|
الأولى والآخرة : مَرقى 8
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2965 - 2010 / 4 / 4 - 02:50
المحور:
الادب والفن
على حافة الغروب ، لاحَ لناظري مُبتدأ طريق الأروام ، المستقيم ، يشي السكون المُطبَق ، القلق ، المهيمن عليه ، على كون غير المسلمين أكثر الخلق فرَقاً من طغيان الفوضى : لم يُطمئنهم ، في واقع الحال ، المال الذي يبتزّه منهم شيوخ الحارات ، بزعم حمايتهم من شرّ الزرب والغلاة . إذ لا يكاد يمضي يومٌ دونما خبر ، من هنا وهناك ، عن حادثة تشليح أو سبي ، أو حتى قتل ، يكون ضحيّتها أحد أولئك الناس المساكين ، نصرانياً كان أم موسوياً . كان هذا سبباً ، أكيداُ ، في رغبة تابعي ، يحيى ، الإقامة في مكان عمله بهذه المزرعة ، الكائنة في ربض الصالحيّة ، لكي يتجنب المرور يومياً في دروب المدينة القديمة ، المُطنبَة بالفوضى ، ذهاباً لبيت أهله ، الواقع قربَ الباب الشرقي ، أو إياباً منه . بدوري ، كنتُ إذاً عائداً من المزرعة تلك ، برفقة القاروط ، الذي تكرّم عليّ بإيصالي إلى العَمَارة ؛ أين منزل كبيرها ، العريان . كرّوسة البك ، الفخمَة ، المشدودة إلى حصانيْن أصيليْن ، كانت ولا شك تلفت أنظار العابرين . فضلاً عن أنّ مرافقينا ، من أشداء قوم شمّو آغا ، الكرد ، كان مرآهم كفيلاً ، ولا غرو ، بأن تفتح لنا ، بيسر ، الدروب المسدودة غالباً بمتاريس الإنكشارية . ولكنّ القاروط ، لم يرغب النزولَ للسلام على صديقنا ، زعيم الحيّ ، حينما وصلنا إلى مدخل منزله ، العامر ، المرتكن في الظلال الرطيبة ، الحنونة ، للسوق العتيق ، القريب من سور القلعة. إكتفى الرجلُ بتحميلي تحياته للزعيم ، ورغبته بالتعرّف عليه قريباً ، قبل أن يأمرَ الحوذيّ بمتابعة مسير العربة إلى سوق ساروجة . كان العريان ، حالَ وصولي ، قد توجّه لحاجبه بأمر الذهاب إلى القنوات ، لإبلاغ الشاملي بنيّتنا زيارته . لحظتُ حينما صرنا لوحدنا أنّ عينا الرجل ، المُوارَبتيْن تحت الغضون ، السخية ، تجودا عليّ بنظرة جانبيّة ، مزورّة . بدا على مزاج سيء ، طالما أنّ عباراتي العريضة ، المُقتضبَة ، سبقَ وأخبرَته بما جرى في خلوة الصالحيّة . صحيحٌ أنه لم يُعلق بعد ، بخصوص رأيه في المهمّة التي أوكلت إليّ ، إلا أنّ الكدَرَ ، الخفيّ ، المبثوث من بريق عينيه ، كان يشي بضيقه ، بسبب كتمي الأمر عنه . ربما أنّ المُشكل هنا ، أنّ كبير الأعيان لم يجد حاجة لإبلاغ الآخرين بأمر توجّهي للصالحيّة ، طالما أنه بنفسه كان يجهل كنه دعوة شمّو آغا . من جهتي ، فإنّ حرصي على إبلاغ العريان ، قبل أيّ كان ، ببعض تفاصيل ما جرى هناك ، ما كانَ حتماً بداعي الصداقة : كنتُ معوّلاً على تأثيري عليه ، لكي يعضد حجّتي في زوبعة الحجج ، المتضاربة ، المتوقع أن تهبّ من جهة الآخرين في المجلس . " من الخراقة بمكان ، على رأيي ، أن يهوّن أحدهم أمرَ فرمان السلطان " ، قلتُ أخيراً لكبير العمارة بهدف حثه على الكلام . تحرّز الرجلُ بتحفظه ، فما تعجّل إجابتي . كان عندئذ يُصلح من شأن عمامته ، المُلتفة خزاً رقيقاً على رأسه الضخم ، وإذا بتابعه يعود فجأة ليؤكدَ وصولَ الرسالة لصاحبها . بعد لحظات أخرى ، أشارت إليّ يدُ الوجيه نحوَ باب المَضافة ، داعيَة إياي بحركة محترمة إلى الخروج أولاً . فارقنا جوّ المكان ، المبهج الإنارة ، إلى غمرة الليل الغشيم ، الموحش . ما لبث كلّ منا أن بادرَ لأخذ مكانه على مقعد الكروسة ، المُظهّر بالقماش المخمل ، فيما الحاجب تبخترَ في مجلسه لصق الحوذيّ . هذا الأخير ، كان قد بدأ يلوّح بسوطه للفرَس ليحثها على المسير ، لما تذكر العريانُ جملتي الأخيرة . على ذلك ، فتحَ شدقه على مبسمه الخالد ، الساخر ، ليقول لي : " كنا نتكلم عن الفرمان . لا ريبَ أنه وصلَ في الوقت المطلوب . ولكن علينا ألا نسلوَ حقيقة ، أنّ الجنونَ المُحتكم بالحاضرَة حالياً ، سواء من لدن العامّة أو العسكر ، عليه أن يجعلنا على أهبَة دائبَة لتلقي أغربَ الآراء من طرف الأعيان " . " أيجوزُ لي ، زعيم ، أن أتمنى عليك الطلبَ من آمرَيْ اليرلية والقابيقول أن يلتزما بضمان سلامة الوالي ، في حال قبوله مغادرة البلد إلى غير رجعة ؟ " " هذا ما أفكر فيه ، فعلاً . سأدعو أعيانَ المجلس أن يلجموا ، بأيّ وسيلة ، هذيْن الأخرَقيْن ، الذيْن لن يتورعا عن غدر الوزير إذا ما غادرَ القلعة " . في تلك الأثناء ، كان بودّي حقاً ضمّ هذا الصديق العاقل إلى صدري ، مستأنساً بحرصه على سيادة السلام في مدينتنا .
إنّ منزل الشاملي ، يقع تماماً خلفَ السَرايا ، يفصله عنها دربٌ ضيّق . ولكننا شئنا أخذ طريق ، أكثر طولاً ، يمرّ بباب الجابيَة ، كي نتجنب المرور قدّام السرايا ، المهجورة ، المتناثر ركام بعض أجزائها ، مُعيقاً سيرَ العربات والمارّة سواءً بسواء : كان ذلك الدمار الحاصل ثمة ، نتيجة الواقعة المهولة ، التي أدّتْ لهرب الوزير من مقرّه إلى حمَى القلعة . بوصولنا أخيراً إلى جنوب حيّ القنوات ، من جهَة الأسواق ، عَبَرتْ عربتنا خلل مسالك حالكة العتمَة ، بلا مصباح واحد ، مضيء ؛ ما دام الدومريّ صارَ يلتزمُ أمانَ منزله منذ بدء المساء ـ كما هوَ حالُ معظم الخلق في مدينتنا ، المنكوبة بالفوضى . تخلينا عن الكرّوسة وأعوان الزعيم ، بالقرب من مدخل زقاق كبير الأعيان ، المحروس بهمّة من قبل خفر فتيّ ، أهليّ ، بينما الحيّ برمّته مضمون الأمن بتواجد أنفار الإنكشارية في محيطه . ما عتمت أصواتٌ مرحّبة ، مُحتفيَة بإسم العريان ، أن أرتفعت من ذلك الجمع ، الحارسُ . أفسحوا لنا الطريقَ ، إذاً ، أمام بوابة منزل كبيرهم ، البسيطة المعمار ، والتي يعلوها فرندا منيفة ، تطلّ منها إلى الخارج مشربياتٌ عديدة . لا غروَ أن تنفرجَ سريرة نفسي بالنور المؤتلق في مَسرَجة الأيوان ، والمُشعشع بلطف في باحة الحَوْش ، السماويّة ، المزهوّة برخامها الناصع ، المُعشق بخطوط سود وحمر . ثمة ، تناهضَ الرجالُ الخمسة ، المتواجدون حول الأريكة المحيطة بالبركة ، للترحيب بنا ودعوتنا للإنضمام لجلستهم ، المهيمن عليها نورُ أشدّ مضاءً لقنديل زجاجيّ كبير ، معلق بأحد دعائم دقران الداليَة ؛ نور ، كان فضلاً عن رخائه يكاد يفضح القلقَ ، الخفيّ ، المتبطن هذه الجلسة الحَميمة . علاوة على صاحب الدار ، كان هناك شهبندرُ التجّار والقابيقول باشي واليرلي باشي والشيخ القبّان . هذا الأخير ، أعتقدُ أنه سبقَ لتذكرتي ، في صفحة فائتة ، أنّ عرّفته ـ كمريد لوالدي ، قديم ، على سجادة الطريقة . فيما الثلاثة ، الآخرين ، كنتُ أعرفهم ، عن قرب ، للمرة الأولى .
رأيتني ، على كلّ حال ، أجلسُ بمواجهة الشاملي . نظرته البرّاقة ، النفاذة ، جاست في عينيّ ، وكأنما بغية سبر تعاريج أغوار النفس ، الدفينة . من المهمّ التأكيد هنا ، أنّ سريرتي كانت وقتئذ مطمئنة ، غير مباليَة بأوشاب الكدَر أو الدسيسة . تشديدي على الكلمة الأخيرة ، كان من واردات ما خلفته فيّ نظرات كبير الأعيان ؛ هذه النظرات ، كما سأعرفه لاحقاً ، كانت مُحالة ، قطعاً ، لما أثاره من ريبة بمسلكي كلّ من آغا القابيقول وندّه اللدود ، آغا اليرلية : لقد جازَ لهما ، بعصبيّة ضيّقة في خلقهما ، التلميحَ لصلة الدّم ـ كذا، التي تجمعني بشمّو آغا ، وربما أيضاً بأحمد بك ؛ بما أنه قاروط الكنج الكرديّ . بالمقابل ، فلم يهتمّ أحدٌ من أولئك الرجال ، الخمسة ، الذين كانوا بإنتظارنا هنا ، بذلك الرقّ ، البهيّ الجلد ، المشدود بقوّة الحزام إلى وسطي . وكنت بصدد مدّ يدي إلى الرقّ ، لمفاجأة الحضور بمرسوم الفرمان ، لولا أنني تريثتُ قليلاً . إذ فضلتُ أن يُصارحني هؤلاء الأعيان ، أولاً ، بما في دخيلتهم ، وخصوصاً ، ما يبتغونه من وصول القبجي للمدينة ، الذي كان ، من المفترَض ، أنه ما يزال مجهولاً لعلمهم . وربما قرأ الشاملي مفردات التململ ، المفصحة عنها صحيفة ملامحي ؛ فإنه ما عتمَ أن تحرّك في جلسته بحيوية . بيْدَ أنّ المفاجأة ، الحقيقية ، كان يُخبئها لي الرجلُ ، حينما إستهلّ القولَ بإشارة مُحتفيَة : " إذا لم أكن مخطئاً ، فلا أحد هنا من الحضور ، المحترمين ، يجهلُ من يكونه الآغا العطار ؟ " . ثمّ أضاف بنبرَة أخرى ، حازمة ، فيما هوَ يمرّر نظرته بين قائديْ الجند : " بعون الله ومنذ هذه اللحظة ، سيكون أخونا ، العطار ، أحدَ أعمدة المجلس " .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 7
-
الأولى والآخرة : مَرقى 6
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
-
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|