|
الأولى والآخرة : مَرقى 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2960 - 2010 / 3 / 30 - 23:36
المحور:
الادب والفن
" أكنتَ على إقتناع ، حقاً ، بما حَمَلته أنتَ للمجلس من طرف كبير الصالحيّة ؟ " يبتدرني العريان متسائلاً وطرف فمه يتزيى ، على عادة لا تحيد ، بمبسم ساخر . فأجيبُ بهدوء ، متجاهلاً ما يعتري سؤاله من شك بنزاهة النتيجة ، التي خرجَت بها مهمتي : " معلومك ، زعيم ، فلا مكان هنا للمشاعر الشخصية . لقد أدّيتُ مهمتي والسلام " . أحرجَهُ ربما ، ما بجوابي من نبرة متهمة ؛ ما دام هوَ من سبق وإقترح على المجلس تلك المهمة . إذ إحمرّت قسماته قليلاً ، قبل أن يُدَمدم بنفاد صبر : " كنتُ أعني ، ما إذا جازَ عليكَ ما يدّعونه من حياد مزعوم ، هناك في الجبل " . " أعيانُ الصالحية ، وأنتَ على علم بذلك ، همُ أقل الناس خسارة ، من هذه الفوضى المُعتكبة غبارها " " ولكنهم ، وأتمنى أن تكون ، بدوركَ ، غيرَ جاهل ذلك ، أكثر أهل الولاية تواشجاً بالآستانة " " هذا شأنهم . وقد يفيدنا ذلك ، ما دام قبجي السلطان قد أضحى الآن في البرّ الشامي ، بعدما تأكدَ لنا ، يقيناً ، أن سفينته قد رست في صيدا قبل نحو يومين " " وهذا ما أخالفك فيه الرأي ، يا صديقي . إذ ما أن يشتمّ شمو آغا من رسول مولانا ، أيّده الله ، ميلاً من الباب العالي لإستمرار الوزير على رأس الولاية ، حتى يبقى حياده بلا طائل " ، قالها العريانُ هذه المرة مرجفاً بتأثر . آثرتُ التريّثَ ، قبل إجابته .
هيَ ذي لمحة من نسيم منعش ، رخيّ ، يُحاول تخفيف ما تواتر من توتر في جوّ هذا المساء الربيعيّ ، الخانق نوعاً ، المهيمن على جلستنا في الحوش الفاره لدارة العريان ، والمضروب بنطاق من أشجار الحمضيات الحارسة ، المُعبَقة بأريج زهرها العطريّ ، الكثيف . كنتُ مستسلماً لنزوة النسيم ، إذاً ، دونما أن أسلوَ رعبَ الساعات القريبة ، الزاحف حثيثاً ، مثل حنش غادر ، متربّص . كنتُ في داخلي أشفقُ ، حقاً ، على ما يتبطن داخلَ صاحبي من قلق ، وبالرغم من محاولته إظهار ما يُخالف ذلك . بيْدَ أنني ، للحق أيضاً ، سأكون دَعياً إذا ما أنكرتُ أن شعوراً من الخيبة ، مماثلاً ، كان يتأثل سرّي : لقد تورطتُ ، إلى غير رجعة ، في هذه المَهلكة ؛ مذ لحظة قبولي بمهمة الإجتماع بأكابر الصالحية ، أولئك . وها هوَ العريانُ يرفع بصرَهُ نحوي بشيء من الدهشة ، حينما لاحظ ما كان من هزة كتفي اللا مبالية : كنتُ لحظتئذ أفكرُ بالموت ، وأنه مثل الحياة سواءً بسواء ؛ مقدورٌ لا فكاك منه إلا بتجاهله أو العبث معه حتى النهاية .
إتفاقاً ولا ريب ، كان القبجيّ قد رسا في البرّ متهيئاً لمهمته العليّة ، حينما رأيتني ، في الوقت عينه ربما ، متوجهاً في كرّوسة نحوَ الصالحية ، لأداء تلك المهمّة التي سبق أن إرتآها مجلس العامّيَة. كان عليّ ، بحسب توصية أعيان الشام وأشرافها ، محاولة جسّ النبض الصخريّ للجبل المشرف على المدينة . عليّ كانَ ، والحالة كذلك ، أن أستهلّ سفارتي ، الأولى ، المكرَسَة لعطارة الأسرار والدسائس . بكل الأحوال ، فإنّ مهمتي لم تبدُ مستحيلة ؛ خصوصاً ، أنّ مهنتي المعلومة كانت قد أمدتني بحظوة التعرّف على بعض وجهاء تلك الناحية ، وعلى رأسهم شمو آغا . هذا الأخير ، كان يقيمُ في دار منيفة ، تستحوذ على جزء كبير من الساحة المُحدقة بمقام ركن الدين منكورس . عربة الكروسة ، الصغيرة ، راحت توقع على أرضية الساحة خبب فرسها ، الأدهم ، مقلقة ولا شك رقدة صاحب المقام ، المُعتبَر ؛ الأمير الأيوبيّ ، الذي كان علاوة على حنكته الحربية عالماً في شؤون الفلك ؛ حتى ويقال في التواريخ أنه إمتلك مرصداً في الإقطاع العائد لملكه في بساتين الصالحية . وكأنما شمو آغا ، زعيم كرد المدينة ، كان على وعي بما يحمله هذا المكان من دلالات تمتّ للرمز أكثر منه للتاريخ ؛ إذ بدا هذا للمتبصّر ، المتمعّن ، على جانب مؤثر من الدهاء ، وإن كان يُظاهر ذلك بمسلك فيه ما فيه من الإعتداد بالنفس والتواضع ، في آن . ربما أن ملاحظتي تلك ، ما كانت من واردات لقائي الأول به ـ كرسول من الأعيان ؛ بل كانت مما تضافرَ لاحقاً من صلتي به ، الوثيقة . إنّ هذا الرجل ، الماكر حقاً ، كان أيضاً ، ودونما قصد منه ، سبباً بتوقي للتعرّف على ذلك الشخص ، الذي سيرسخ توجّه حياتي إلى منقلب آخر ، لا رجعة عنه ؛ منقلب ـ كما رحتُ أشددُ عليه دوماً فيما بعد ـ كان غريباً عن شيمتي : إذ حمّلني زعيم الصالحية برسالة حياد ، معلن ، وفيها نصيحة بضرورة القبول بمشورة القاروط ، فيما يخصّ التعامل مع الوزير ، المُحاصَر في القلعة .
" القاروط ؟ من هوَ ذلك الإنسان ، الذي يرتضيَ ، كائناً ما كان وضعه ، هكذا نعت مشنوع ؟ " ، كنتُ قد توجّهت بمساءلتي مستغرباً لكبير الأعيان . الشاملي ، في ردّه عليّ ، تخلى قليلاً عن مهابة تحفظه ، حينما ترددت أهأهته المرحة في جوّ الإجتماع بمنظرة منزله ، الكائن بمدخل القنوات من جهة السراي . قال لي الكبير : " إته كذلك ، نعتٌ بضمير الغائب . أما إسمه المُبجّل ، المُتوجّب أن تخاطبه به ، إذا كان لك حظ التشرف بلقائه ، فهوَ أحمد بك المصري " " المصري ؟ " ، تساءلتُ مجدداً وانا على شعور الإستغراب عينه . هنا ، تدخل الشيخ القبّان ، صديق والدي القديم ، في أمر إجابتي : " إنّ أحمد بك ، لعلمكَ ، هوَ قاروط الكنج الكردي ، والي الشام سابقاً ، الذي كان قد إلتجأ لدى عزله إلى عزيز مصر ؛ وعلى هذا ، ما كان غريباً أن يُعرف قاروطه بلقب المصري " " وهل كان القاروط ، بنفسه ، مقيماً أيضاً في مصر ؟ " ، إستفهمتُ من شيخنا . هزّ هذا رأسه ، المُعمم بشاشيّة الطريقة ، الخضراء ، مؤكداً الأمر بقوله أنّ أحمد بك قد إنتقل إلى مسقط رأسه نهائياً ، لما كان من إستيائه من العزيز ، الذي دأبَ على إرهاق الخلق ، عامة ًوأعيانَ ، بالجبايات والرسوم ، الثقيلة . " دعونا من سيرة الرجل ، أيها الموقرون . إنّ ما يهمّنا ، الآن ، هوَ عرضُ زعيم الصالحية ، المُرسل بمعيّة رسولنا ، العطار : إنه يضع نفسه بتصرّفنا ـ كواسطة خير بيننا وبين المارق . ولا ننسى أن قبجي مولانا السلطان ، أعزه الله ، ربما يحلّ لدى شمّو آغا ضيفاً ، بما أنه من المحال عليه ، راهناً على الأقل ، أن يتمكن من التوجه بسلام وأمان إلى القلعة " ، توجّه إلينا الشاملي بخطابه وهوَ يتفحّص كلا منا بعينيه الرماديتين ، الكبيرتين والنافذتيْ البريق . من جهتي ، لحظتُ أنّ كبير الأعيان قد تجاهلَ ، لغاية ما ، تشديد زعيم الصالحية ، في رسالته تلك ، التي شافهني بها : أن نقبل بمشورة القاروط في إعطاء الوالي الوقتَ الكافي لموازنة كفة هيبته مع كفة رسم الحراسَة ، المُستحدَث ؛ باعث شرارة التمرد . على أنّ الحكمة ، بدورها ، أشارت عليّ بعدم طرح الموضوع ، ما دام الكبير مصراً على إهماله . لقد لاحظتُ ، فضلاً عن ذلك ، أنّ الشاملي أقرب لوجهة نظر وجيه الصالحية ؛ وأنه ، بالمقابل ، كان يمحضُ الوجيهَ المصريّ ريبة مبطنة . مهما تكن صحّة ملاحظتي تلك ، فإنّ كلّ شيء كان يدلّ وقتئذ على أنني أضحيتُ ، إلى هذا الحدّ أو ذاك ، محل ثقة مجلس العامّيَة . وإذاً ، فلم يعترض أحدٌ من الحضور على كلمة الشاملي . حان وقتُ الآسترخاء ، بما أنّ الغد كان يَعدُ بمشاق عديدة ، بالنظر لإحتمال ظهور القبجي بين لحظة واخرى . قدّمت الفاكهة والحلوى ، وكان من جلبها إحدى نساء الدار ، العامرة ؛ أنثى فتيّة ولا شك ، كما أنبى بذلك صوتها الرقيق ، الخفر . تماهى الصوت مع عطر الندّ ، المشتعل تواً ، والمتصاعد في حجرة تعضدها عضائد أربع للحكمة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 3
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
-
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
-
قلبُ لبنان
-
الصراع على الجزيرة : مداخلة تاريخية في جدل مستحيل
-
حوار حشاشين
-
نفديكَ يا أردوغان !
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|