أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شي ماء الصقر - رسالة قصيرة جدا















المزيد.....


رسالة قصيرة جدا


شي ماء الصقر

الحوار المتمدن-العدد: 2956 - 2010 / 3 / 26 - 19:28
المحور: الادب والفن
    



اشتباك غير متوقع!

في الغرفة أفكار تكفش انفعالات. أعلى السلّم تتبارز موهبتا الصبر والتعايش. في الحديقة “تلوب” صابرين كلّها استعداد لرد فعل عدواني فوري. إذا نادى أبوها “صابرين” كشّرت “لماذا تشتمني” وإذا بكت ابنتها “وديعة” صرخت “سأخنقها وأخلص من هذا العذاب”!

رأسها “طنجرة” مطبقة باحكام على الباذنجان والقرع والبطاطا والخبز والقرنابيط والكرفس والفلافل والكرّاث والطماطة وال “معلاگ” والخيار والست بيضات والماء المغلي وزبد طوفان معجون الطماطة.

هجوم!

عند تخوم الطنجرة بهارات تقفز مع أكياسها. تختلط أنساب الدهون والألبان بما تبضّع أبي قبيل الظهر. مصير هذه المعركة واضح للقاريء لا ريب.. إنّه المزبلة!

طبعا.

فلو لم يحملّها الأستاذ فلان مسئولية الكتابة عن شارع المتنبّي لما انسفحت تلك الخضروات.


العزيزة صابرين
طلب مني آن آكون آحد محرري انطولوجيا (باللغة الانكليزية) تحتفي بشارع المتنبي (...) سأكون سعيدا اذا ما ساهمت بنص قصير وساقوم بترجمته الي الانكليزية.
مودتي واحترامي

تهيبّتْ من قراءة الرسالة ثانية. “كتب أنّي مدعوّة؟ قال أدرجت اسمك ضمن المساهمين؟ قال إنّه يريد نصا طويلا؟ تحديدا عن شارع المتنبي؟”

وبدلا من لقاء بويضة في رحم وجدت صابرين نفسها مضطرة للبحث عن أطفال الأنابيب. للبحث عن مختبر تلقيح اصطناعي في مرافقه الصحية تخون زوج، لا عاقر، قدرة الاستمناء وتقسر زوجة على تشجيع بعلها للظفر بخلايا الحياة كلما دلف التواليت في محاولة يائسة لتجاوز الفشل السابق. والحلوب المنتظَر يكاد أن يأكل الطبيب الواقف خلف باب التواليت مرددا، بجلال الكهنة، جلجلوتيات الانتصاب المنزّه عن مقاصد اللّذة:

ـ قابلْ هوّ حليب دكتور؟! قابل آني بقرة؟!

وهي تدرك جيدا بأنّ النهاية واحدة، وليد الأنابيب لا يختلف عن وليدة الحب، لكنّها تعي أيضا بأنّ المقدمات غير العضوية organic لن تكتفي بذاتها، بل ستتسرّب إلى النتائج مثل الخال على وجنة ابنتها “وديعة”.

إذا اعتذرت ستخسر فرصة تاريخية لتعويض الكبوات، وإذا وافقت ستغامر بالكتابة عن شيء تعرفه من زوايا ضيقة؛ حكايا زملاء الكليّة وسرديّات الأب السندباد. زملاء مهووسون برعدة شراء الكتاب الممنوع ولذّة سرقة الكتب غير الممنوعة، وأب مسكون بكتب وسندويچات وحكايا غرائبية exotic لما يختبئ في، وما يتسرّب من، فم بائع ذا فك واحد يقال له حفيد الرجب:
أسرار ومنشورات وفضائح...........

هل يكفي هذين المصدرين للكتابة عن بيوت ما تحت أرضية يحمل مفاتيحها ذو الفك الواحد، عن صالات “معمّرة” من أزمان العباسيّين بطرز بناء قديمة وسلالم صلصالية شبيهة ب “تربة صلاة” كبيرة. عن انفجار مكتبة تشبه مجلداً خرافيا مدججّا بجميع المعارف والأسرار. مجلّد ذو طوابق وسراديب وقاعات، مسبّعة الأضلاع أو بلا نوافذ أو بنوافذ سقفية تفتح لتستقبل الشمس في فسحة للتهامس الطويل. إذا أرادت أن تكتب شيئا مهما لابد أن تتناول حرّاس سراديب لا ينامون إلاّ حينما يموتون فيدفنون وقوفا، كلُّ في الطابق الذي حرسه، وأن تتناول إشارات لأهوال مؤجلة أو لكتب مضروبٍ عليها نطاق مُحكم من التكتم، تسببّت في ميتات غريبة، أيّام الأمين والمأمون، أو بعد خروج المغول من بغداد. لا بدّ أن أكتب عن مكتبة في هيئة متاهة، تسمو بكتب لا تصبحُ سامية إلا إذا وشمت بأختام المنع الرقابية المتنوّعة. مكتبة فيها حارس عجوز تحجّر من كثرة الوقوف، وظلّت تشعّ منه قوى خفيّة تحفظ نظام المكتبة.

طموحات “الالهام المرصّع ببورخيس وامبرتو ايكو” تتكسّر حين ترى صابرين إلى المتنبي من ناحية ساحة الرصافي. أيّ زقاق ملعون ضرب رأس صديقتها بعصا الكآبة حين دخلته، مسكونة بهاجس التحرّر، فأدخلوها دهاليز الورّاقين ولم تعد بكتاب، ولكن ببطن منفوخ.. حمل غير شرعي في بلد مسلم.

طبعا. فشارع المتنبّي سوق يخص الرجال، روّادا وباعة، ولا أثر فيه لنساء يقترح عليهنّ الأستاذ أن يحتفين به.

سابقا، قبل صحوة البعث الإسلامية عام 1991، كانت ثمّة امرأتان ستينيتان في الشارع يبعن المقالي بالقرب من دكان بيّاع الخمور؛ الحاج محمد الخشالي. رفيقتا عمر أو صديقتا مهنة ابتدأت أيام عبد الكريم قاسم. صداقة تختطّ يوم الجمعة سبيلا خاصا، مفرداته:

زفرات.
سجائر تحترق بسرعة.
أسنان غير منتظمة تصطفّ بموشور المنافسة.
“طاوة” سوداء تشبه “طنجرة” طبخ.
“پريمز”، باذنجان، قرع، بطاطا، خبز، قرنابيط، كرفس، فلافل، ست بيضات، كرّاث، طماطة، معلاگ، خيار.
تضع إحداهنّ “نص بطل عرگ” أسفل البسطة والأخرى تضع “نص عرگ” في “كتلي” يبدو لرواّد المتنبّي وكأنّه “بريگ” متآكل.
رياح الطاوات.
زفير المستكي الحار.

امرأة الرصيف الأيمن ذات فوطة سوداء. امرأة الرصيف الأيسر ذات تنوّرة خيالية. الفوطة السوداء تقدّم للزبائن ذات البضاعة في الجوهر. لكنّ الطماطة “ريّانة”، وارتشاف “العرگ” أقلّ فضائحية، الأمر الذي يمنح روّاد الشارع بعض أمان لا توفّره التنوّرة الخيالية البدينة، المغنّية طوال النهار، المتحركة بلا سراويل داخلية، وغير القادرة على إستثارة حتى أعتى السكارى والمكبوتين وذوي الرغبات الإستثنائية.

ما أن تحسّ أصابع التنوّرة الخيالية أنّ قنينة الكحول خفّ وزنها مما غلا ثمنه حتى يضرب الهياج أطناب رأسها، فتفبرك أوّل خاطر في صيغة معركة ضد الفوطة السوداء. الصوت الطروب يتحول إلى غناء فشائري. التنوّرة تشتبك مع الفوطة فتترك الورك اللا محدود كاشفة للمرة المليون رفوف شحم مسخّم لا يستتر إلا عندما يغطيه المرحوم قاسم الرجب، وهو راقد في قبره، بفوطة وقطعة كفن ولكمة على الأنف، فتستيقظ وتستتر وكأنّ شيئا لم يحدث! تضع صينية المأكولات الكبيرة على رأسها وتتهادى عيناها ترمقان الحاج محمد الخشالي الممتشق سدارة تحمل بقايا الماركة ممزوجة بقصاصات متقادمة عن مكاتب أطباء ومحامين وصيدليات في شارع المتنبّي. “كم صيدلية في شارع المتنبي؟” أردت أن أسأل السندباد، أبي، وهو يشتري من “تنوّرة اللحم” ثلاث سندويچات “مخلّط” مأخوذا بأسلوبها الغنائي في “العياقة”.

رسالة الأستاذ. حياة الشارع. سأعتذر عن الكتابة. لماذا طلب الأستاذ مني تحديدا أن أكتب عن شارع المتنبّي؟ هل يهدف من هذا الاستحواذ على سمعة انترناشيونال ويحقق مداخيل أفضل المبيعات؟ أم يهدف إلى استخدام سخطي بعد اختطاف زوجي، ويساهم في اعادة شعار وطن تشيده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهدّم الذي سيحرّض بدوره الأمريكي على تأليف أناشيد “مرحبا يا معارك المصير”؟ ليس من حقك هذا يا أستاذ. ليس من حقّك أن تسيء استخدامي وهذا هو السبب في رفضي لارسال نص للنشر. ألم تقل لي في رسالتك الثالثة أنّني بمثابة أخت لك؟

كس أختك!


بعد يومين تستعيد صابرين الرسالة من ذاكرتها
طلب مني آن آكون آحد محرري انطولوجيا (باللغة الانكليزية) تحتفي بشارع المتنبي (...) سأكون سعيدا اذا ما ساهمت بنص.

أستاذى أعتذر لتأخري بالرد على رسالتكم وأود أن أعلمكم بأنّي قرّرت تلبية الدعوة بكل سرور. قرّرت أن ألبي دعوتك أستاذ لأني أريد انتشارا سريعا. قرّرت أن أتابع الأفلام الأمريكية وثقافة الأقنعة العراقية لكي أتعلّم كيف أتسلل الى شارع المتنبّي.


بعد أسبوع تتذكّر صابرين ما تبقى من تذكرها عن الرسالة
محرر انطولوجيا (باللغة الانكليزية) (...) سأكون سعيدا اذا ما كتبت لنا نصا.

أستاذ أخبرت والدي، السندباد، بدعوتكم الشجاعة وأحلام الانتقال المباشر من عزوف الصحافة الأدبية العراقية إلى أضواء الانترناشيونال، وكيف ستعوضني سنين الحرمان التي أكرمني بها في البدء صدّام، وفي الغمر الاحتلال، وفي الزبد ذريتّهما التي تبدو، للعجب، حنطية مجعّدة الشعر شقراء زرقاء العيون. ذريّة زوجين ظلاّ سعيدين رغم أنّ أحدهما قتل الآخر استحقاقا لبشارة النفط وشارة النبوّة والمصطفين.

لكن السندباد، أبي، رفض عرضكم!!

سللت السيوف والعبوّات و”هوسات البيت” علّه يوافق لكنه عنيد. تشكيلي وكاتب رافض الانتماء لمعسكر الثقافة ويعتقد أنّي يجب أن أكون وفية لمواقفه. تحجج بفقدان ذو الفك الواحد “حفيد الرجب” الذي قتل في المفخخة، وصمت حين اقترحت عليه تذويب القطيعة مع واحد من أصدقائه الذين ظنّوا أنّه مات أو في رحلة أو هاجر أو هجرته الموهبة.

وقبل أن يستسلم السندباد للمرسم يوم الجمعة استعادت صابرين موهبة التمثيل التي حسبت أنّها فقدّتها لغير رجعة. تلفّعت بزي رجالي عربي ونظارات شمسية وكرش قطني ولحية. استعرضت نفسها وسط المرسم أمام السندباد الذي “بزع الدنيا” وأجبرها وأمّها أن تقسما بالقرآن “وهو ملحد!” أن لا ينشرن أعماله الا بعد موته بسبعين سنة! حين فوجيء باختفاء سحنة الوجه “النسائي اللافت” خلف شوارب اصطناعية ولحية وتناقضها مع لوحاته الكثيرة لم يحتج، بل جلجل بضحكة لم تسمعها من قبل:

ـ يا لله بسرعة للمتنبّي گبل ما تصحين من خبالچ وتخافين من “رصانة التنكر”.

تلبّست السندباد روح مخرج لا روح أب. أغلق المرسم. وقف على الرصيف. أشار عاليا. حشرها وحشر نفسه في تاكسي.

ـ ساحة الرصافي. مستعجلين!

اتصّل بصديق حفظ اسمه في الموبايل لحظة تعلّم حفظ الأسماء:

ـ يعجبك نلتقي؟ أنا جاي للمتنبّي!

فترك فكّ قطيعة عقود مع ال”صديق” قهقهة مندهشة تنفرط وتغيّّر رأي صاحبها المتأهب للذهاب إلى الشورجة.

حين وجدت صابرين نفسها في شارع المتنبّي، بحماية الأب، تلبّستْ دور صحافي. تلصّصت على عمال ومهندسين مشغولين بحفريّات الشارع. رغم عدم وجودهم يوم الجمعة. فجوات الكونكريت المسلّح المحفورة بسعة إنسان تبدّت لها في هيئة عمال ومهندسين.عمال لا يعرفون شيئا عن خرائط المتنبّي القديمة والحديثة، ولا عن كهوف الكتب التي تنتظر ثورة أو انقلابا يعيد لها ألق السريّة.

في “المكتبة العصرية” كثير من قصاصات غير ممنوعة. صفحات كتب أكثر في “مكتبة النعمان” و “المكتبة الحيدرية”. أوراق متلّلة في مخازن “المكتبة العربية” وهضاب كتب وأوراق وأغلفة في “بيتونة” مكتبة عبد الحميد زاهد. رائحة تعطّ. مجاري مهشّمة. حشرات وهوام غريبة. أبٌ يكاد يطقّ من الحرّ والغضب بسبب ورطة وضع نفسه فيها عندما “وقف” قرب مكتبة المثنى لتبادل الحديث مع صديق تجنّب اللقاء به عقودا رغم أنّه يحبّه.

هؤلاء هم أبطال المشهد، ولا شيء في مكتبة المثنى يوحي بمأساة! لا كميات هائلة من كتب تظهر “للمؤتمنين” وبالـ “قطّارة” في زمن صدام ولا هم يحزنون. الموضوع كلّه يشبه أي انفجار آخر. الفارق الوحيد هو نوع المخلّفات. بدلا من قشور رقّي وتزحلق بالطماطة وتحوّل عباءات نسائية إلى ما يشبه المشانق، ثمّة أوراق وأغلفة ورفوف عشعش فيها الدخان والأحجار.

لقد افتقدت حتى القيء الذي “قفص” بلعومي لحظة ادركت أنّي اصطدم برأس مهشّم قرب “قالب ثلج” غير مثلوم في انفجار سوق باب المعظّم الأخير. على الرصيف أوراق كتب مجعوصة. مجاري مياه مطمورة تمنع ما تيبّس من بصاق ودماء وألبان حجي زبالة من التسرّب.

بعد أسبوع تتذكّر صابرين ما تعتقد أنّه بقايا الرسالة وتستكمل الرسالة التي لن تبعثها
العزيزة صابرين. أعدك أنا محرر انطولوجيا (باللغة الانكليزية) (...) أن أحتفي بنصّك عن شارع المتنبي.

تأمل معي أستاذ.

امرأة يعدها رجل بأن يرفعها الى مستوى العالمية تخوض مغامرة التنكّر الرصين ، تقف داخل مكتبة المثنّى، تتأمّل صاحبها قاسم الرجب وهو يتمشى في باحة المكتبة الأمامية، تتأمّل مجلسه الأدبي والحريق الذي عصف بالمكتبة أواخر التسعينات فتركه وأولاده رميما.

ـ نكسة!!

أستاذ.

لا شيء سوى كتب “تلعب النفس” وأوراق لا يربط بينها سوى وشيجة السلليلوز.

بسبب دوار الحمل فكّرتْ أن تجمع بعضا من الأوراق.
غيمة غبار ساكنة متوعدّة.

قالت: “خذي خمس كيلوات من هذه الاوراق “المربوثة” وجرّبي في البيت تجميع ما يجتمع أو ما لا يجتمع، أو قاربي الأضداد، أو وحّدي الهارموني الخفي للنشاز”. فأخذت ما اصطدم بها أو اصطدمت به. صارت “تهمّش” من هنا وهناك من الأرض والرفوف. تأخذ “خيرة” في كتاب. تلعب “توكي” بين كاشية وكاشية، تتوقف وتلتقط ما في الكاشيّة. “لا تمدّي يدك إلى المبولة!” نهرت نفسها ثمّ قالت: “ بالعكس! قد يكون في المبولة نصا مهما. وحتى اذا لم يكن مهما، فسأمنح تلك الورقة أهمية لأنّي وجدتها في مبولة مدمّرة في مكتبة المثنّى في شارع المتنبّي المقصوف.”

فكرة المبولة والقصاصة وألعاب التوكي و “الخيرة” قادتها الى التنويع في الفضاء، في المكان، في اللون، بل وحتّى بعض التنويع النفسي.

رأت “كاغد” نصف محترق ذكرها بالتناول الكلاسيكي لموضوعات الحرب وكيف تتطاير الأوراق أو كيف ينشطر بيت شعر معروف عن عجز البيت، أو كيف تتلوّن مياه دجلة بلونين، “حمراء من كثرة الدماء وسوداء من كثرة المداد”. لا بل تذكرت أنّ الناس صنعوا من الكتب جسرا يربط الرصافة بالكرخ. جسر من الطين والكتب والدماء عوضاً عن الآجر.

ثمّ إذا بالإلهام ينهمر؛ ورقة شبه ممحيّة محشورة بين رفّ وحائط: “طفلة ورقيّة أمّها رفّ يكاد أن يعانق الصلصال”.

في تلك اللحظة داهمها صوت التنورة الخيالية، فظنت أنّ البدينة حشرت تلك القصاصة أو الفوطة السوداء بتلك الطريقة لتفبرك المفخخة. وعندما خفّت القنينة مما غلا ثمنه وأصابها الهياج انفجرت وتركت ال”كواغد” تتطاير في درج السرداب المترب، إلى جانب الفراشات الغباريّة.

وقد عضّدت انهمار الوحي بمعلومات عن المطابع. فالورّاقون كانوا يكتبون على صحائف صفراء وورق عيار 80 مليم او بالبنط الاسود أو باللون الاحمر. لهذا ستكون أوراقا كثيرة مما تحمل غير مقروءة. فحبر المطابع القديمة مصنوع من عصير تمور ودماء هدهد مطحونة وثوم وشريس بامياء تتآكله الشمس إذا ما تيبّس. بالضبط هذا ما حصل... فتلك المزقة الصغيرة، بين رفّ وحائط، من عيار 80 مليم تساقطت أجزاء من حروفها فتغيّرت سياقاتها وتلبّست طبائع سوء الفهم. هنا انحذفت نقطة أو فاصلة وهناك تقشّر حرف فظهر حرف آخر تحته (محاولات البيض تدخل هنا في البيت).

قلت لنفسي لا بد من العثور على قبو محفوظ بشكل رائع فيه ألواح بابلية أو سومرية. ثم قلت نعم لا بد أن أجد نصوصا مخطوطة على البردي أو الجلود أو على الجماجم، وتذكرت قحف رأس المملوك جابر، ثم هوّنت من الأمر على نفسي وقلت؛ حتى اذا لم أعثر على ألواح سومرية يمكنني لاحقا أن أدّعي ذلك في قصتي، ومن سيعرف الحقيقة بعد مقتل ذو الفك الواحد وبعد أن هرب حتى النمل الأبيض من شارع المتنبّي؟

صورة عبد الرحمن افندي عام 1890 بيده سدارة قادتني إلى الملاّ خضير عام 1900 بعمامة بيضاء، ثمّ نعمان الأعظمي عام 1905 مع يشماغ وكوفيّة. كانوا هم أنفسهم أم صورهم مبللّة رابضة في ألبوم ينحدر إلى كهف في مكتبة المثنى التي كانت مكانا مثاليا لسرقة الكتب؟ أوائل التسعينات شوهد الملك فيصل الأول سنة 1921 يطير إلى الكهف حين حدث انفجار مكتبة المثنى احتفالا بتتويجه. درب زاخا المشهور في العصر العباسي ينفتح كطريق موسى (ع) على جانبيه مؤسسات ثقافية ودينية تتفرّع منها مدرسة الأمير سعادة الرسائلي، وتكية أرجوان ومنطقة (القشلة) حيث ضريح الحكومة العراقية في العهدين العثماني والملكي.

وجدت نفسي في القبو العميق.

المرحوم قاسم الرجب يردم عنق الدهليز برفوف و “گواني” من كتب ويستحيل رمادا كاشفا عن جدار اسمنتي مكسور عرضه متر يؤدي إلى نفق “مضيء أو مشمس” رغم استعصاء دخول الضوء إلى هناك.

عرفت عند عودتنا الى البيت من أبي أن ذلك الدهليز الخفي يرتبط بسلسة أنفاق تؤدي إلى دور كتب عديدة منها مكتبة المستنصرية التي سلمت من الحصار المغولي. في أروقة المدرسة المستنصرية اخترع بيّاع كتب فرخچي فنّ القراءة والكتابة للمكفوفين قبل أن يعرف ذلك الغرب بقرون، وكان اسمه زَين الدين وطريقته “قطعة ورق خفيفة، يفتل منها فتيلة صغيرة، ويجعلها حرفاً على حساب الحروف، ثم يقرأها باللمس”. وكان هذا الدهليز أو المدخل هدفا لبحث مخابراتي طويل في زمن صدام توّج بالفشل إلاّ من مقتل قاسم الرجب وابناءه حرقا. وعرفت من أبي كذلك أّنّ آخر من حمل ذلك السرّ هو الحفيد ذو الفك الواحد.

تجمعت لديّ في تلك اللحظات السحريّة ما لا نهاية من الأفكار. جمعت أوراقا أخرى بناءً على تداعيات، لا أهداف نسقيّة لها، أو شعورا بالرحمة على مؤلفيها. وما هي الا ثلاثة أرباع الساعة حتى خرجت من كل تلك الأنفاق دفعة واحدة كحطاب يحمل هضبة “عاگول” في كيس پلاستيكي أسود.

صاح أبي:

ـ هاي شنو لك؟ تخبّلت؟!

فصحت:

ـ إذا ما صرت أحسن كاتبة بالعالم، تعال اذبحني!

فصحّح زلّة لساني وهو يفتعل ابتسامة لصديقه القديم:

ـ لك صابر، لا توصوص، أنت متصير كاتب لو تطلع نخلة براسك. عبّالك الكتابة بالگواني السود؟

وأطلق ضحكة مجلجلة هزّت السوق.


في البيت
قصقصت الأوراق على طريقة الدمبلة فتداخلت المقاطع. تتبّعت أثار الكلمات المحروقة فتجمعت سياقات. استخدمت “الخيرة” بأن أسحب أوراقا وانا مغمضة العينين فانرصفت حكايات. اعتمدت التداعي والتجميع والتفتيت وكسر شوكة نصوص وتركيع نصوص أمام حروف جر وجمل بمواجهة حروف مشبّهة بالافعال. حذوت حذو ما كتب ابن النديم عن حرب الأخوين والكتب التي “تمحى ويُكتب فيها، وتمحى كلمات ويُكتب بدلا عنها كلمات أخرى”.

التقنية الأخيرة أستاذ استخدمتها وأنا أقول أي شعاع ينطفيء في بياض المحو “وتمحى الكلمات ويُكتب بدلا عنها بالدماء”. “وتمحى الكلمات ويُكتب بدلا عنها بالـ “طاوة” السوداء تشبه “طنجرة” طبخ، بالـ “پريمز” بالباذنجان بالقرع. البطاطا. الخبز. القرنابيط. الكرفس. الفلافل. البيضات الست. الكرّاث. الطماطة. المعلاگ”. “وتحرق الكتب فيُشوى السمك المسگوف”. “وتحوّر الكلمات وتنقيطاتها وتلغى الفواصل أو توضع في غير أماكنها، ويُكتب فيها وتمحى ويُكتب فيها، وتمحى ويُكتب فيها.” وهكذا يذوب المعنى مثل قطعة ملح في بحر ميت.

قرّرت أن أصل السياقات مع بعض. لكن هذا أمر مستحيل. فتذكرت مقولتك في رسالتك الخامسة عن الخلاسية فخزقت كل سياق وجلبت “واير” كهرباء أدخلته في الخزوق وعلّقته على السطح.

السياقات مشرورة على “الواير”.

النتيجة واضحة أستاذ.

هذه القصة مصيرها إلى المزبلة.

ملاحظة:
كتب هذا النص قبل إصلاح شارع المتنبي، وهو استجابة لدعوة الروائي والشاعر والسينمائي العراقي سنان انطوان في كتابة نص عن شارع المتنبي كمساهمة ممكنة في كتاب يحتفي بشارع المتنبي ويصدر في الولايات المتحدة.

تشرين الأول 2008



#شي_ماء_الصقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شي ماء الصقر - رسالة قصيرة جدا