعيدا عن واقعه وواقع الناس المؤلم ولكن نوبات الزمان تذكره بنفسه وبالناس فيعود إلى ابداعه ليبدأ من الصفر مع الناس,,وحساسية المثقف العالية جدا هي التي تخلق منه إنساناً مبدعاً حقيقياً , وعلى فكره ليس كل المثقفين حساسين أو مبدعين ولكن أدنى مثقف مبدع يملك من الحس العاطفي ما يجعله مميزاً عن الحيوانات ,ومن الصعب أن تقع الناس في حبه وعشقه , والمثقف يريد تغيير نفسه والعالم وفي النهاية يجدُ أنه لم يستطع تغيير أي شيء لا نفسه ولا العالم ويفوته الأوان في تغيير حتى نفسه ,وغير المثقف لا يهتمُ إلا بنفسه ولا يريدُ تغيير إلا نفسه لذلك يشعر بنفسه منذ بداية صباه الأولى ,والمثقف شخص مغترب عن عالم الناس الواقعي الحقيقي ويعيش مع نفسه وإبداعه وكأنه في جزيرة شبه معزولة عن العالم , وينتمي إلى الناس بقرابة الدم ولا ينتمي إليهم بقرابة الروح والعاطفة والإحساس والوجد والكَمد,وشخصية المثقف انطوائية فدائما ما يكون المثقفُ منطويا ً على نفسه وذاته ولا يحب أن تشعر الناس وأهله والمقربون به بأوجاعه وأحزانه لأنه يدرك مرارة تلك الأوجاع وشدة وخزها ولا يريد للأعزاء على قلبه أن يتذوقوها , بينما نجده على العكس من كل ذلك حين يشعر في آلام الناس فيحاول كشفها وابتلاعها وامتصاصها من قلوب ودماء الناس وكأنه يمتص من دمائهم السموم المؤذية , والمثقف المبدع الحقيقي مثله مثل لاعب السيرك قد ينقطع به الحبل في أي لحظة أو في أي لحظة من الممكن أن يتعرض للأذى حين يضع رأسه في فم أسد أو نمر أو كلب كبير , ويدرك المثقف ببداهة حسه أنه يعيش في عالم والناس في عالم آخر , والمثقف شخص عبثي ومهمل لحياته العامة, وكل الناس تعيش لنفسها وذاتها إلا المثقف يعيش لغيره من الناس ونادراً ما ينتبه إلى نفسه إلا بعد فوات الأوان ليجد نفسه أنه ما عاش يوما كحياة الناس العاديين ولا أكل ولا شرب كالناس العاديين ولا كان نومه طبيعيا وإنه قد عاش فقط لأحلامه وآماله وطموحاته الكبيرة التي نادراً ما يحقق منها حتى أصغرها , وحين ينظر إلى الناس العاديين غير المثقفين وغير الناشطين يجد أنهم عاشوا ويعيشون حياة أفضل من حياته وأصغر حلم من أحلامهم يساوي أكبر حلم من أحلامه الكبيرة , وبعد فترة يصبح تاريخ المثقف مجرد ذكريات تدقُ في عالم النسيان وأحاديث يتندرُ بها عليه المتطفلون والانتهازيون , وفي النهاية يأت على المثقف دون أن يحس أو يدري يومه الأخير من عمره وهو ما زال يعتقد أن هنالك مستقبلٍ مزهر .
ولو كان المثقف واقعياً لَما استمتعنا معه في خياله وفضاءه الواسع , ولو كان المثقف منطقياً لَما استجاب لهموم الناس .
ويعيش المثقف المبدع في الوهم والخيال أكثر مما يعيش في الواقع ويطير في السماء أكثر مما يمشي على الأرض ,ولا يستجيب لضرورات الحياة بقدر ما يستجيب للمخيلات التي تصدرُ من مخيلته أي أنه مفصوم فكريا وعاطفياً , ونادراً ما يشعر أنه قد عاش حياة طبيعية حتى وإن امتلك من القدرات المالية ما يؤهله لبناء ناطحة سحاب , وكل المثقفين ينالون التكريم والشهرة بعد بلوغهم سن اليأس لتصبح الشهرة والمجد مجرد صورة غير متحركة وخالية من الدم والروح ولا شك أن المثقف شخصية غير عادية وتصرفاته وسلوكه يدلان دلالة واضحة على أنه غير طبيعي قياسا بتصرفات وسلوكيات الناس الذين يعيشون معه في نفس الدائرة والبيئة والمحيط الذي يعيش هو به .
وتظهر علامات الغرابة والتغريب في حياته منذ بدايات نشأته الأولى , وأهم شيء يغلب على المثقف هو شعوره بعدم الانتماء للبيئة التي يعيش بها وببعد الناس عنه وببعده عنهم حتى وإن حاول الاقتراب من الناس يجدُ أن الناس قد هربوا منه إما خوفاً منه وإما حسداً وإما لعدم تفاهمهم معه .
ويكاد أن يكون مناخ المثقف المبدع استوائيا بعض الشيء فهو إما حار جدا وإما بارد جدا ولا يوجد حل وسط بين ذلك كله , فنصف مشاعره من بعض النواحي باردة جدا ونصفها الآخر مشتعل ٌ جدا والمثقف يكادُ أن يكون ولمّا منافقاً وكاذباً لأنه يخفي في نفسه ما لا يبديه للناس وذلك تجنباً للصدام الثقافي معهم , ولا شك أنه يتألم لذلك كثيرا , والمثقف شخص مهموم ومشغول على غيره من الناس أكثر مما هو مهموم بنفسه وبنظافة ثيابه بينما الآخرون يعيشون لأنفسهم , والمثقف حساس جدا أكثر من اللازم وأكثر من كل الناس وعاطفي جدا وشخصيته ضعيفة جدا أمام المواقف التراجيدية والدرامية المحزنة وتستجيب مشاعره بسرعة للبكاء وللحزن وللعويل وتستجيب شخصيته للأمراض النفسية بسرعة جدا بحيث تضعف شدة الحساسية قدراته الدفاعية وكأنه فاقد لجهاز المناعة ضد الحساسية وضد الشعور بالألم ويقلق بسرعة ويكتئب بسرعة , وهذه الصفات هي التي تعمل على تكوين بواعثه الإبداعية فالإبداع والكتابة لا تصدر من الشخصيات القوية التي من الصعب أن تستجيب لهموم الناس وأحزانهم , والكتابة لا تنبع من قلوب غير عاطفية وغير حساسة وهذه الصفات إن وجدت في أي إنسان فإنه من السهل أن يكتب وأن يبدع , والمثقف المبدع لا يتعامل مع الثقافة بالعقل وإنما بالعاطفة ولو يستجيب المثقف لمنطق العقل لقال بينه وبين نفسه (مالي وما الناس) .
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟