|
حكايا من المهجر: هلوسة عبابو 2
عذري مازغ
الحوار المتمدن-العدد: 2952 - 2010 / 3 / 22 - 19:21
المحور:
الادب والفن
كان عبابو ذلك الإنسان المتمرد الغاضب دون أن يعرف دوافع غضبه، وكثيرا ماتزيغ به الأفكار إلى أنه ارتكب الكثير من المعاصي، كانت أزمته الحقيقية هي عزلته القاتلة، على الرغم من وجود مهاجرين من نفس بلدته ومن مختلف الأجيال، فما أن يرتاح إلى أحد استضافه ليعيش معنا، ما أن يزرع هذا الضيف جدوره، حتى ينقلب عليه، من كثرة مايلقاه من تحذيرات: ـ هل تعرف عبابو؟ إنه خطير سيورطك في مشكلة ما ـ حذاري صحيح مايقوله الناس! يصلي أحيانا ليستعيد ثقة الناس به وينعم كما الآخرين برحمة التعايش، لكنه ما أن ينخرط في هذه اللعبة القدرة، حتى يجد فيه الآخرون حربتهم لتوجيهها إلى أعدائهم، يكتشف ذلك بحسه الجنوني، عندما يطمئن إ لى أحد ممن يثق فيهم، يقول له بأن مايكره في الناس هو نصائحهم وهم أولى بأن يعملوا بها، إن مايحتاجه هي تلك الراحة العميقة، لاتعذيبه بعقدة الذنب، يقول بأنه ما أن يبدأ صلواته حتى يبدأ الآخرون في تصحيحه فرائضها وأحكامها، وبعدها يبدأون في توجيهه وفق أحكامهم البليدة، إن ما يكرهه في الناس نصائحهم الخبيثة وهو الذي يملك أقدمية في المهجر تتيح له رؤية مخالفة، وكان ماراعه ذات يوم أنه ذهب ليقيم صلاة الجمعة بمسجد إيليخيدو ويستمع إلى خطبتها، وكان الإمام قد أصدر فتوى تحرم العيش في بلاد النصارى، وغاظه من ذلك أن الإمام نفسه يعيش بها وهو حتى لا يتوفر على إقامة قانونية، فلماذا يصلي بالناس في بلاد النصارى مادام العيش بها محرما، ولماذا يتسلم أجرة تفوق أجرة عامل مزارع وهو فقط يأتي فرائضه كباقي الناس المومنين، يصلي صلواته الخمس إضافة إلى خطبة الجمعة، كان على الإمام مقابل مايتلقاه منا، أن يفتي فيما يجعل أرواحنا تطمئن إلى وضعها بدل أن يثير فينا تقزز العيش في بلاد النصارى. في أحد الأيام، كان يلاعب كلبته ويعانقها، ولما رآني أتعقبه بنظراتي، تبسم في وجهي متسائلا مما أقبلت، فسألته عما يفعله مع كلبته فأجاب قائلا: ـ هل تعرف مايجذبني إلى كلبتي؟ إنها لا تعرف النفاق، هل تعرف كيف جاءت إلينا؟ ـ كيف حصلت عليها؟ ـ في البداية التقيتها في الطريق عندما عدت من التضبع، راقني حالها وهي تحاول أن تبتعد عني، فتحت علبة سردين وقدمتها إليها إلا أنها كانت متحفظة من التقرب إلي، ولما ابتعدت تقدمت إلى العلبة، ومن ثم تربصتني إلى الموضولو، ذكرتني بأول يوم نزلت فيها إلى هذه الأرض السعيدة، كنت على شاكلتها من التحفظ، وكنت أخاف التقرب إلى الناس حتى لا يكتشفوا فيي ملامح الغزو، في البداية، لم تأنس الكلبة التقرب إلى الموضولو، وبكثرة ماكنت كريما معها، استأنست إلي، ضحك قليلا ثم استأنف، هل تعرف شيئا؟ هي من علمت الأولاد أبجدية اللغة الإسبانية...، بالغ في ضحكته ليقول: هل تعرف فلان؟ عندما تذهب معه إلي أي مقهى، حاول أن تنظر كيف يلكن اسبانيته، ستجده يلكنها دائما على وزن نباح الكلب أو مواء القطط، سترى ذلك بنفسك، أنا متأكد، قالها مسترسلا في ضحكاته، الإسبان في هذه المنطقة ليست لهم قابلية التواصل، سيقف النادل حائرا عندما يطالبه فلان مثلا، بصرف ورقة نقدية لشراء السجائر، سيقول فلان: كامبيو(cambio) على وزن عواء الكلبة وسينتظر النادل لحظة كي يتفهم قصده أو مثلا لكي يطلب قهوته، لن يقول للنادل: (cafe por favor)أريد قهوة من فضلك، سيقولها على وزن مواء القطة ك: كافي ميو، أي قهوتي. كان عبابو محقا في كلامه، كانت هذه الكائنات الإسبانية، هي من حمل إلينا لغة الإندماج الإجتماعي، وحققناه بدئيا معهم، فالكلاب والقطط الضالة، بما تحمله في ذاتها من وحشية، كانت قد استأنست فينا وحشية من نوع آخر، في البداية، كانت تقترب إلى ملاجئنا بتحفظ كبير فما أن تستحسن سلوكنا حتى تبدأ هي بالتقرب أكثر، ثم تبدأ بغريزتها الإجتماعية تدخل إلى ملاجئنا وتبدأ عيشها معنا، ولكي تحافظ على مكانتها، في علاقاتها مع كل واحد منا، كانت لا تتدخل في خصوماتنا، بل تبقى على حيادها الطبيعي، وعندما يأتي الصحفيون لزيارتنا، كان أول مايقومون به هو التقاط صور لهذه الكائنات، وكانت بذلك خير معبر عن وضعيتنا الهامشية من خلال وضعها هي، تدين مجتمعاتها التي تركتها تضل لتسكن مع أناس كانوا يجاورون القردة في إفريقيا، لذلك لم أستغرب يوما أن امرأة ألمانية جاءت يوما تزورنا لتقول بأنها من جمعية خيرية تعني بالحيوانات الضالة وأنها سمعت بوجود الكثير من القطط والكلاب بيننا تريد أخذها لإعادة اندماجها في مجتمعاتها، قال لها عبابو: ـ خوذيني محلهم، سأداعبك كما تداعبك القطة الآن، كانت القطة تتمسح إليها مما انتاب عبابو وهو يكمل: فأنا أحتاج إلى هذا الإندماج الإنساني الرائع، ضحك ملأ فيه وضحكنا معه، ثم استأنف قوله: أنا أستثمر مثلكم في هذه المخلوقات، هذه الكلبة، تضع لي سنويا أكثر من جرو وأبيعها بثمن أقل بكثير من أثمان تلك التي تباع في الأسواق الكبيرة. ـ لكن نحن لا نبيعها، بل نعطيها لمن يستطيع تغذيتها ـ تصدقونها إذن، تنزعونها من الفقراء مثلنا لتمنحوها للأغنياء، مالفرق؟ نظرت إليه نظرة ازدراء واحتقار، ثم استأنفت طريقها متمتمة عبارة السماح على الإزعاج. كانت هذه الحيوانات سبب في تعلمنا الكثير من الكلمات الإسبانية، كانت حافزا لنا في تعلمها، فمثلا عندما نكلمها، لا نكلمها إلا بلغتها، وكانت هي لاتسخر منا عندما نسيء النطق أو كانت تشدها الحيرة كما النادل، بل كانت تتفهم غربتنا بالتأكيد، وكان هذا ما يعشقه عبابو في كلبته، يقول بأنها مخلصة له، وبأنها تفضله علينا جميعا لأنه هو من حضنها، وأنها لا تفرض عليه لا نصحا ولا وصايا ولا سبق لها أن حرضته علي أحد، تكتفي بما يستطيع أن يمنحها سواء كان قليلا أو كثيرا، وهو يبيع أولادها كلما وضعتهم ولا احتجت يوما ما، تعرف أنهم سيذهبون حيث العيش الكريم، فالذي يشتري كلبا لايشتريه لتجويعه كما يبرر ذلك عبابو، ثم أن كلبته لن تلومه عندما يغادر هو الآخر إلى وطن آخر، بل ستبحث هي عن موطن يحتضنها، تماما كما فعلنا نحن، يقول عبابو: ـ سافر الوطن بعيدا عنا، فسافرنا نحن في بحث عن وطن آخر يحضننا ـ لكن الوطن لم يسافر عنا بل نحن من تركه ـ هه! دائما تستعبط، لمن كان المنجم الذي كنت تعمل به بمنطقتنا؟ ـ هو مشترك بين ثلاث شركات، شركة فرنسية، بلجيكية وأخرى إيطالية ـ يا إلهي! هل كنت حقا نقابيا هناك؟ سأكذب نفسي لو أني لم أعرف ذلك، أنا أعرف يقينا من كان يملك تلك الأرض،أ عرفهم بأسمائهم جميعا، خصوصا المناطق المحروثة أما الغير محروثة فهي أراضي سلالية، هي أراضينا، عندما تأتي شركات أجنبية، تأخذ خيراتها، تتسبب في جفافها وتصحرها، ماذا يبقى هناك غير الموت، لم يشتروها منا ولم يكتروها بل انتزعوها، وأنت وأصحابك عندما كنتم في تلك النقابة، كنتم تدافعون عن أجور تافهة أو تعويضات مملة تبقيكم على قيد الحياة. لم أكن أعرف أن عبابو بهذه القدرة من التفكير الفلسفي الكلبي، كانت تأملاته في مسلكيات كلبته قد جعلته يستخلص الكثير من الحكم الكلبية كما جعلته أيضا يستخلص فهما جديدا للوطن، فالوطن كما يراه يوجد هناك حيث سرق أما ماتبقى فيه من حيث أتينا فلم يكن سوى صورة صنمية للتعبد.
#عذري_مازغ (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يعيد التاريخ أحداث إيليخيدو مرة أخرى إلى الواجهة
-
حكايا من المهجر - هلوسة عبابو
-
الدرس الثاني ديالكتيك البراءة
-
الدرس الأول لأطفالنا في الديالكتيك
-
مقاربة تصورية حول الحتمية الاشتراكية
-
نحو تأسيس مزبلة إلكترونية
-
بمناسبة 8 مارس
-
من وحي ألميريا
-
حول تأصيل اللغة الأمازيغية
-
كولن ولسن وتجريد اللامتجرد
-
أحلام دونكشوت مغربي4
-
أحلام دونكشوت مغربي3
-
لي في عينيك
-
أحلام دونكشوت مغربي2
-
أحلام دونكشوت مغربي
-
طالوت وجالوت كمدخل خلفي لإيديولوجيا الإرهاب2
-
طالوت وجالوت كمدخل خلفي لإيديولوجيا الإرهاب
-
حكايا من المهجر 2
-
تطوان أو تيطيوين(العيون)
-
حكايا من المهجر
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|