|
الأولى والآخرة : مَرقى 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 2959 - 2010 / 3 / 29 - 18:39
المحور:
الادب والفن
الليلُ خرافة . أغسى بلا نجم واحد ، هاد . كنتُ أتحلق وإياها حول نار ضرام ، تتراقص فرائصها على وقع صناجة ما ، لما إعتكبتْ على حين غرة الريحُ القيامة وخلطت أشباحَ الظلمة في مهبّها . متحاملاً على نفسي ، تهتُ مشتتاً ، ضائعاً ، لأبصرَ من ثمّ طيراً عظيم الهامة ، فضي الريش براقه ، وكان يحلق على بعد ذراع مني ، متهيئاً للإنقضاض على أسفل المشهد ؛ فقلتُ فزعاً أنه سيطبق على العذراء ، يفريها ويفرقدها .
أيقظني ما ندّ عن حركة البنت ، المروّعة . كانت زمرّد متناهضة الآن ، وعيناها شاخصتين بالمشربية . بدوري ، رأيتني أقوم بقفزة واحدة ، رشيقة ، نحو الهدف عينه ، لأجليَ سدائف النافذة عما تهيأ لي أنه علامة ما ؛ قصاصة ملتهبة ، من حريق الحلم . الدرب في الأسفل ، تحت المشربية ، كان متبدّ بوضوح الفجر ، وقد إضطرم بالرمايات والصراخ والعويل . بدا لوهمي ، أيضاً ، أنني أشتمّ نفحَ عنبر ، متوقد للتوّ . غمغمة البنت ، وجلة ً ، تتسللُ خلفي لتنساب ممتزجة والهرج : " بالله ، ماذا يجري ؟ " . ما وجدتُ عندئذ جواباً مُشجعاً ، في ضيق الوقت وعسره ، بل قمتُ إلى ملبسي أرتديه بلهوجة . في إطلالتي ، خلل درفة الباب ، على مشهد البيت التحتانيّ ، خيّل إليّ أن ثمة مطاردة ، مهلكة ، موشكة على التناهي إلينا . إلتفتُ نحو زمرّد ، كيما أحثها على الإستعداد للتسلل عبر سلم الحديقة ، وإذا بها ما تني على جمودها ـ كمسمار عار . أبصرتها ، إذاً ، عارية إلا من لبوس اليأس ، فثار غضبي موقعاً على وجنتها صفعة شديدة ، ما كان لها إلا بعثرة الجزع عن قسمات وجهها الاخرى . أصواتُ المطاردين ، أضحت من القرب ، أنني لبثتُ كذلك جامداً ، فيما نشيج البنت يوتر إلى مداه ، القصيّ ، قوسُ عرقي . على أنني هدأتُ فجأة ، وكانما رُقيتُ بغلوى العشرق ، المُطيَّب ، فضممتُ زمرّد إليّ في هنيهة حنان عارم ، غير آبه بلعلعة صلية غدّارة ما ، مصمّة ، متماهية برطانة الشتائم ، السوقية . بلا أدنى أمل ، ولا غرو ، تفحصتُ الحجرة علني أهتدي لفسحة نجاة ، فدارت عيناي عبثاً لتحط من ثمّ على حسنائي ، وكانت قد أنهت ، بهمّة ، سترَ بدنها .
كان أولُ المقتحمين فتىً غراً ، مسلحاً بغدارة مشهرة ، يبدو من هندامه ، الرقيع ، أنه متنسّبٌ لأحد الأورطات . أخرجنا هذا ، على كل حال ، من خلوة الترقب المُعذب ، دافعاً الفتاة جانباً ودونما أن يلقي عليها حتى نظرة . ما عتم أن لكزَ ظهري بفوهة سلاحه ، موجهاً إياي بغلظة نحو السلم ، ليستلمني في قاعدته مقتحمون آخرون . نبرتهم ، كانت ذات جرس سليم ، أليف ، بث نوعاً من الطمأنينة في سمعي . كانوا على الأرجح من منطقة قصر الباشا ؛ من أولاد البلد ، على كل حال . " ما قعودك في هذا الماخور ، أيها المحترم ؟ " " ما كنتُ قاعداً ، وحياتكَ ، بل في نومة هنيّة " لم ترق دعابة جوابي لمن بادرني منهم بالسؤال الأول ، فتقدّم مني رويداً ليتبرطم بوجهي قائلاً : " إنك سكران ، فوق ذلك ، يا بن الحرام " . واجبته بلا كدر ، أن رحمَ الله والدينا . في اللحظة التالية ، وفيما كان المسلح هذا على وشك أن يهمّ بتدوين حماقة ما ، على جلدي ، إذا بقامة من طود ، متشامخة بملبس الوجاهة ، تقف بيننا . بدا جلياً لعينيّ إفتراق صاحب القامة الشموخ عن الآخرين ، مسلكاً وملبساً على السواء . قلب هذا الوجيهُ فيّ عينيه بفراسة العارف ، الزاعمة فضّ خواتيم الخزف ، ثمّ راحَ يشدّ طرفيْ شاربيْه ، المعقوفين والمخضبيْن . إبتدرني بعيد هنيهة صمت ، كمن يسائل نفسه : " أنتَ عطار ، هه ؟ " .
في حمأة الحنين ، المؤرَّث بلظى الذكريات ، أجدني اللحظة أهمل جانباً دفترَ تذكرتي ، لأرسل طرفي بعيداً عبرَ فرجة النافذة ؛ بعيداً عبْرَ صفحة البحر ، الناصعة ، المفتوحة أمواج أسطرها على مفردات مخلوقات تقاوم الغرقَ والعدَم . إيه ، حسن العريان . أيها الصديق الرائع ، المتفاني ، الذي إستسلمَ مبكراً لنزوة الفناء والعدَم . لكأنما صدفة لقائه ، في تلك الليلة المشتعلة ، كانت مسجلة أزلاً في اللوح الإلهيّ ـ كمقدور لا يُقاوم . مئذئذ ، صارت حياتي إلى منقلب آخر ، غريب تماماً عما ألفته قبلاً ؛ إلى تصاريف من واردات السرّ الخطير ، المُستطير ، الذي كان ينضجُ رويداً ودونما أمل أو هدف ، مثل ثمرة عفنة منذورة للديدان . ولكن ، لأن يكون هذا الكناش منذوراً ، بدوره ، للعث والهباء ، إلا أنه يبقى أنيسَ صاحبه ، في آخر الأمر ، وهوَ على جمر الغضا حنيناً ووحشة ووَجْداً .
مدينتي هيَ ذي ، عليلة . أكادُ أنكرها ، حينما كنتُ أبصرها متهتهة القوى ، مقاربَة العطب ، وحسنها ذاو ، تتخلق بأطمار دمقسها فيما يحوطها الشنار . لا أعشاب الهند ولا عقاقير المغرب ، كان لها وقتئذ أن تجدي الشامَ رقية ً . وأنا التاجر ، العطار ، هل من أداة لي أتسلح بها غير عسيل مهنتي . فما بال هذا الرجل ، الغريب الأطوار ، وهوَ في إلحافه عليّ للحاق بركب أولئك المتجرئين على عصيان الباب العالي فأعلنوها عامّيَة لا تعترف سوى بسلطة الدهماء . أعيدُ فكرتي تلك همزات وخز ، ساخطة ، في أذن العريان ، مُضيفا بحنق : " ما وقوفي ، بربّك ، بين هؤلاء المتنكبين غداراتهم وبنادقهم ؛ فليذهبوا إلى جهنم " " إننا جميعاً ، يا رجل ، في قلب جهنم " أودعُ كبير حارَة العمارة هذا ، الوقور ، لصدى غمغمته ، فيما كنتُ أشيح بفكري ناحية اخرى ، كانت ما تفتأ تعكر يومي وتؤرق ليلي . كنا عندئذ على مضيق الشفق ، في حانة الدالاتية ، الرَحْبَة ، والتي سبق أن أخلاها أصحابها ، المحاربون ، إثر تلك الواقعة ، الدموية ، قرب جامع المعلق ، وما كان من مطاردة العوام لهم حتى تشتتهم في جهات البرّ . ليجتاح من ثمّ أولئك العوام الحانة فيحطمون الدنان ويهرقون أنبذتها وينتقلون بعد ذلك لمهاجمة اوكار اللذة ، إلى أن ألجمهم تدخل كبير الأعيان ، الشاملي ، فألزمهم الكف عن هكذا فعال . هنا ، إذاً ، في خان الدالاتية ، كنتُ وصديقي الوجيه ، الرفيع المقام ، متحلقيْن حول بَحْرَة لم تقلّ رفعة ، في الواقع ، بما تبتذخه من المرمر والجصّ وما تنفثه من رطوبة وعذوبة . في زحمة مشاغله ، ما وجدَ العريانُ وقتاً ، على الأرجح ، لتبديل ملابسه الثقيلة بأخرى خفيفة المحمل ؛ ملابس الأعيان الدماشقة ، من عمامة حريرية محوّطة الرأسَ المعظم ، إلى القنباز المفقش ، المرتخي بدلّ حدّ ملامسة الزربول المقيطن . ها هوَ ، على أيّ حال ، وكأنما يودّ طردَ تلك المشاغل ، يرفعُ قدحَه نحوَ فمه ليضافرَ بلذعة الخمر النارية ، الحرّيفة ، الموقف المنتمي لإقليم جهنم . وكان العريان قد إبتدهني بشرح مفصل للمهمة المنوطة بي والتي ، بحسب تعبيره ، يعلق عليها الأعيان أهمية كبيرة : الإتصال بشمّو آغا ، زعيم الصالحية ، لمحاولة إستنفاض ما يبتغيه من حياده المُعلن ، الواقف على المسافة نفسها من سلطة الوالي وسلطة العوام . من جهتي ، أسجل هنا إعترافي بقبول المهمة هذه ، سعياً لأمر كان يخصني ويبلبلني بقوة : مصيرُ المسكينة زمرّد . وكان العريان ، لدى سؤالي لأول مرة عن البنت ، قد قال لي بغير إهتمام : " لا ريب أنها أغرقت في نهر بردى . أو ربما ، إذا كان لها فأل حسن ، أن تكون قد بيعت للقادر على دفع ثمن جارية " . أما الآن ، ومع تشديدي في الموضوع ذاته ، فقد وعدني الرجل ببذل كل ما يملكه من نفوذ لكي يُعثر على البنت . الضربة الاخرى ، التي دهمتني ، كانت فقدان تجارتي . إذ تمّ نهب سوق العطارين عن آخره ؛ بما أنّ أصحاب محلاته هم بمعظمهم من المغاربة ، المرتبطين بالوجاق المسلح لبني ملتهم ، والموصوم ـ كأغلب وجاقات الغرباء ـ بالتعاون مع الوالي ، المُحاصَر في القلعة . لقد سبقَ لي أن تفقدتُ دكاني ، بمعية من خاصّة العريان ، فرأيته شبه خاو ، وقد تناثرت في أرضيته العقاقير والأعشاب والأصبنة ، مختلطة بأشلاء حافظاتها ، الخزفية والخشبية . تلك الواقعة ، إذاً ، التي إستهلتْ ليلة مُنجَّمَة بالسلب والنهب ، كان عليها أن تجرّ نجمي ، وبمشيئة مقدور قاهر ، إلى فلك قصيّ ، سيكون من المحال الفكاك من أغلاله السرانيّة .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأولى والآخرة : مَرقى 2
-
الأولى والآخرة : مَرقى
-
الأولى والآخرة : توضيحٌ حولَ خطة التحقيق
-
الأولى والآخرة : مقدّمة المُحقق
-
لماذ قتلتم مروة ؟
-
رؤى
-
بحثاً عن طريدةٍ اخرى
-
قيثارة الأطياف
-
تراتيل
-
ترانيم
-
الأسبار
-
الصفعة في السينما المصرية
-
فيلم حين ميسرة : أكشن العالم الأسفل
-
منزل المنفى
-
دمشق ، قامشلي .. وربيعٌ آخر
-
قلبُ لبنان
-
الصراع على الجزيرة : مداخلة تاريخية في جدل مستحيل
-
حوار حشاشين
-
نفديكَ يا أردوغان !
-
فضائيات مقاومة
المزيد.....
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
-
تخطى 120 مليون جنيه.. -الحريفة 2- يدخل قائمة أعلى الأفلام ال
...
-
جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي تكرِّم المؤسسات الإع
...
-
نقل الموناليزا لمكان آخر.. متحف اللوفر في حالة حرجة
-
الموسم السادس: قيامة عثمان الحلقة 178 باللغة العربية على ترد
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|