|
أبواق المساجد و أجراس الكنائس
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 2966 - 2010 / 4 / 5 - 22:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قديما لاحظ أبو العلاء المعرّي، فيلسوف شعراء العربية، بعقله الذكيّ و حسّه النقدي الواقعي، كيف انغمس أهل زمانه في الصّراعات الطائفية و الحروب الدينية السطحية التي كان وقودها الأحقاد و الضغائن و التعصّب، فقال ساخرا من المشهد الكئيب، هازئا بالعقول الصغيرة التي تجعل أمور الدّين و العقيدة أسبق من الإنسان و كرامته، و مبتدأ الحياة و منتهاها، مما أفقر التجربة الإنسانية، و جعل حصيلة المسلمين من الحضارة صفرا. قال الشاعر الضرير في أبيات كوخز الإبر:
فـي اللاذقيـة فتنـة مـا بيـن أحمـد و المسيـحْ هــــذا بـنـاقــوس يــدقّ و ذا بمـئذنـــة يصيـــــحْ كـلٌ ينـاصر دينـه يا ليت شعري ما الصحيحْ ؟
لم تنقطع الصراعات الطائفية في بلاد المسلمين قطّ لأسباب ثلاثة: 1) إصرارهم على اعتبار دينهم أفضل الأديان و أصحّها، و ديانة غيرهم كما يمارسها الغير "محرفة"، و هو ما يعني أن على جميع الأمم الأخرى الدخول في الإسلام لتصحيح انحرافهم و الإهتداء إلى الطريق القويم، باعتبار أن الإسلام الذي يضمّ حسب رأي المسلمين الديانات الأخرى قبل أن تتعرض لـ"التحريف"، يعتبر الدين الوحيد بالنسبة للمسلمين الذي حافظ على الصّيغة الأصلية الصحيحة لما سمّي بـ"الحنيفية السمحاء" ديانة إبراهيم. 2) عزوف المسلمين عن قراءة الكتب السماوية الأخرى غير القرآن لأن الشرع نهاهم عن ذلك. و لهذا تعود المسلمون على انتقاء بعض المضامين الجزئية من الديانات الأخرى و إثبات تهافتها و ضعفها أمام الشرع الإسلامي من أجل الإنتهاء إلى تكريس فكرة أفضلية الدين الإسلامي على غيره و ضرورة إحلاله مكان الأديان الأخرى . مما أدّى إلى عدم السماح بمعرفة الديانات بتدقيق، و ما أدى إلى جعل تعايش المسلمين مع غيرهم أمرا صعبا، و سمح بإحلال مشاعر البغض و الميز و الجهل و عدم الإحترام محل المعرفة و الحوار و التقارب. و قد ورث مسلمو عصرنا هذا كل بديهيات العصور القديمة، لأنهم اكتفوا باعتماد نفس التراث و قراءته بنفس مناهج النظر القديمة، مما أدى إلى ضمور الإجتهاد و شيوع التقليد و التخلف، و دفع ببعض الإجتهادات التنويرية الطفيفة إلى هوامش النسيان، و جعل بين مسلمي اليوم و عقيدتهم الدينية جبالا من الورق الأصفر لم يستطيعوا أبدا تخطيها مما أبعدهم عن الأصل، كما جعلهم غرباء في عصرهم، فلا هُم في الماضي لأن الزمن لا يعود إلى الوراء، و لا هم في الحاضر لأنهم يعيشون على هامش التاريخ و الحضارة المعاصرين. بل أصبحت ثقافتهم في بلدان الغير تبدو كما لو أنها شكل من أشكال زحف بداوة الفكر و السلوك على الحضارة الغربية المتقدمة، و كلما ازدادت شعوب الأرض إبداعا و اختراعا و تحررا أمعن المسلمون في التشبث بماضيهم و العودة إليه و الدعوة إلى تكريس قيمه رغم كل التطورات التي لحقت بالحياة البشرية على شتى المستويات. 3) معاملتهم لغيرهم من أتباع الديانات الأخرى في ظل الخلافة و الدولة الإسلامية باحتقار أوجب ردود أفعال مماثلة، و لا أدلّ على ذلك من الطريقة التي يتمّ بها جباية الجزية من أهل الكتاب تنفيذا للآية "وهم صاغرون"، و التي شرحها المفسرون المسلمون بأنها تعني " أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس. ويؤخذ بلحيته، فيقال له: أدّ الجزية وإن كان يؤديها يزج في قفاه، فهذا معنى الصّغار". (التفسير الكبير/ الرازي)، و معناها أيضا في تفسير البغوي:" وَهُمْ صَـاغِرُونَ أي أذلاّء مقهورون. قال عكرمة: يعطون الجزية عن قيام، والقابض جالس. وعن ابن عباس قال: تُؤخذ منه ويُوطأ عنقه". وعن الكلبي: "قيل: إذا أعطى الجزية صُفع في قفاه. وقيل: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمتيه. و قيل: يُكتب ويُجرُّ إلى موضع الإعطاء." و عن الكشاف للزمخشري :" وأن يتلتل تلتلة ويؤخذ بتلبيبه، ويقال له: أدّ الجزية، وإن كان يؤدّيها يزخ في قفاه". و الخطير في موضوع الجزية هذا أن ابن تيمية يعتبر هذا الإذلال و الإحتقار ضروريا من أجل دفع أهل الذمة إلى مغادرة دياناتهم و اعتناق الإسلام لتسقط عنهم طقوس الجزية المهينة لكرامتهم. يقول (شيخ الإسلام) ابن تيمية:" وإذلالَ المسلمين له، وأخذ الجزية منه ، فهذه قد تكونُ داعياً له إلى أن ينظرَ في اعتقادهِ، هل هو حقٌّ أو باطل، حتى يتبينَ له الحق ، قد يكونُ مُرغباً له في اعتقادٍ يخرج به من هذا البلاء". و هو نفس ما أكد عليه النيسابوري في تفسيره إذ يقول:" أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام". 4) تكريس واقع عدم القبول بالإختلاف العقائدي و التعدد الديني، إلا في حالة وجود الطوائف المسلحة التي تدافع عن نفسها بالقوة و الأعمال الحربية. حيث ما زال المسلمون يرفضون رفضا قاطعا أن تكون مظاهر تدين الآخر بارزة في فضاءاتهم العامة داخل بلدانهم، و لكنهم يصرّون على أن من حقهم أن يطالبوا بالإكثار من مظاهر التدين الإسلامي بالدول الغربية، كالمساجد و الصوامع و الحجاب و اللحية إلخ... فالتمظهر بالصليب أو بـ"الشاشية" اليهودية يعتبر استفزازا لمشاعر المسلمين في بلدانهم، و لكنهم لا يجدون حرجا في فعل ذلك في بلدان الغير، بل يجعلون منه معارك مصيرية، و في الوقت الذي ألزموا فيه الكنائس بالتوقيع على قوانين تمنعها من دق أجراسها في بلدانهم و على عدم السعي إلى بناء كنائس جديدة، يعتبرون من حقوقهم المشروعة الإكثار من بناء المساجد بالبلاد الغربية كما يسعون بكل الوسائل إلى انتزاع "حقهم" في وضع مكبرات الصوت و الآذان خمس مرات في اليوم منذ الفجر. و قد أصبح هذا بمثابة منطق مقبول لدى المسلمين في "حقوق الإنسان" و "المساواة": عليك أن تسمح لي بممارسة ديني كما أريد في بلدك، و أن أنشره و أبشر به كما يحلو لي ذلك، و لكن ليس لك أن تمارس دينك كما تشتهي في وطني، لأن ذلك يُعدّ خطرا و مؤامرة على ديني الذي هو أفضل الأديان و أصحّها رغم ذلك. و تزداد النكتة تشويقا عندما نعلم أن بلدا مثل السعودية، يمنع منعا كليا تواجد أي دين آخر بها أو أية كنيسة أو معبد تبعا لـ"حديث" يقول: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب". و إذا علمنا أن في بلدان الخليج 5 ملايين مسيحي يعملون هناك، و هو عدد يتجاوز عدد عرب الخليج جميعهم، دون أن يكون لهم حق بناء كنائس أخرى أو أداء طقوسهم التعبدية باحترام، فإننا نلمس مقدار ما يحتاج إليه العقل العربي الإسلامي من ترميم أو علاج، أو ربما إحالة على المعاش.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العربية و التعريب بالمغرب
-
المغرب و التبشير المسيحي
-
سباق المدن -المقدسة-
-
متى يفهم المسلمون ما يجري؟
-
رسائل قصيرة في الدين و السياسة إلى السيد الأمين العام لحزب ا
...
-
في معنى العنصرية ردود سريعة إلى وزيرة الصحة
-
ما قاله الريسوني في الخمر
-
أسئلة الإسلام الصعبة
-
حول استنكار بيع الخمور بالمغرب
-
في أنّ دين الدولة مفروض و ليس اختيارا حرا (على هامش اعتقال م
...
-
ما لا يفهمه المسلمون (على هامش النقاش الدائر بسويسرا)
-
الصحافة و التحريض بصدد الكرة بين مصر و الجزائر
-
مزيدا من المساجد للفقراء و المهمشين
-
الحرية للصحف قبل المسؤولية
-
القذافي و الأمازيغ
-
هل الرابطة الدينية هي أساس الوحدة بين المغاربة ؟
-
هل المغاربة -كلهم مسلمون- ؟
-
رمضان عقيدة دينية أم قرار للدولة ؟ في مغزى رسالة زينب و من م
...
-
-أخلاق- رمضان
-
العنصرية بين العرب و إسرائيل
المزيد.....
-
إضراب مفتوح للمحامين المغاربة احتجاجا على -الردة التشريعية-
...
-
فرحي أطفالك نزلي تردد قناة طيور الجنة بيبي بأعلى جودة بعد ال
...
-
“أغاني ممتعة طول اليوم” بجودة HD استقبل تردد قناة طيور الجنة
...
-
إشارة قوية ومحتوى جديد .. خطوات استقبال قناة طيور الجنة بيبي
...
-
هاريس تغازل المسيحيين والعرب في ختام حملتها
-
زمان يسرائيل: الفجوة الصحية بين العرب واليهود في إسرائيل مثي
...
-
لبنان: نازحون مسيحيون من القرى الجنوبية يأملون بالعودة سريعا
...
-
أغاني منوعات وأناشيد للبيبي على تردد قناة طيور الجنة 2024
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة هامعلاه بصلية صار
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة يسود هامعلاه بصلي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|