|
ميتافيزيقا المثقفين العرب
رشيد بن بيه
كاتب باحث في علم الاجتماع
(Rachid Benbih)
الحوار المتمدن-العدد: 2977 - 2010 / 4 / 16 - 00:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تتضمن كتابات المثقفين العرب جانبا ميتافيزيقيا كبيرا يمكن اكتشافه من خلال تحليل كتاباتهم، والتمعن في أفكارهم وتصوراتهم لمختلف القضايا والتحديات المطروحة على الوطن العربي. فليس المثقف العربي كما هو الشأن بالنسبة لجميع مثقفي العالم، دائما مبدعا لأفكار معقولة، ومفاهيم عملية، وحلول واقعية. بل ينتج من الأفكار الهامة بقدر ما ينتج من الأوهام والخرافات والماورائيات والتخمينات التي تكشف الوقائع المستجدة والأحداث الطارئة عن طوباويتها ولا معقوليتها. ولقد حاول بعض المفكرين، من ذوي نزعة النقد التفكيكي الحديث أن ينتقدوا ويفككوا ما أنتجه المثقفون من الأفكار اللامعقولة والمفاهيم الخاطئة. وكشفت هذه العملية عن خرافات وطوباويات العديد من المثقفين المشهورين في الساحة العربية من أركون ( خرافة نقد الأصول والفروع ) والجابري، (أسطورة العقل العربي) ومطاع الصفدي ( متاهة التفلسف بالفلسفة الغربية) … ويعد المفكر اللبناني علي حرب من المفكرين التفكيكيين الذين عملوا على تعرية خطاب المثقفين العرب، وتفكيك استراتيجياتهم المعرفية، وآليات اشتغالهم. وقد كرس لذلك العديد من الكتب مثل أوهام النخبة، والممنوع والممتنع، ونقد النص… إن التمعن في قراءة الكتابات السابقة لهذا المفكر، تكشف على أن المثقف العربي ينتج من الأفكار الهامة والمعقولة بقدر ما ينتج من الوهم والضلال واليوتوبيا والأصولية والجمود والتقليد. فما كشفه هذا الناقد من انزلاقات فكرية لدى المثقفين العرب (راجع كتاب أوهام النخبة 1994)، يجعل التساؤل عن مدى وجود فكر ميتافيزيقي قوي ومتماسك ورائج في الساحة الفكرية العربية مشروعا. إنني إذ انطلق من نقد علي حرب للمثقف لا أصبو إلى إعادة تكرار أفكاره أو تلخيصها، وإنما الاستفادة مما طرحه من أفكار من أجل فهم أكبر وأعمق "للميتافيزيقا" التي أنتجها المفكرون العرب. ذلك أن التعامل مع أفكار مثقفينا العرب، بما فيهم علي حرب، نفسه، كميتافيزيقا، هو الذي سيحررنا من ضلالات وأوهام هؤلاء المثقفين التي أصبحت تسكننا على نحو عميق، وتحكم تحليلنا وتفكيرنا بشكل خطير. ذلك أن "على حرب" اكتفى بتحديد وشرح أوهام المثقف، عربيا كان أم غربيا، مثل: وهم النخبة و الحرية والهوية والمطابقة والحداثة..، دون أن يتجاوز ذلك إلى البحث عن سبب سيطرة تلك الأوهام، ولا في كيفية اشتغالها (الأوهام)، وطرق إعادة إنتاجها من طرف المفكرين وعامة الناس. فهذه الأوهام، كما أفترض ذلك، تشكل كلا يمكن أن أطلق عليه "ميتافيزيقا عربية معاصرة"، تكاد تشبه كافة الميتافيزيقيات القديمة والحديثة. ويستمد الحديث عن ميتافيزيقا معاصرة، ينتجها مثقفونا العرب كما ينتجها مثقفو كل بلدان العالم، من كون العقل البشري، على نحو ما كشف ذلك نيتشه ينتج الأوهام والخرافات. وفي أنه، كما توصل إلى ذلك فرويد محكوم، بنزعات لاشعورية عميقة تجعله ( العقل) يبرر ويخفي الرغبات أكثر مما يكشف الوقائع والحقائق. فطبيعة العقل ليست خالصة وفق ما رآه "كانط". بل ينتج الكثير من الضلالات مقابل إنتاج القليل من الأفكار الهامة. وهو ما يشهد عليه استمرار التقاليد البالية والمضرة، والطقوس الدينية الغيبية....إن استمرار هذا الفكر الميتافيزيقي يعود إلى إعادة الإنتاج التي يخضع لها بشكل مستمر من طرف المثقفين والمفكرين وعامة الأفراد. ففي العالم العربي مثلا، وبخصوص هذه الميتافيزيقا التي تسكن المفكرين العرب، تكاد تدور كل النقاشات السياسية والاقتصادية والفنية حول مكانة الدين في المجتمع، وفي الحفاظ على الهوية، والجسد، والحاكم، والقديم. فأصل كل المشكلات المطروحة في الساحة العربية تعود، حسب العديد من مثقفينا، إلى سبب واحد ووحيد، هو السبب الديني. متجاهلة، في أغلبها، الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والعسكرية...ذلك أن تحليلات رجل الدين العربي، وبعد استفاضتها في أمثلة وشواهد ومعجزات ووقائع، تعود إلى "بداهة" بسيطة لتبرر ما حصل بتفريط الناس والحاكم في الدين، أو تجاهلهما للتاريخ، والسيرة. أما بخصوص الميتافيزيقا المعاصرة المتدثرة بثياب العلم والفكر والمنهج والمناهج، فنجدها لدى مفكرينا المعاصرين، والمشتغلين بالفلسفة والأدب والفكر؛ أولائك المتحلقين حول مجلات فكرية عربية. وتتجلى تلك الميتافيزيقا في بعض التحليلات التي يقدمونها، والحلول التي يقترحونها. ولتوضيح ذلك، يمكن أن أنطلق من خلاصة بعض مفكرينا ومؤرخينا المعاصرين، بخصوص الحل الممكن من أجل أن يخرج العرب من تخلفهم. وهذا الحل هو " القطيعة مع الماضي". فقد امتلك العديد من مفكرينا جرأة الحديث عن قطيعة شاملة وحاسمة مع التراث والتاريخ والأدب والفن كشرط ضروري للدخول إلى الحداثة. كما صدر هذا الطرح كذلك عن بعض مؤرخينا العرب أمثال عبد الله العروي (كتاب الإيديولوجية العربية المعاصرة). غير أنه لم يبين لنا دعاة القطيعة، ما إن حقق مجتمع ما في تاريخه قطيعة مع ماضيه. والغريب أكثر أن مثقفينا لا يحددون مستوى هذه القطيعة، ومن هو المستوى الأهم: هل المستوى الاقتصادي التحتي أم الفوقي بما يشمله من فكر وأدب؟ ومن هي الجهة المؤهلة، حسب ظروف تاريخية محددة، للقيام بتلك القطيعة؟ كما أنه يصعب أن نتحدث عن إمكانية إحداث قطيعة في المجال الفكري، فأوروبا ومنذ نهضتها في القرن 15، وإلى الآن مازالت تنهل من الحضارتين اليونانية والرومانية. مثلا نيتشه، وباعتباره حداثيا، عاد إلى التراجيديا اليونانية وأعاد تجسيدها في فلسفته. إن القطيعة التي قام بها الغرب كانت اقتصادية، استطاعت وضع نظام اجتماعي جديد ومغاير محل النظام القديم. والوسيلة التي استعملها لأجل ذلك هي الثورة ضد الكنيسة والملكية والإقطاع. ولم يكن مفكرو الغرب يوما ما منشغلين بإحداث أية قطيعة في مجال الفكر أو البنية الفوقية. لأن شاغلهم هو القطيعة مع النظام الاجتماعي والسياسي القائم. أما بالنسبة لمفكرينا العرب، فبدل أن يعملوا على المطالبة بإحداث القطيعة المادية الملموسة مع النظام الاقتصادي والاجتماعي، نجدهم يطالبون بإحداث قطيعة مثالية وفوقية ومتعالية وروحية مع الفكر الماضي. وفي نفس الوقت يدعمون الأنظمة الاقتصادية والسياسة والاجتماعية، ويهرولون للحاق بها، فمنهم من وصل لمناصب وزارية وسياسية وثقافية واقتصادية، دعم عبرها النظام القائم وأعاد بواسطتها تشكيل نفس الأوضاع الاجتماعية. إن إحجام مثقفينا عن الدعوة لقطيعة مادية مع ماهو قائم، واكتفائهم بالدعوة إلى قطيعة فكرية مع التراث الحضاري، تدل على الطبيعة الميتافيزيقية للفكر العربي المعاصر. ففي وطننا العربي، ليس مهما أن نغير الواقع كما هو الشأن لدى الشعوب المتقدمة وإنما أن نغير أفكارنا وننسى ماضينا؛ ذلك أن هذا النوع من التحليل والتفسير جعلنا نعجز عن إحداث القطيعة مع الفكر والواقع معا؛ لأنه لا قطيعة حقيقية مع الفكر والتراث دون البدء بتغيير الواقع.
#رشيد_بن_بيه (هاشتاغ)
Rachid_Benbih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المجلات المغربية و-قواعد البحث العلمي-: التزام أم انتهاك؟
-
فوضى تدبير الموارد البشرية بقطاع التربية الوطنية بالمغرب: ظا
...
-
حالة المغرب في تقارير بعض المنظمات الدولية
-
الدليل البيداغوجي: قراءة نقدية
-
الصحافة المغربية ومراقبة العمل الحكومي - الجزء الأول-
-
الصحافة المغربية ومراقبة العمل الحكومي - الجزء الثاني-
-
أزمة الديمقراطية التمثيلية بالمغرب
-
قراءة نقدية في- تقرير المغرب الاجتماعي-
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|