|
الهروب الاول الى الكويت
أحمد السيد علي
الحوار المتمدن-العدد: 2956 - 2010 / 3 / 26 - 16:50
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
الهروب الأول الى الكو كانت الأجواء في بغداد ملبّدة بالموت والخوف والاعتقال، رائحة الدم تلف الشوارع، صعود الفاشية والدكتاتورية بشكل متسارع، بدء النظام التوليتاري بتصفية رفاقه بحفل من الدم بحجة المؤامرة مع البعث السوري وبمسرحية تزكم الانوف جرى تصفية وإعدام رفاقهم الرافضين للدكتاتورية الصاعدة والمتخمة بأموال البترول وجرى تلويث وإشراك جميع الرفاق من الخط الاول والثاني الغير مشمولين بالخيانة! بإعدام ( محمد عايش... محمدمحجوب...عدنان حسين... عبد الخالق وصباح السامرائي...ووو)، لم يكتفِ الدكتاتور المقبور فقد بدء قبل ذلك بالإنقضاض على الشيوعيين والاسلاميين( الدعوة،العمل الاسلامي، حزب أخوان المسلمين) وأعدم مجموعة من الرفاق العسكريين( مجموعة الشهيد الرياضي لاعب كرة القدم بشار رشيد) وكذلك القتل والتنكيل بالاحزاب الدينية والتفرد بالسلطة عشائريا ومن ثم عائليا. كان الطلبة يختفون من الجامعات، أما يساقون الى الاعتقال والموت وأما يهربون الى سوريا وإيران والكويت وأما يصعدون الى جبال كردستان العصيّة على السلطة والمباشرة بالكفاح المسلح ضد السلطة الغاشمة في العراق.
بعد هروبي من مركز أمن الاعظمية، والمكالمة المريبة عبر الهاتف لمرفئنا المؤقت في كرادة مريم أنا وأخي جمال*، لم يكن خيارنا غير الهروب خارج العراق، بأي وسيلة، مهما كانت لهذه المغامرة من عواقب لاتبتعد كثيرا عن الجو المشحون بالفجيعة والتنبؤ بالكوارث والحروب اللاحقة، فقررنا ترك المنزل والوالدة كانت معنا، فذهبنا الى منطقة جميلة بشكل مؤقت في بيت أقاربنا (مهدي أبو حازم). كانت العودة الى الجامعة شبه مستحيلة لا في جامعة بغداد ولا المستنصرية ولا غيرها، في جو حافل بالموت والتنكيل والتسقيط السياسي، وكان التفكير جديا في الهرب من العراق، ظهر في تلك الفترة صديق قديم لجمال (علي ناصر الرفاعي كنانة حاليا)**، وكان قد هرب من معهده في السليمانية وبعدها هرب الى الكويت ومكث لأشهر عدة وعاد لأسباب عائلية، فطلب جمال وأنا الهرب الى الكويت فوافق وذكر بأن له صديق صائغ إسمه عماد*** يريد الهروب أيضا، كذلك كنا على إتصال بالراحل الصديق يوسف الحاج خضر **** وأبدى رغبته الشديدة بالهروب معنا، فوافقنا مضطرين أزاء إصراره، إتفقنا في بغداد ان نتوجه الى البصرة بالسرعة الممكنة، كان ذلك في 3 إكتوبر 1979، صباحا ركبنا حافلة (المنشأة) من كراج النهضة متجهين الى البصرة، وفي الطريق كانت هناك إمرأة جالسة بجانب أخي جمال وبعد حديث طويل والإطمئنان عرّفت نفسها بأنها زوجة الشهيد (ستار خضير) وعرضت المساعدة علينا للذهاب الى سوريا فشكرها ونحن كذلك وقال لها نحن نتدبر أمرنا، وصلنا الى البصرة وودعناها، وتوقفت الحافلة في شارع الكويت. كانت البصرة لاتختلف في وضعها السياسي عن باقي المدن بل إبتدأ بها الاعتقال والتعذيب والتسقيط السياسي قبل غيرها. إستأجرنا غرفة في فندق متواضع يطل على ساحة أم البروم، وفي الليل ننام فوق سطح الفندق، وكانت الفئران ومن الحجم الكبير تتجول بيننا دون إكتراث ما بين فراشنا الملقى على سطح الفندق. إلتقينا بالشهيد وليد محمد حمد وكان من المقربين من جمال ، فأبلغه جمال بسرّنا ورغبتنا بالهرب الى الكويت، فأجاب انه ربما فيما بعد سيتدبر أمره وهو الان في الجامعة فودعناه وتمنى لنا النجاح في مسعانا. في اليوم التالي حزمنا حقائبنا وتوجهنا الى الزبير ومنها الى قرية الشعيبة المحاذية لمطار الشعيبة. كانت القرية صغيرة وهي محاذية لمطار الشعيبة، وسكانها يَمتونَ بصلة عشائرية و قرابة فيما بينهم، كان علي قد تعامل معهم في هروبه الاول للكويت من خلال ابن عمه، فهم لا يثقون بالغرباء بسهولة، ولهم صلة بالبدو الرحل في المناطق الحدودية المتاخمة للسعودية والكويت. كان التهريب حالة طبيعية عندهم، فهم يُهرّبون كل الذين يرغبون العمل في الكويت ،كذلك الهاربون من العسكرية،ويخافون من السياسين، فلا يريدون مشاكل مع السلطة، وأكثر الاشخاص الذين يهربون الى الكويت هم من أهل البصرة والناصرية والسماوة. كان المهرب...وسّاك...هذا المهرب الاسطوري المتمرس هو الذي تكفل بتهريبنا، وإتفقنا في صباح اليوم التالي، وبتنا في قرية الشعيبة وإتفقنا أن يكون ثمن تهريب الشخص الواحد هو 140 دينار عراقي، وكان هذا المبلغ لا يستهان به، إذا عرفنا قيمة الدينار وقتها في عام 1979 يساوي أكثر من ثلاثة دولارات. إنطلقت السيارة بنا صباحا الى الصحراء متجهين الى منطقة الشبه المنحرف التي تسمى منطقة الحياد، والغنية بالنفط، وقد وهّبها الدكتاتور المقبور فيما بعد الى السعودية إبان حرب الخليج الأولى، وكانت هذه الصحراء الممتدة أوصالها الى النجف والسماوة والناصرية، وكثير من أهالي هذه المحافظات كما أسلفت يهربون عبر الصحراء الى الكويت للعمل والتهرب من الخدمة العسكرية، ومن ثم يعودون ويتزوجون ويهربون مع عوائلهم، ويسمى الشخص الذي يهرب ب(الكعيبر)، وحتى السوريون يأتون الى العراق ومن ثم يهربون الى الكويت لصعوبة الحصول على التأشيرة(الفيزا). المهم إنطلقنا عبر الصحراء، وقد لبسنا (الدشاديش والغُتَرْ البيض وأحذية باتا الرياضية)، وأثناء الطريق يملي علينا المهرّب وسّاك التعليمات فيما لو صادفنا دورية حرس الحدود ماذا نخبرهم، ففي كل منطقة معينة نذكر إننا ذاهبون للمكان الفلاني مثل (قرنج) لنسترد دين لنا ، من قبل البدو لبيعنا سيارة نقل(بيك اب) مثلا. واصلْنا هذا الطريق المجهول والمعروف لمهربنا (وسّاك)...فقد يعرفه من خلال أعشاب صغيرة أو شجيرة يتيمة في هذه الصحراء القاحلة، وفي الطريق شاهدنا مجمعات سكنية مهجورة، أراد النظام الحَدْ من تنقل البدو والسيطرة عليهم ويسوّق أولادهم الى العسكرية، وحفرت السلطة فيها آبار إرتوازية، ولكن البدو لايعرفون التوطن والاستقرار، فهم يتنقلون على مدار فصول السنة، ويعرفون الاماكن المناسبة في الصيف واتجاه الرياح ويتنقلون بين السهول والهضاب، وهذا ينطبق على الشتاء وباقي الفصول. أثناء المسير إعترضتنا دورية لشرطة الحدود، وإرتبكنا كثيرا، وطلبوا البطاقات الشخصية ، فكانت الهوّيات جميعها من الجامعات والمعاهد، وكنا بالاحذية الرياضية البيضاء، فقالوا ...هل أنتم فريق كرة قدم؟، ولكن المهّرب وسّاك يعرفهم ، والشرطة هناك ترتشى، وتفاهم معهم وأعطاهم مبلغ من المال، :ـ وأجبنا كما أوصانا المهّرب بأننا ذاهبون لإستحصال دَين لنا، فسمحوا لنا بمواصلة الطريق على أن نعود بالسرعة الممكنة، عاودنا السير في الصحراء، وبعد مسافة غير قصيرة ،توقفت السيارة بسبب شحة الماء في(الراديتر)، وكانت الحرارة شديدة، وكنا قبل قليل ، قد أفرغنا المثانة من اليوريا، فطلب وسّاك منا أن نتبول في الراديتر فلم نستطع ولم نتجرأ ، فقام هو بالمهمّة الشاقة ، فكانت كافية بحيث شَغّلَتْ السيارة، وسرنا حتى المساء، وكان هو يترقب أنوار سيارات دوريات الحدود، وكان يسير وأنوار السيارة مطفئة، وفجأة أحس بقدوم سيارة، فقال إنزلوا وتفرقوا، و كان الظلام دامس ، والبرد شديد،فإلتصقنا كل إثنين من الظهر، ومستوى النظر لا يتعدى نصف متر، وكان المكان ممتلئ بفطائس الغنم، ربما ماتت من المرض. وبعد ان ذهبت الدورية بعيدا نادانا وسّاك وركبنا السيارة، وسرنا نشق العتمة بلا ضياء. أضاع وسّاك الطريق في المساء ، بعدها أظطررنا للمبيت في الصحراء ، وفي الصباح أخذنا بالبحث عن مخرج ، حينها رأينا أحد البدو مع بعيره وعندما سألناه عن المكان فقال لنا بأننا في الأراضي السعودية ، وبعدها عدنا الى الاراضي العراقية، وسرنا في الصحراء ألا أن سمع وسّاك نباح كلاب، فعلم بوجود البدو على مقربة منا، وبعد مسافة قصيرة وصلنا خيم البدو، فنزل وسّاك وحيّاهم ونحن كذلك، فرحبوا بنا بحرارة، وكان شيخهم معّمر وجميل الطلعة، و ذوعيون حادة، وهم إعتادوا على ملاقات الغرباء في عمق الصحراء، ولهم درايّة بعمليات التهريب فأكرمونا وتناولنا وجبة العشاء معهم من اللبن الرائب والخبز البدوي، وكانوا يخبزونه في تنور عبارة عن هّوة تحت الارض، وفي الصباح ودّعناهم وإستعارمنهم وسّاك سيارة مياه(تنكر) وترك سيارته، وذهبنا الى منطقة ثانية على مفرق من حرس الحدود السعودي والكويتي ، وفي منطقة الحياد على ما أذكر، وحرس الحدود الكويتي لا يحملون سلاح ، ولكن حرس حدودنا مسموح لهم بحمل السلاح، وصلنا المكان المقصود، وكان ممتلأ بالجمال والغنم، فرحبوا بنا أصحاب المكان، وهو المحطة الأخيرة في العراق، وأدخلونا في خيمة مخصصة للذين يهربون الى الكويت أو السعودية، وفيها الكثير من مواد التموين (حنطة وشعير ورز وعلف وغيرها) ومكثنا لعدة ايام، نبقى في النهار في الخيمة وفي المساء نخرج نتسامر مع البدو، وكانت ليالي جميلة من الشعر والحسجة والطرائف والنكات، وأذكر ذات يوم أردت أن أشرب الماء من السطل ، فصاح البدوي إنتظرقليلا:ـ دع البعير يشرب أولا ومن ثم تستطيع أن تشرب لأن للحيوان الأولوية ، ففعلت ذلك على مضض ثمناََ للحرية. وفي أحد الايام جاءت دورية وسألت البدو (كم نفر لديكم) وبعدها جاء آمر الدورية الى الخيمة وسلّم علينا وقام بعدنا فتأكد بأننا خمسة أشخاص وذهب. وفي اليوم الموعود جاء مهرّب آخر وقال سنعبر الحدود عند صلاة المغرب، لان الدوريات ترجع الى مراكز الحدود للصلاة، وهي مدة كافية للعبور، وعند الغروب تحركنا بسيارة متخصصة لعبور الصحراء وهي( GMC) ،إثنان جلسوا بجانب السائق والثلاثة الباقون إستلقوا في سطح السيارة الخلفي وفوقهم غطاء، وإنطلق من خلال الرمال المتحركة بإتجاه الكويت، وغرست السيارة في الرمال مما جعلنا ننزل وندفع السيارة وإخراجها من الرمل الكثيف، وقد انبطح المهّرب على الأرض وأصغى بأذنيه على الرمال ليسمع حركة السيارات فإطمأن وإستمر في السير، وبعد عناء مشوب بالخوف والمتعة عبرنا الحدود ودخلنا الكويت عبر منطقة الجهراء وإستمر السائق بالسير الى داخل العاصمة الكويت، ونزلنا في إحدى الشوارع الفرعية، ومن ثم أخذنا تكسي(وانيت) الى منطقة الفحيحيل جنوب الكويت، وإلتقى علي بإبن عمه (زهير) فإستقبلنا وأجر لنا غرفة في أحد الدور السكنية المعدة للإيجار، وبعدها بدأت رحلة البحث عن عمل والاستقرار المؤقت لأننا لانملك جوازات وفي عُرفْ الدولة متجاوزي حدود (كعَيْبِرْ)، ومن ثم البحث عن وسيلة أخرى الى المحطة الجديدة المجهولة الهوية.
* جمال وأنا مقيمان في السويد ** علي ناصر كنانة مقيم في قطر
*** عماد المندائي أعتقد مقيم في اليمن
**** الراحل يوسف خضرعباس مزار الشريف في العراق
#أحمد_السيد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة...فرج البقال
-
كاظم السماوي أخر الشعراء الكبار المخضرمين ...وداعا
-
مهمة التوثيق وليس إعطاء الفتاوى
-
محاولة لفهم كتابة التاريخ
-
لماذا لم تنفذ وصية المفكر الراحل هادي العلوي...بالحرق بعد ال
...
-
ضوء على دراسة د. علي الوردي... في طبيعة المجتمع العراقي
-
خياط الفرفوري...أحد المهن الشعبية التي إندثرت
-
مديرية أمن بعقوبة...والهروب الى كردستان تالعراق 2
-
إجابات حول إستفهامات...العزيز إبراهيم البهرزي
-
مديرية أمن بعقوبة...والهروب الى كردستان العراق 1
-
بعقوبة...وتوضيحات من القرّاء
-
بعقوبة...وبعض من شخوصها الشعبية2
-
الصحاف أحد رموز الاغتيال في المنظمة السرية
-
بعقوبة...وبعض من شخوصها الشعبية
-
مدينة بعقوبة وجزء من تفاصيلها
-
هروب من أمن الاعظمية
-
عمالة الأطفال والأعتداء الجنسي والجسدي والنفسي عليهم...وصمة
...
-
قتل المثليين في العراق
-
ومضات مع الشاعر الشهيد خليل المعاضيدي
-
حتى حكومتنا الأخيرة إغتالت ثورة 14 تموز
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|