أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال الصالح - العم حسنين: الحكمة والقمامة














المزيد.....


العم حسنين: الحكمة والقمامة


نضال الصالح

الحوار المتمدن-العدد: 2985 - 2010 / 4 / 24 - 19:39
المحور: الادب والفن
    


لا أحد يعرف كم عمر العم حسنين ولا يمكن لأحد، حتى، أن يقدر ذلك تقديرا. تستطيع أن تقول أن عمره مئة عام أو خمسون وقد يكون ذالك أو ذاك أو غيره. يمكنك أن تجد على تضاريس وجهه خارطة مصر بكاملها، بسهولها وهضابها وجبالها، حتى الأهرام يمكنك أن تجدها مرسومة على تضاريس وجهه. إذا أردت أن تترك لمخيلتك العنان وتبحث في ثناياها عن صورة تمثل البؤس والفقر فلا تفعل، فالعم حسنين يريحك من هذا الجهد ويكفي أن تنظر إليه وتتمعن في ثنايا وخبايا وجهه حتى ترى خير صورة تجسد البؤس والفقر بكل معانيهما. ولكن البؤس والفقر الظاهرين على وجهه وجسده النحيل وملابسه الكالحة اللون والمرقعة وعمامته التي إختفى لونها والتي تخفي تحتها خصلات الشعر الباقية على رأسه، لم تستطع أن تقتل صفة الإنسانية فيه، فهو دائم الإبتسام، يحي المارة مبتسما، كاشفا عن بقايا أسنان أصبح لونها كلون رمال مصر الصحراوية.

العم حسنين أصبح معلما من معالم شارع يوسف عفيفي في غردقة مصر. يقف على ناصية الشارع وأمامة سطل كبير من التنك موضوع على عربة ذات العجل الواحد، زودته بها بلدية الغردقة. العم حسنين يسميه أصحاب الحوانيت في ذلك الشارع، " بتاع الزبالة"، فهو يقوم بالتقاط الأوراق والعلب الفارغة وبعض الفضلات التي يتركها السواح أو اصحاب المحال التجارية ويضعها في السطل ثم يقف أمام عربته وينتظر واقفا حتى حلول الظلام، فيركب باص العمال الذي ينقله إلى بيته في أحد الأحياء الفقيرة في الغردقة القديمة أو الضهار. بيته يتكون من غرفة صغيرة من الصفيح يشاركه العيش فيها بعض زملاءه من أصحاب مهنته، لا يوجد فيه خزانة أو طاولة أو كراسي وإنما فرش على الأرض كفرش السجن.

في كل إجازة صيف أقضيها في الغردقة أذهب للبحث عن العم حسنين، فأجده واقفا في نفس المكان أمام عربته القديمة ذات السطل التنكي، كتمثال أحد خدم القادة المصريين من زمن الفراعنة. يلاقيني بإبتسامة وترحيب كأنما كان في إتظاري قائلا: " هالمرة طولت علينا الغيبة."
بعد العشاء في الفندق كانت المضيفة الواقفة أمام باب المطعم تقدم لنا سلة من حبات الملبس كضيافة، كنت آخذ منها حبتين، أعطيها للعم حسنين حين كنت أمر عليه في موقعه المعهود، يضع حبة في فمه ويخبئ الأخرى في جيبه قائلا،" دي لصاحبي اللي ساكن معايا". كان يفرح بحبات الملبس كفرح طفل صغير، وكانت إبتسامته الفرحة تكشف عن بقايا الأسنان التي بقيت في فمه، تكاد هي الأخرى أن تسقط، وعن لثه مزرقة اللون من قلة الإعتناء ودلالة على فقر الدم. كنت أضع في يده بعض النقود فيأخذها بصمت ويضعها في جيب عبه ويشكرني ولكنه لا يظهر فرحا كفرحه بحبات الملبس .
لأربع سنين متتابعات، أصبحت زيارتي للعم حسنين كل مساء جزء من برنامجي اليومي طيلة إقامتي في الغردقة. في كل مرة كنت أقدم له حبتي الملبس وبعض النقود، وفي كل مرة تكون فرحته بحبات الملبس أكبر بكثير من فرحته بالنقود التي كنت أضعها في يده ولم تكن قليلة وخاصة بالنسبة لوضعه. في كل مرة كنت أتسائل، لماذا يا ترى تكون فرحته بحبات الملبس واضحة للعيان، تظهر على جميع أسارير وجهه، أما النقود فيأخذها بصمت ويهمس، كأنما خجلا، بكلمة الشكر، وكأنما قد أخذها على مضض. كنت أتسائل ولكنني لم أسأله عن السبب حتى لا يفهم عكس ما أقصد.

في مساء يوم من الأيام المعتادة في رحلتي الأخيرة للغردقة، حيث يتكرر المشهد مع العم حسنين، فرحة عارمة بحبات الملبس وصمت عند إستقبال النقود، لم أستطع منع نفسي من سؤاله، فسألته:" أريد أن أسألك سؤالا يا عم حسنين وأرجوك أن لا تفهمني غلط. لماذا تستقبل حبات الملبس بسرور وفرح أما النقود فتستقبلها بفتور مع أني أعرف إنك في حاجة ماسة لها ؟" نظر إلي وابتسم كاشفا عن تلك الأسنان التي على وشك أن تسقط وتلحق بزميلاتها وقال:" عداك العيب يا دكتور، الملبس ضيافة، والضيافة محبة واحترام، أما الفلوس فهي حسنة، تدل على فقري وحاجتي وبؤسي. أنا محتاج ليها ولكنك لما تعطيني إياها تكشف عن عورتي، يعني فقري وحالي المعتر فيصيبني الغم ."
نظرت إليه وقلت: "الله، أنت طلعت حكيم و فيلسوف يا عم حسنين"، فرد قائلا:" لا فيلسوف ولا حاجة، دي الحياة علمتنا كده." ثم صمت لحظات وأضاف: " ما تدكدرش يا دكتور، إللى متلي متايل، دا إحنا ملايين."
تركته وانصرفت وأنا أتسائل: لو عرف الإنسان كم هو قليل ما يكفي لجلب السرور للاخرين، وتسائلت أيضا: " كم من الدرر مدفونة في بلادنا تحت أكوام القمامة، ندوس عليها ونحن لا نعلم ولا نحس بها؟! تذكرت ما قاله العم حسنين،" دول بالملايين."



#نضال_الصالح (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبدالرحيم عمر: الشاعر، الصديق والإنسان
- البحث عن الذات
- قصتي مع جابر بن حيان
- كيف تتكون الهالة حول الجسم وما علاقتها بصحته
- اليهود الخزر
- وحدة المخابرات العربية
- المرأة والجنس في الديانة اليهودية
- المتقاعد
- الإسلام والمسيحية، صراع عقائد أم مصالح؟
- رقة الغزل وعفة السلوك
- ذئاب بلحية ومسبحة
- جنَ الفلم فاحترقا
- دفاعا عن الحائط
- هل ماتت الإشتراكية وإلى الأبد؟
- طوشة الموارس
- الجدل العقيم: ديني أفضل أم دينك؟
- رسائل وردود
- رسالة إلى المقاتلين بإسم الله
- قارئة الفنجان
- الجنس بين العيب والحرام والإحتكار الذكوري


المزيد.....




- سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون ...
- العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه ...
- إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025 ...
- بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
- ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم ...
- سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو ...
- معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
- الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي ...
- -نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه ...
- رحيل أنتونين ماييه.. الروائية الكندية التي رفعت صوت الأكادية ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال الصالح - العم حسنين: الحكمة والقمامة