حكمت عيسى الريكاني
الحوار المتمدن-العدد: 2980 - 2010 / 4 / 19 - 18:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل إنسان لابد وأن يريد أن يتميز و يتفوق في حياته وهذا ما قررناه جميعا وما نتمناه في دائرة معرفتنا وعملنا إلا أن البعض ترك هذا القرار و لم ينفذ ولكنهم لا يزالون يعيشون مع هذه الرغبة اللاواعية لأن كل طموح بشري لابد أن يختفي وراء إيحاء لاشعوري , أما بعض الاخر فقد نفذوا و صعدوا سلم التفوق وهذا ما يريده أن يعلو و يرتفع في نظر فرد أو جماعة من الناس. ولا خير في علو ليس له من ينظر إليه ويعجب به
لو لا يكون في العلو والتفوق خير للناس وعجب منهم لرفض الناس هذا, كلما حاول الامتياز كلما زاد الكره ضده, لأن هناك اناس يعتقدون بان التفوق كان على حساب تفوقهم للعلم ليس هناك شيء من القبيل,فهنا يجب ان يعرف المتميز بان هناك شيء يصدر منه ويسبب في خلق هذا الكره.
لو تصفحنا التأريخ لوجدنا بان معظم المتفوقين والمتميزين عانوا من الكره والمشقة والصراع وقد دفعوا معظمهم ثمن هذا العداء أمثال الثوار والعلماء والمفكرين كشيخ محمود الحفيذ غاليلو وأرسطو وغيرهم بالآلاف.
لا يمكن أن نصوب كل هؤلاء المتميزين رغم ما جهدوا وتعبوا وخدموا الأرض بإنسانه وما عليه من المخلوقات لأنهم لم يلاحظ أو لم يفكروا رغم معرفتهم بأنه يجب أن يكون تمييزهم او تفوقهم فيه اعجاب من حولهم حيث يمكن أن يقنع الخصم يرضي الناس كما أسلفنا. و رضى الناس غاية لا تدرك كما قال الإمام الشافعي.
فالمغني المتميز يجب أن ينال إعجاب الناس و يقنعهم أنه لو لم يكن آذانهم لما وصل هذا الى هذه المرحلة المتميزة أي أن آذان الناس لهم فضل على تمييزه كما هو الحال المفكر فلو لم يكن عقول الناس لما إشتهر هذا الشخص المفكر ,أي أن عقول الناس لها فضل على افكاره ومن هذا الباب فيقول المغني أوالمفكر للناس أنتم صانعوا التفوق والامتياز, أي أن الناس يخدمون المغنون والمفكرون والعكس صحيح أو بالأحرى هذا الفريق يكمل الفريق الآخر والعكس صحيح أيضا,
عندما يجتهد شخص ويكدح ويحاول التفوق, وتسأل فلانا ماذا يفعل هذا ؟ فيجيب ويقول: يا اخي هذا سيء السلوك حتى نفسه لا يعرف ماذا يفعل.
وإذا رأى شخصا مجتهدا في منصبه مثلا أو رأى وجها جميلا على شاشة التلفاز فيقول إنه لا يستحق الشهرة هذه لأنه لم يصل الى مركزه إلا بالمصادفة والحيلة وإذا قرأ سيرة شخصا ناجحا كان همه الوحيد أن يثبت بأنه كان هذا ليس ناجحا و إنما هو في الأصل فاشلاً.
فليعلم المتميز بأنه ثمة اناس يحقدون بما يتميز به وهذا بحد ذاته لا يساعد ذو طموح الى ما يطمح إليه.....فما سر هذا الحقد؟
إنه نوع من الناس يكره الامتياز, ويعاد التفوق, ويخاف خوفا عميقا من أ ن يرى شخصا يتمتع بموهبة لامعة, لا يحب أن يرى تمثالا جميلا تنظر إليه العيون بإعجاب وتلتف حوله القلوب بأعمق ما فيها من عاطفة ولكنه يسترح تماما إذا تحطم هذا التمثال ورائه مجموعة متناثرة من الأحجار.
منظر الضعف يريحه ويسعده, ويرى أوراق الخريف أجمل من زهور الربيع, ومنظر الخراب والدمار يطمئنه على أن العالم بخير(أي ليس فيه تفوق ولا امتياز)
و هذا النوع من الناس يعاد الامتياز بكل صور, سواء كان وجها جميلا او شخصا محبوبا ناجحا, والدافع الأساسي الذي يحرك هذه النفسيات هو أن أصحابها لا يملكون صفة جميلة تميزهم عن الغير و هو في الوقت نفسه لا يعملون ولا يجتهدون لإكتساب هذه الصفة الجميلة, ولكنهم يفعلون مثل قصة سباق الأرنب المشهورة مع سلحفاة,فهي تهمل ولا تركض رغم قدرتها الفائقة على الركض
أما هذا النوع من النفسيات فلا يجد مخرجا لأزمته إلا في كراهية (الامتياز) والعمل على تشويه الممتازين و فرش طريقهم بالأشواك. ويقول المثل الكردي( إن لم تكن وردة لا تكن شوكة)
فالشخص الممتاز هو نقد غير مباشر لهؤلاء الناس, يبرز ما فيهم من النقص , وهذا الشعور يثير القلق بل ويخلق الخوف, فكيف يمكن التغلب على هذا الخطر الذي يهدد حياة هؤلاء الضعفاء والحاقدون, هذه النفسيات ضعيفة لا يمكنها مواجهة التمييز إلا بالكره.
كيف(5) يمكن مواجهة النجاح بدون أن يكون ناجحا او قويا بدون قوة, أو وجها جميلا بدون الجمال. هذه النفسيات ترى بأن الطريق الأنجح لمواجهة هذا العظيم هو نقد هدّام و تشويه صورته و إثبات عجزه و البحث عن أخطائه. وعندما ينهار الشخص المتميز يطمئن قلبه و يفشي السلام في الأرض ويعود كل شيء مطمئنا لا يزعجه تلك القوة الخارجية المتفوقة.
السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يرفض المجتمع أمثال هؤلاء مع تمييزهم وحاجة المجتمع اليهم؟
إن في تمييزهم أو بعبارة اخرى في عظمتهم حقيقة جديدة حيث يحول المجتمع إلى مرحلة جديدة من الأفكار والمواقف , والمشكلة هنا أن الآخرون لا يرون هذه الحقيقة المفيدة ويعتقدون بأنها خطرة على حياتهم و الامة جمعاء لذلك يحاولون كل الجهد إلى تدمير هذه الخطورة.
كان القدماء يعتقدون بأن الإنسان العاقل المتميز قادر على فهم الحقيقة كلها إذا أحسن التفكير وأتبع المنطق السليم, ومعنى هذا أن الإنسان المتفوق والواعي قادر على تجنب الخطأ وقادر على الوصول الى الصواب بسهولة. ولكن اليوم أصبح هذا الرأي خاطئا, فالإنسان العاقل المتميز الذي نسميه ب(العظيم)لا يستطيع مهما حاول أن يستوعب الحقيقة كلها, فمن طبيعته أن يركز على جانب واحد من الحقيقة فيهمل الجوانب الاخرى و هو لابد أن يخطئ ويصيب في آن واحد, وقد أصدق من قال(ربحت شيئا وخسرت أشياء اخرى).
ويقول(1) "وليم جيمس" (العقل الإنساني متحيز و جزئ بطبيعته), أي أن العقل بعبارة اخرى لا يستطيع أن يفهم شيئا إلا إذا تحيز في نظره إليه ثم أهمل غيره, ومن هنا نشأت المجادلات العقيمة التي ابتلى بها المفكرون القدماء , فكل فريق منهم يتعصب لرأيه حيث يرى الحقيقة كلها كامنة فيه, بينما هو في الواقع ركز نظره على جزء واحد منها, ولو إنه دار برأسه نحو أجزاء الاخرى لتبين أنه مخطئ و مصيب و أن خصومه مثله (والكمال لله فقط)
وبعيدا عن النفسيات الحاقدة التي تكره المتميز,من العجيب بأن المتميزين يرفضون أنفسهم, فكل متميز أو متفوق لا يوفق مع نضيره لأن كل واحد منهم يرى الحقيقة من باب واحد وليس من أبواب متعددة, فكيف إذا , الإنسان الجاهل الذي لا يرى الحقيقة ولو من خلال الشباك أن يتقبل هذه الحقيقة الجديدة.
إذن أن الأقوياء الجهلة لا يرفضون المتميزين فحسب,بل ويقتلونه كما قتل الثري الأثيني ارسطو حيث حكم عليه بالإعدام.
فكل جديد غريب وكل غريب لا يمكنه أن يتكيف مع الواقع بسهولة إلا وإنه سوف يواجه الممانعة والمقاومة من هنا وهناك, لذا كان يجب على المتميز أن يتكيف مع الضعفاء والأقوياء الجهلة خصومهم المتميزين والمفكرين.
نجح جرّاح أمريكي(2) (كريستيان برنارد)من جنوب أفريقيا في عملية زرع أول قلب للتاجر(لويس واس), وعاش هذا التاجر بعد العملية 18 يوما فقط و مات , وكان سبب هذا الموت هو ظاهرة الرفض, ولكن لماذا يرفض البدن عضوا نبيلا في الوقت الذي لا يمكنه أن يعيش بدون العضو النبيل ويفضل الموت على الترحيب به.
في الواقع إن الجسم الإنسان يعمل بحكمة بالغة وفق قوانين مسيطرة, حيث يرفض أي غريب إلى الجسم ويقوي مناعته حتى يقتله.
و بعد الفحوصات اثبت مجموعة من الأطباء بأن هذا القلب لم يكن بمقدوره أن يتكيف مع هذا البدن, علما أن العملية تجرى في وقت الحاضر بسهولة ونجاح.
المجتمع البشري لا يختلف كثيرا عن مجتمع جسم البشري, فهو يرفض ولا يمكن أن يتقبل أي غريب إليه في الوقت نفسه لا يمكن لهذا الغريب أن يتكيف مع هذا المجتمع.
فعلى هذا الغريب الذي نسميه ( المتميز أو العظيم)أن ينتبه إلى مشاعر الناس كما إنتبه المغني سلفا الى آذان الناس, حيث أن لدى هذه الآذان فضل عليه
ومن ناحية اُخرى, فإنها حقيقة حياة مؤلمة, أن الشخص المتميز يتيح الفرصة لمثل هذا الموقف, وهو لا يتصور كثيرا أن أحدا يمكن أن يخطر على باله نوع من الغدر والخديعة.
و هنا يمكن أن يكون في شخص الممتاز ما يصح أن نسميه(ضعف العظماء) وهو ضعف الذي يؤدي إلى عدم رؤية الآخرين رؤية صحيحة والعجز عن تصور انفعالاتهم الخفية السوداء و إدراكها . ولذلك فكثير من العظماء يقعون في فخاخ الضعفاء الحاقدين عليهم بسهولة غريبة.بل وهم يساعدون-لا شعوريا-مساعدة رئيسية في خلق هذه الأسباب التي تؤدي بهم إلى الكارثة و النهاية الحزينة.
وقد ذكرنا في المقدمة بعض الثوار والفلاسفة الذين كانوا لهم مصير واحد و منهم القائد الكردي الشيخ محمودالحفيذ وغاليلو وكذلك سقراط.
وهم عادة لا يسارعون غلى علاج هذه المشاعر , بل على العكس إنهم يساعدون على إشعالها بتصرفاتهم التي تمتلئ بالبساطة والسذاجة الطيبة, وفي الوقت نفسه تمتلئ بالعظمة.
فسقراط(3) أبو الفلسفة الإنسانية مات محكوما عليه بالإعدام, وكان الذي قدمه غلى المحكمة هو رجل من أغنياء أثينا و وجهائها الذين ضاقوا كثيرا بعلم سقراط و شهرته وحب الناس اليه, ولم يفهم سقراط طبيعة الحقد الذي ثار ضده. أما الأثيني الغني فحاول بكل جهده و قوته بان يفني سقراط من الوجود ليطمئن قلبه وأتهمه بأنه (خارج عن دين أثينا). ولم يسارع سقراط غلى علاج هذه المشكلة بحكمة و براعة , ولكنه على العكس واجه الإتهام بقوة و ضن أن المسألة هي معركة فكرية يجب أن ينتصر فيها من يكون الحق بجانبه,
ووقف سقراط في المحكمة يدافع عن نفسه أمام جماهير أثينا, وكلما زاد توفبقا أزداد حنق القاضي عليه وكان القاضي الأول هو نفسه ذلك الأثيني الغني.
و استمر سقراط في الدفاع عن نفسه وضل يتحدث ببراعة وبلاغة الساحرة حتى أثبتت أكاره وبرهن عليها, وعندما وصل إلى هذه النقطة كان في الوقت نفسه قد حدد الحكم الذي صدر بحقه بعد ذلك وهو الحكم الإعدام.
و يعلق(4) "برنادشو" على دفاع سقراط ويقول: (إن إثبات سقراط لفكرته كان هلاكا له وقضاء عليه,لقد قضي عليه جهله بمبلغ ما أثار ليه رجحان عقله في قلوب الرجال من خوف وكره وما كان سقراط يحمل في قلبه إلا الخير,وما كان يضن إلا أنه أسدى لهم كل معروف).
وهكذا انتهت حياة سقراط بتهمة باطلة.. وشرب السم ومات, وانتهى لأنه كان صادقا وجميلا و متميزا وعظيما.
أما نابليون فمات على فراشه ولم يصب بسوء, إلا أنه كان قد احتمى دائما بالحذر, وسوء الظن العميق بالنفس البشرية و معرفته أن الذين يكرهون الامتياز يخافون منه اخطر من الذين يحبونه ويتعاطفون معه.
و هذه كانت أمثلة معروفة في التاريخ, أما فنحن نرى ونسمع أكثر من أمثلة في حياتنا الإعتيادية, فالطبيب الناجح , والفنان الموهوب , والفتاة الجميلة, والشخص المحبوب وكذلك المذيعة البارعة و...الخ.
وهي ظاهرة تأتي من الفشل والضعف , فالعظيم يقع في فخ هذا الضعيف, والضعيف لا يرحم هذا العظيم, لذا يفضل للمرء أن يعرف بأن أحيانا حب التمييز أخطر من كره التمييز
حرصا على قدسية المعرفة: لقد استفدنا من المصادر الآتية
1. علي الوردي. الأحلام بين العلم والعقيد
2. جودت سعيد. كيف تفقد الشعوب المناعة ضد الاستبداد
3. رجاء النقاش. تأملات في الإنسان
4. برنادشو.مقدمة مسرحية"جان دارك"
5. Anthony Robins. Giant Steps
6. Stephen. R Coffey. Seven habits of highly effective people
#حكمت_عيسى_الريكاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟