|
الأولى والآخرة : مَرقى 6
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2962 - 2010 / 4 / 1 - 21:11
المحور:
الادب والفن
أومأتُ برأسي ، مجاملة ً، فيما أنا أستلّ لمحة من ملامح الضيف ؛ لمحة ، إرتدّت خائبة بعض الشيء ، ما دامت تلك الملامح بقيت متجرّدة من أي تعبير مميّز : كان القاروط مُتربّعاً على الأريكة الفارهة ، المُلبّسة بالصدَف المُفضض. إنه بنفسه ربعة ، ذو قوام مشدود وموفور بالعافيَة بالنسبة لعمره ، المراوح على مضائق الأربعين . بيْدَ أنّ سحنته ، لو قدّر لها أن تلفتكَ في أحد الدروب هنا ، فإنها لن تشعرك أنّ صاحبها غريبٌ عن هذا الحيّ ، الأيوبيّ . وإذا ما كان شمّو آغا متمسكاً بملبس قومه الكرد ، الجبليين ، فإنّ هذا البك ، القادم من مصر ، بدا على هيئة مغايرَة ، ولا غرو ، عن الأعيان الدمشقيين ؛ اللهمّ إلا تقمّصه بكرزية حرير ناصعة ، رقيقة ، فوق هندامه المتفرنج ، ينبثق منها سلسلة ذهبيّة ، مربوطة بعفريت ساعة من مصدر الهندام ذاته . من جهتي ، فما كنت أختلف عن هذا الأخير بملابسي المُستحْدَثة ؛ وهيَ الملابس ، التي أضحَت ، إلى هذه الدرجة أو تلك ، بمثابة الزيّ المدينيّ للحواضر الإسلامية ، الكبرى ، في السلطنة ـ كالآستانة وسالونيك والقاهرة . وربما الشام أيضاً ، لمَ لا .
مُتنحنحاً ، قطعَ صاحبُ الدار إلفة السكون المُتناعس في جوّ المكان ، منقلاً عينيه بخفة بين ضيفيْه . توجّه إليّ مجدداً بالقول : " أرجو ألا نكون قد أزعجنا خاطرك ، بتجشيمنا لك مشقة هذه الرحلة إلى طرفنا ؟ " . تشديده على صفة الجمع في جملته ، جعلني أحدّق فيه ملياً . بعدئذ ، أجبته بلهجة باردة ، بعض الشيء : " لا ، وما الداعي لإنزعاجنا ؟ إنني كنتُ بتوق للتعرّف على المبجّل ، أحمد بك " . إنّ تعمّدي تقليد نبرة الآغا ، المُشددة على الجمع ، قد تكون سبباً بشيوع المَرَح في قسمات البك المتناسقة ، الوسيمة بحق ، والذي ضافرَها بردّ تحيتي بلهجة إحتفالية ، ملحونة برطانة مصرية : " أيها المحترم ، إنه لشرَف كبير لي أن يكون تعارفنا هذا ، قد تمّ بالسرعة المطلوبة وبالوقت المناسب " . كفّ يده اليمنى ، المُثمَّن الأنامل بخاتمين ذهبيين ، مُتوّج كلّ منهما بجوهرة فريدة ؛ هذا الكف ، نشَرَ إلى ذلك عطره الياسمينيّ ، حينما لوّح به صاحبه بإشارة مُحْتفيَة نحوَ المضيف ، مُستطرداً : " إنني بذلك أكون مُديناً للآغا الكبير ، ولا شك " . صاحبُ الدار ، بدا طرباً بلحن المديح ، المنذور له ، فعبّرَ عن ذلك ، بدوره ، بكفه المرفوعة لرأسه علامة على الشكر . ما كانت أناملُ كفّ الزعيم الكرديّ ، اليمنى ، مُزيّنة قط بأيّ معدن ثمين : فهذا الرجل ، المُنتمي لسلالة مُعتبَرَة من المحاربين ، ماكان من شيمته إظهار تنعّمه ؛ بل سلطته الحاسمَة ، التي كانت تشمَسُ ولا ريب على هذا الجبل المقدّس . إنّ سيفه حسب ، المُعلق خلفه مباشرة على الجدار الحجريّ ، المُلبّس بالجصّ الملوّن ، كان مُرصّعَ الإفرند بأحجار كريمة ؛ وهوَ السيف ، المُهدى إليه ـ كما علمتُ لاحقاً ـ من لدن الباب العالي ، شخصياً ، تكريماً لصاحبه المُستبسل في ردّ هجمات الوهابية ، الأشرار ، على الحدود الجنوبية للباديَة الشاميّة .
" كانت سعادتنا ستكون أشدّ مضاءً ، مؤكداً ، لوّ أنّ بقيّة المُبجّلين ، في المجلس ، شرفونا بحضورهم في هذه الخلوَة " ، أنشأ الآغا يقولُ وهوَ يُبدي إهتماماً ملحوظاً بتفحّص كلّ شاردة في وجهي ، وكأنما يستنفض مدى التأثير ، المُفترَض ، لكلامه عليّ . " هذا ما سبق وخمّنتهُ ؛ خلوَة " ، أجبته في سرّي فيما كنتُ أهزّ برأسي علامة ً على التفهّم . وتابع الرجلُ قوله : " لكَ الحقّ ، بطبيعة الحال ، في التحفظ على دعوتنا هذه ، ورغبتنا في أن تكون ، حالياً على الأقل ، مُقتصَرَة على خلوة تجمعنا ، نحن الثلاثة " . " من النافل هنا التأكيد ، بأنّ هذه الثقة ، التي تشرّفاني بها ، أيها المُبجّلان ، هيَ موضعُ تقدير المجلس جميعاً " ، شرَعتُ القولَ لهما ، " إنني سأنقلُ لهم ، وبحسب رغبتكما ، كلّ ما تريانه في صالح مدينتنا ، المبخوسَة الحظ ، حتى وإن كانت رؤيتكما مختلفة عما عهدناه من آراء في المجلس " . ظهرَ الإرتياح على وجه الآغا . فيما لقيت كلمتي صدّاً من ملامح البك ، والتي يبدو أنها خالدة في التعبير عن لا شيء . على أنّ هذا ، ما أسرَعَ أن نحّى تحفظه ، حينما بادرَ بنفسه لإجابتي : " ذلك ما كنا نأمله ، لما تعيّن علينا إختيار شخصكم الفاضل ، كيما يوصل رسالة الحكمة للأعيان " . " أرجو أن يكون ثمة ، في مدينتنا ، موقعُ قدم للحكمة بعد " ، قلتُ بلهجة تتبطن الأسف . شمّو آغا ، بدوره ، هزّ رأسه بشعور مماثل وردّد بتنهّدة : " الحكمة ، لا بدّ للحكمة أن تسودَ أخيراً في هذه الولاية " " إنها رغبَة الباب العالي ، فوق كل شيء " ، قال القاروط مشدداً على مبالغ الحروف ، " وهذا هوَ سببُ وجود القبجي في ربوعنا " . ثمّ ما عتمَ الرجلُ أن ألقى رأسه إلى الوراء ، مُرخياً إياه فوق طنف الأريكة ، وهوَ يتنفس بعمق ـ كما لو أنه أنهى تسلق صخرة وعرَة ، وليسَ عبارَة عابرَة . على أنني ، ما أن أنهيتُ مجاملة هزّ الرأس تأييداً ، حتى رأيت نفسي مُتلاحقاً ، بدوره ، يزفرُ هذا الخاطر المُباغت : " القبجي ؟ أهوَ في مكان ما ، من المدينة ؟ " " إنّ سعادته في ضيافتنا ، أيها المُبجّل " ، كان برقُ عينيّ الآغا قد سبقَ صاعقة كلمته ، المُتساقطة على أمّ رأسي .
طفقَ كلّ منا في هدأة من الصمت المتطاول ، المتواطيء ، حتى أخرجنا منه ما كان من حركة ثمة ، خلف باب قاعة الضيافة . تناهض المُضيف بجرمه العظيم ، متوجّهاً نحوَ تلك الجهة بخطى لا تقلّ عظمة . ثمّ آبَ على الفور متبوعاً بوصيفه ذاك ، الذي سبقَ وحملَ لي دعوة سيّده في مبتدأ صباح هذا اليوم . نقلَ التابعُ من خوان فاره ، مشغول من خشب العرعر ، صحوناً من الخزف الصينيّ ، مُتخمة بالفاكهة والحلوى والنقل ، فوضعها أمامنا على الطاولات المُستدقة ، المُصدّفة ، ثمّ ما لبثَ أن إستدارَ مُغادراً دونما نأمَة الحجرَة .الحيويّة ، دبّت من جديد في جوّ المكان ، مع جلبَة تناول المُشهيّات اللذيذة ، والتي حرَصَ الآغا على تقديم بعضها بيده لضيفيه . كلفتُ ، ولا غرو ، بأن أسمع مفصلاً خبرَ حلول رسول السلطان في المدينة ، مُتسائلاً عما كان يعنيه الآغا بقوله ، الغامض ، بأنّ الرجل " في ضيافتنا " . كنتُ على خشيَة من أن يفوّت عليّ الغداء ، الموشك على التقديم إلينا ، فرصة جواب على وجه السرعة ، شاف لفضولي العارم . على هذا ، ما أن إلتفتَ المُضيف نحوي بيده الكريمة ، ليمدّ لي ثانية إحدى قطع الحلوى ، حتى بادرته بسؤالي متكلفاً لهجة غير مباليَة : " وإذاً ، فإنّ رسول السلطان ، أيّده الله ، مقيمٌ في داركم العامرة ؟ " " إنّ مكانَ إقامته ، وحتى خبرَ وصوله ، لن يُعلنا حالياً ـ بحَسَب مشيئته نفسها " ، أجابني الآغا الداهيَة فيما طرف عينيه يرمق من جانب عينيّ القاروط . هذا الأخير ، لزمَ الصمتَ برهة تتيحُ للموقف ، كما بدا لي ، تدبّر مخرج مناسب ، لا يُحرج أحداً : فقد لحظ ولا ريب ما كان من إمتعاضي من إجابة الآغا ؛ حتى أنّ نظرة عينيّ كانت تتأثل كلمة ، مُستفهمة بحنق : وما هوَ داعي دعوتي لهذه الخلوَة ، الدَعيّة ، إذا لم أكن موضع سرّكم ؟ على ذلك ، رأيتُ القاروط وقد قامَ ، على حين بغتة ، متجهاً بخطوات راسخة نحوَ الجهة الاخرى من الحجرَة ، ليمدّ يده إلى رفّ عال ، في تجويف الجدار ، فيستلّ منه رقاً من الجلد الفاخر . تابعته ببصري وهوَ ينتضي ورقة ما ، كبيرة ، من داخل الرقّ ، ثمّ يعود بها ليمدّها هذه المرة بإتجاهي : " أنظر إلى هذا الفرمان ، لو سمحتَ " . حاولتُ أن أرسّخ مظهر اللا مبالاة في هيئتي ، وأنا أتناولُ المرسوم المُبتدَه بطغراء السلطان ومذيلاً بختمه . أما متن الفرمان ، فكانَ عهد أمان لجميع أهالي الشام من أعيان وعسكر وعلماء وعامّة بخصوص عصيانهم سلطة الوزير وكل ما ترتب على ذلك من دماء ودمار ، وبالمقابل يفك هؤلاء حصار القلعة ويسمحوا للوزير بمغادرة المدينة ، مع حاشيته وعسكره وكل ما يودّ حمله ، بإتجاه ولاية صيدا لكي يُبحر من هناك إلى الآستانة ويكون بتصرّف الباب العالي . " الفرمان الأغر هذا ، من وجهة نظري ، متوافقٌ مع ما كان المجلس يشترطه على الوزير حتى يُسلم القلعة . والسؤال هوَ : هل سينفذ ذلك المارق أمرَ الفرمان بالسرعة الممكنة ، أم انه سيداور كسباً للوقت ولحين وصول نجدة ما ، من جهة والي صيدا أو والي حمص ؟ " ، توجّهتُ للقاروط بتساؤلي . لم يحتج الرجل لبرهة وقت ، كيما يُجيبني بسرعة وقوّة : " إنّ سعادة القبجي قادمٌ أصلاً عن طريق ولاية صيدا ؛ وبالتالي ، فإنّ واليها على علم أكيد بالفرمان . وعن الولاة الاخرين ، فمن يجرؤ على تحريك قواته بدون موافقة مسبقة من الباب العالي ؟ " " لتعذراني ، أيها المُبجلان ، إذا قلتُ أنه في زمننا التعس ، الراهن ، ليسَ بالمستغرب أن يضربَ بعضُ الولاة أرضاً بفرمان السلطان ، أيّده الله ، فيدّعي أنّ الوجاقات غير النظامية ، من دالاتية أو لاوند ، لا تذعن لأوامره فيطلقها حسبما يريد خدمة َ لأغراضه الخاصّة " " على كلّ حال ، هذا الكلام سابقٌ لأوانه . المهم الآن ، أن تحاولَ من جهتكَ إقناع المجلس ، وبكل سرعة ، بأخذ ضمان من أعيانه بعدم التعرّض للوزير أو أحد من خاصّته من قبل الأهالي أو الإنكشاريّة . وحينما يكون كل شيء على ما يرام ، سنتدبّر أمرَ إيصال سعادة القبجي إلى القلعة لمقابلة الوزير " " إسمح لي ، يا بك ، أن أسألك أخيراً : لماذا لا تقومون بأنفسكم بتبليغ المجلس هذا الفرمان وعمل المطلوب ، إذا كان ذلك متعذراً على سعادة القبجي بالنظر للفوضى وفقدان الأمان ؟ " " لقد كلفك المجلس ، قبل بضعة أيام ، بمحاولة الحصول على جواب من كبير الصالحيّة ، فيما يتعلق بموقفهم المحايد " ، أجابني القاروط ثمّ مدّ لي يده بورقة الفرمان ، " وهذا هوَ أمرُ السلطان ، أعزه الله ، بختمه وخط الباب العالي ، بإمكانك حمله أمانة إلى المجلس ومن لدن كبير الصالحية نفسه " . هنا ، تدخلَ شمّو آغا مخاطباً إيايَ بنبرَة حاسمَة ، متماهيَة بما يُشبه توسّل الأمل : " أرجو أن تقوم بذلك في هذه الليلة ، إذا أمكن . وإذا شئتَ طبعاً " " سيشرفني أن أقومَ بهذه المهمّة وعلى جناح السرعة . كونا على ثقة بذلك ، أيها المُبجلان " " في هذه الحالة ، أيها المحترم ، سنمضي بك إلى داري ، كيما تتبارك بالسلام على مبعوث السلطان ، أيّده الله " ، قال لي القاروط وهوَ يبتسم لأول مرة عن أسنان في غايَة النصاعة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 5
-
الأولى والآخرة : مَرقى 4
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
-
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
-
قلبُ لبنان
-
الصراع على الجزيرة : مداخلة تاريخية في جدل مستحيل
المزيد.....
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|