|
ملحمة كلكامش
عادل علي عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 2947 - 2010 / 3 / 17 - 14:49
المحور:
الادب والفن
ملحمة كلكامش ( دراسة في الأبعاد والمضامين)
يقول اندريه بارو : لك الشمس بأنوارها سهل وحوض النهرين العظيمين دجلة والفرات فحسب ، بل أضاءت كل المنطقة المحيطة بها . وهكذا ادعت ما سميت بالحضارة الشرقية بسيطرتها على كل المنطقة الواسعة التي كان البحر المتوسط يحدها من الغرب ، وتمتد شرقا حتى تخوم الأفغان . وإذا كان البحر الأسود يحدها من الشمال فأنها من ناحية الجنوب تشمل شبه الجزيرة العربية برمتها .. انه الشرق ومن يستطيع أن ينكر بأن المعرفة جاءت من الشرق ) .
لعل المناظرات الكبيرة التي أفردتها الدراسات الواسعة لدى كل من الباحثين الدكتور فيصل السامر ومحمد مفيد الشوباشي ، لم تتوصل إلى أسبقية البصمة التاريخية الأولى ، لكل من حضارتي وادي الرافدين ووادي النيل . وبقيت هذه الدراسات تنتظر من يكشف الحجب التاريخية السحيقة ، المعززة بالوثائق والأدبيات التي تدعم الرأي . واعترف أن المؤرخين والمعنيين في الدراسات التاريخية والآثارية في مصر ، قد شمروا سواعدهم وجندوا هممهم في حسم هذه القضية ، وراحوا يسبغون علينا بالمدونات والإستشهادات والوثائق الكثيرة والمتنوعة . كما اعترف أنهم حققوا سبقا خاصا بمثل هذه الدراسات والاهتمامات ، التي راحت تثقف وتنظر وتبشر بأبعاد وأولويات تلك الحضارة . فضلا عن أن العاملين المصريين في حقل الكتابة والمدونات والتجارب الحضارية والآثارية ، هم عدد كبير من الباحثين والمؤرخين والمهتمين في الدراسات الإنثربولوجية والأركيولوجية وهم من العاملين الحقيقيين الذين لا يتعدون بعض أنفار ... ولكن بقي أن نسلم بأن حضارة وادي الرافدين ، تعد برأي الباحثين المعنيين في حقلي الحضارة والتاريخ ، من اعرق الحضارات الإنسانية ، وأنها قدمت إلى البشرية منجزات عظيمة وكبيرة وفي كافة الميادين الإنسانية . كما أن للعراق دوره المعروف في نشر أسس وأبعاد وأهداف هذه العلوم إلى أصقاع وتخوم العالم الممتد . ويكفي هذه الحضارة فخرا أنها علمت الحرف الأول للإنسانية ، ومنها انتقلت الكتابة التصويرية إلى مصر ، وتمركزت عند الحيتيين سكان آسيا الصغرى ، وهيمن الخط المسماري على كل تلك المنطقة ، وأصبحت اللهجة البابلية هي اللغة الدبلوماسية لبلاطي سوريا ومصر لمئات السنين ، ناهيك من استخدام الحضارات القريبة لعمليات مسك الدفاتر والحسابات ، واعتمادهم لعلوم الفلك والفلسفة والطبيعة والحساب والطب وهذا ما جعل المؤرخ المعروف ( انولد توينبي ) ينعت هذه الحضارة بـ ( الحضارة العريقة ) . والأكبر والأهم من ذلك كله ، هو سبق هذه الحضارة في مجالات الشعر والأدب والملاحم ، والتي جسدت أعمال الأبطال والآلهة وقصص الطوفان والأساطير ، وآداب الحكمة والمفاخرة والمناظرة ، والحوارات الكبيرة والمطولة ، وآداب الفكاهة والسخرية والمأساة والغزل والحب ، إضافة إلى الأسفار الطويلة للأدعية والابتهالات والتراتيل والترانيم ، وأعمال تقديم الأضاحي والقرابين والصلوات الخاصة بتلك الطقوس . وهذا ما حفلت به ملحمة كلكامش ، تلك الملحمة التي ضمت بطيها أعمالا طويلة واسعة من الفنون ، والآداب التي عكست واقع حضارة وادي الرافدين ولم تجعله واقعا شكليا رتيبا بالمعنى الذي نتوقعه . فأعطت الحياة العراقية آنذاك طابعا من النشاط والفاعلية بالانصهار مع الآداب والفنون والأصناف المعرفية الأخرى . لا سيما وأن تلك الملحمة قد جاءت امتدادا لملحمة الطوفان التي جرت أحداثها جنوبي العراق ، والتي أفصحت لنا عن معلومات كبيرة وغزيرة لحدوث طوفانات عظيمة حدثت أيام السومريين ، حدثت بعد عام 4000 ق.م ولقد بينت الألواح والدراسات والبحوث والكشوف التاريخية والأثرية ، صحة هذه الطوفانات العظيمة التي أبادت المنطقة ، وتحقق لملحمة الطوفان ، ان يكون لها اثر في الآداب السامية البابلية والعبرية والصينية . لقد افدنا كثيرا من الكاتبين ( دياكونوف وونرافيموف) اذ يقولان : ( إن ملحمة كلكامش تثير اهتماما نظريا كبيرا سواء لأنها أقدم ما هو معروف من الملاحم الكبرى ، فهي قد كتبت قبل ملاحم هوميروس بأكثر من ألف عام ، ام لأنه يمكنا متابعة تطور نص هذه الملحمة عبر العصور الأكدية والبابلية والآشورية ، ليس عن طريق تحليل النص وحسب ، بل عن طريق تعدد نسخ الملحمة العائدة الى أزمنة مختلفة ) . وكذلك رأي ( س . ن : كريمر ) الذي في كتابه ( هنا بدأ التاريخ ) تحت عنوان ( أول ملحمة وعهد وفروسية ) : ( إن هذا اللوح يتضمن حكاية عن الطوفان شبيهة بما ورد في سفر التكوين من كتاب العهد الجديد . وقد عرف بعد دراسة هذا اللوح والألواح الأخرى المستخرجة من مكتبة آشور بانيبال أن قصة الطوفان هذه ، تشكل جزءا من قصيدة طويلة كان الكتاب البابليون القدامى ، يدعونها حلقات كلكامش ، وهي التي نعرفها اليوم بملحمة كلكامش . ويذكر أن الملحمة تتألف من اثنتي عشرة أغنية ، تحتوي كل منها على ثلاثمائة بيت . وقد وجدت كل أغنية من تلك الأغاني ، مكتوبة على لوح منفصل ، ويحتوي اللوح الحادي عشر على القسم الأعظم من لوحة الطوفان )*. تؤكد الملحمة ان كلكامش بطل لا مثيل له ، وانه قد حكم مدينته الوركاء حكما قاسيا لا يطاق ، حيث تصرف بها وبممتلكاتها وعذاراها وفقا لرغباته وأهوائه . مما حدا بأهل مدينته ان قدموا شكاواهم إلى الآلهة ، مستنجدين مستغيثين من هول الظلم والفتك الذي جرى عليهم من سلطة كلكامش ، فتخلق الآلهة من يكون ندا له ، بعد أن أدركت أن بطش كلكامش إنما حل بعد أن أدرك كلكامش ضرورة من يناظره . فأمرت الآلهة (اورورا) فعمدت اورورا إلى خلق إنسان من طين عاش في البراري والقفار الوحشية . وهيأت له بغيا من مدينة الوركاء لإغوائه وترويضه ، فينقاد لرغباته الجنسية ، ويذهب إلى دنيا البشر وهو أكثر تعقلا ورزانة ، ولقد أحاطت البغي انكيدو بثقافة تعينه على التكيف مع أجواء المدينة ، لينتقل من حياة الوحشية إلى حياة الآدمية ، وتمهد الرؤيا لكلكامش لقاءه مع صديقه وخله الحميم انكيدو ، ليصبحا كذلك بعد مبارزة وصراع كبيرين ، ويتعانقا ويضربا مثلا في أخلاق الفرسان . والملحمة مثلما عرفتها الموسوعات ، هي قصيدة قصصية طويلة جيدة السبك ، تتوافر فيها الحبكة ، كما تتسم وقائع قصتها بالشرف والجلال ، ويعالج فيها الموضوع على نحو يتناسب مع أعمال الشرف والبطولة ، في أسلوب رائع . وسيرة البطل في العادة هو الموضوع الذي يربط كل أجزاء القصيدة *. ولقد عرفنا ملاحم معروفة ، بقي مداها وصداها قائما إلى هذه اللحظة مثل إلياذة هوميروس ، وانياذة فرجيل ، والفردوس المفقود لملتون ، وخلاصة بيت المقدس لتاسو ، ومملكة الجان لسبنسر ، وشاهنامة الفردوسي الفارسية ، والمهابهارتا الهندية . كما أن هناك مطولات تعد ملاحما من قبل المهتمين مثل المعلقات السبع ، وسيرة بني هلال ، وسيرة سيف بن ذي يزن ، وملحمة سيدة الأسبانية ، وسيرة عنترة العبسي ، فضلا عن الملاحم العربية الكثيرة التي حفلت بها ايام العرب وحروبهم وغزواتهم ، وصولا الى الشعبية الكثيرة والتي نشطت في العراق ومصر والمغرب العربي مثل ملحمة المجرشة والمدوهنة الشعبيتان و(الملحمة الأخيرة حدثني عنها احد مؤرخي الناصرية) . إن ملحمة كلكامش التي حدثت بعد الطوفان الثاني الكبير نحو عام ( 3300ق.م) في مدينة الوركاء (أورك) الواقعة بين بغداد والبصرة ، عكست حكم وادوار الملوك الإثني عشر ولكنها ركزت على الملك الرابع ( كلكامش) ملكا شجاعا بطلا ذا صفات رائعة كريمة ، وقد كان صديقا لإنسان وحشي اسمه ( انكيدو) الذي شكل محورا أساسيا للملحمة ، وقد عكست الملحمة أدوارا وأحداثا أخلاقية قيمة ، قام بها البطلان وتحديات قام بها الصديقان .. وتشاء الأحداث أن يموت انكيدو ليحزن كلكامش حزنا كبيرا ، وتتطور أحداث الملحمة لتأخذ أبعادا في مسألة التحدي والاستجابة ومراحل الموت والخلود . لقد اكتسبت الملحمة منزلة كبيرة عدها المحدثون من بين أهم شوامخ الأدب العالمي ، إضافة لسماتها الجاذبية الخالدة ، والتي جعلت البعض يطلق عليها أوديسة العراق القديم ، كما أن لموضوعاتها أثرا في معرفة المعنيين ، بانتعاش بعض العلوم والفنون العراقية القديمة التي ميزتها عن بقية الحضارات ، وخصوصا الآداب الوجدانية والشعرية والمسرحية وصنوفها وألوانها ، مثل التراجيديا والكوميديا والتطهير ، وفن الحوار والجدل . كما أن الجوانب الرمزية التي حملتها الأبعاد التثقيفية للملحمة أ أثرا كبيرا أضاف إليها ازدواجية تنوعية وموسوعية في دلالات الفهم والتصدير المعرفي ، الذي يجعلها من مقومات الأدب الملحمي لحضارة وادي الرافدين ، خاصة وأنها أفردت أن الإنسان يبقى سر أسرار الكون ، وان غايته الأولى وهو صانع المعجزات ، وان قدرته لن تتوقف قط . وان الإنسان ما بلغ من مراحل العلم والفهم والتقدم ، فأن متطلبات الكون تلزمه المزيد من العطاء المتمثل بكينونته العظيمة ، بعد أن جعله الخالق سيد الموجودات وغايتها . وان كل درجات السمو والرفعة والانحدار والوضاعة ، تبعث فيه همة استثنائية غريبة ، لإستحصال المستحيل او التقرب منه ، او تكشف أبعاده او مقترباته . وهكذا فأن تلمس الجزئيات والمقتربات الأولى للإنسان تقوده إلى الولوج نحو الأبعاد ، وتجدد فيه همة المواصلة والدرس والتقصي ، من أجل بلوغ المرام وان كان في ذلك البلوغ استحالة وعجز . ومن أجل ذلك شجعت أدبيات الملحمة ، على ضرورة التواصل والكدح والنضال من أجل بلوغ الغايات البشرية ، التي لا تعود فائدتها على الإنسان وحده بل تسمو الى الشمولية والإنسانية العالمية في النشيد والهدف . تبدأ الملحمة بالأبيات الآتية : (( هو الذي رأى كل شيء فغني بذكره يا بلادي وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها وهو الحكيم العارف بكل شيء : لقد أبصر الأسرار وكشف عن الخفايا المكتومة وجاء بأنباء ما قبل الطوفان لقد سلك طرقا بعيدة متقلبا ما بين التعب والراحة ......................................)) إن كلكامش ( الإنسان ) الذي ( رأى كل شيء) و( الذي عرف كل شيء) و( الذي عرف جميع الأشياء ) و( الحكيم العارف بكل شيء) برهن على أن الإنسان هدف الحكمة ، والحكمة محصورة على الإنسان على الرغم من تأكيدات الملحمة على أن شخصية كلكامش ، بثلثين ينتصفهما الإنسان والحيوان . لإذن فأن سمو الإنسان الذي تؤكد عليه أدبيات الملحمة ، هو الأساس الذي ثقفت عليه حضارة وادي الرافدين ، على حد رأي أغلب الباحثين والمحللين ن لاسيما والملحمة تعكس خصيصة تبدأ من الذات إلى التحسس الموضوعي ، انتهاء بتصدير العقل ، كسمة وحاجة لها علاقة بفعالية الإنسان نحو التطلع إلى مستقبل أفضل . فطوافات كلكامش المستمرة وفضوله الغائي واجتيازه للجبال المستعصية ، ومواجهته المستمرة لأهوال الحياة ، هي محاولات لاستكشاف سر ولغز الحياة والموت .. وتعززت تلك النشاطات الكلكامشية ( الإنسانية ) بالتحرش بالخلود الذي بات مستحيلا وخارجا عن إرادته . تتجلى إلينا في الملحمة جوانب أخلاقية قيمة ، تدل على صفات الفارس البطل الذي يتمتع بها ، والتي تعتبر إحدى أهم مقومات صفاته التكوينية . فمعروف لدينا أن الأخلاق هي التي تكون القيم والعادات التي يتفرد بها الكرماء ، لقد درجت الفلسفة على تصوير الأخلاق ، على أنها العلم المعياري الذي يحدد السلوك الفاضل ، كما أن الأخلاق هي فلسفة علمية تفتح أمام الإنسان الأبعاد الحقيقية للقيم ، وإنها امتداد طبيعي للمبادئ .. يقول السيد المسيح (عليه السلام ) : ... كل شجرة صالحة تثمر جيدا ، والشجرة الفاسدة تثمر ثمرا رديا ، ولا شجرة فاسدة أن تثمر ثمرا جيدا . كل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار ، فمن ثمارها تعرفونهم ...)* . لأن الأخلاق تتعزز بالتجارب والمشاهدات النافعة الفاعلة ، والتي تعود على البناء النفسي والتربوي للإنسان بفائدة كبيرة ، تشكل عونا للبطل في مهماته ، وما تعترضه من مصاعب ودروس ، وهذا ما أفادت به الملحمة للقارئ ن وبينت له أن كلكامش قد صقلته وأثرت فيه تجارب ، جعلته حكيما عارفا مطلعا بأبعاد المصاعب والأمور المحرجة ، ووصل لأن يكشف عن عمق الأسرار الخفية الكبيرة ، ويسلك طرقا بعيدة ليعيش الراحة من بعد التعب المضني المجهد الذي شهدته حياته الملأى بالمصاعب والمحن . ( تناول لوح حجر اللازورد واجهر بتلاوته وستجد كم عانى كلكامش من العناء والنصب وفاق جميع الحكام ، انه ذو الهيئة البهية السامية انه البطل ، سليل أوروك ، والثور النطاح انه المقدم في الطليعة ) وتنتقل بنا القطعة الشعرية ، ليتبين لنا أن كلكامش قد وثق تلك العبر بعد أن نقشها على الحجر ، لتكون درسا للأجيال والأحفاد وفائدة يتعظ بها البشر . ولكن ذلك لا ينفي أن كلكامش كان غليظا ظالما لشعبه الذي سامه العذاب والمرار . ( كان طوله إحدى عشر ذراعا وعرض صدره تسعة أشبار ثلثاه اله , وثلثه الآخر بشر وهيئة جسمه مخيفة كالثور الوحشي وفتك سلاحه لا يضاهيه ويصده شيء وعلى ضربات الطبل تستيقظ رعيته لازم أبطال ( أوروك) حجراتهم ناقمين مكفهرين لم يترك ( كلكامش) راعي ( أوروك) المسورة لم يترك كلكامش عذراء طليقة لأمها ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل ....................................) إن الدلالات الرئيسة في الملحمة ، تتحدد أهميتها على مجموعة من الموارد الموضوعية والأخلاقية ، التي لم تنحصر بالموت والخلود او التحدي الذي يحد من الظلم ، او المرادفات في القوة والضعف او الموت والفناء .. فقد حفلت الملحمة بمعان رائعة للحياة الأخلاقية التي احتوت على مضامين القيمة الإنسانية ، مثل الجهد والمشقة والصراع والألم والإثم والخطيئة والندم والتوبة واليأس والشقاء واللذة والسعادة والنجاح والفشل ..الخ . فلقد حل ( انكيدو) ليعلن عن كفة المعادلة في الحياة التي لم تتحدد بالبطل الأحادي ، خارقا بذلك الشكل والنسق الرسمي الذي لا يمكن للحياة أن تقف عليه . ومع ذلك لا يمكن أيضا للشر أن ينتصر وهناك مكانة للخير .. وهكذا تنتصر الإرادة البشرية الخيرة ، على مخططات الآلهة ، بعد أن حقق كلكامش وانكيدو موقفا لسمو العلاقة الفاضلة ، وأحبطا تطلعات الآلهة التي عزمت على بث العداوة والتفرقة بين الصديقين الحميمين . بعد أن صورت الملحمة انكيدو كائنا متوحشا متخلفا غير اجتماعي يعيش في الغابات والفلوات . ( فاخلقي الآن غريما له وليكن مضاهيا له في قوة اللب والعزم وليكونا في صراع مستديم ، لتنال ( أوروك) الراحة والسلام حالما سمعت (أوروك) ذلك غسلت يديها تصورت في لبها صورة لآنو وغسلت (اورورو)يديها وأخذت قبضة من طين ورمتها في البرية وفي البرية خلقت ( انكيدو) القوي
لقد تبلورت عن أحداث الملحمة ، حالة من الرقي الأخلاقي والسمو النفسي ، في أثر الحرية الشخصية لدى الكائن وعدم خضوعها او مرجعيتها ، ولو كانت تلك المرجعية تعود إلى الآلهة التي خلقت كلكامش ( على حد زعم الملحمة) فصورت لنا الملحمة أن الآلهة قد غضبت من تصرفات كلكامش بعد الشكاوى الكثيرة التي حملها أهل أوروك إلى الآلهة . إن من خطل الرأي أن نعزل السلوك البشري عن غيره من مظاهر السلوك الطبيعي ، لاسيما أن السلوك يتأثر بالآخر ، وهذا ما لمسناه حتى في سلوك انكيدو الذي تمرد هو الآخر على الآلهة التي جعلته ندا لكلكامش . يقول احد علماء الأخلاق : ( إن الحياة لا تزيد عن كونها مجرد عملية ( تكيف مستمر) يتحقق بين الكائن وبيئته) . كما أن احد الباحثين الأمريكيين يقول : ( إن الحياة لا تعاش من أجل بعض الغايات ، صحيح أن حركتها تتجه نحو الأمام ، ولكن قوتها الباعثة لا تصدر مطلقا عن الأمام ، بل عن الخلف ) . إن كلكامش الذي تأرجح بين البشرية والإلوهية ، كان إنسانيا بكل ما تحمله صفات الإنسانية ، على الرغم مما رسمته الآلهة ، فكان ثلثه الأول يتحسس ويتعايش مع قيم الإنسان ، في حين راح ثلثه الآخر ينقاد لرغباته الحيوانية الجامحة ز وقد أحبط كلكامش رغبات الآلهة بعد أن حقق دين الأنسنة نحو صديقه الحميم انكيدو ، وصار خلا له في سرائه وضرائه . إن حياة الإنسان لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الحيوان ، أما بداية نفوذ نحو توظيف إنسانيته ، فتبدأ من مرحلة الشعور بالذات ، أي عندما يدرك أن ذاته الموضوعية هي أساس انقيادا ته وتطلعاته وبوصفها علة أفعاله . وهنا ندرك الصراع الطويل الذي خاضه كلكامش بين الغريزية والبشرية ، فالغريزية تحددها الانفعالات والدوافع العمياء والحرية ( المطلقة المسلوبة) التي تفتقد إلى القدرة والاختيار . في حين أن النزعات البشرية مرتبطة بالتحكم بالأهواء والانفعالات ، التي تشعر الإنسان بأنه أمام مسؤولية كبيرة جسيمة .. إن ثورة كلكامش التي لم تنقاد وتنصاع وتتحدد بإرادة الآلهة ، أثبتت رجاحة الثلث الأول ( ثلث الخير ) الذي جعل الإنسان سيد المخلوقات والموجودات وغاية الغايات وأسمى الأهداف ، كما أن لتمرد الإنسان على خوارق الآلهة ، اثبت لنا أن الحرية هي أغلى الموجودات الحياتية . ((رأى كلكامش ( انكيدو) الهائج الذي ولد في البادية ويجلل رأسه الشعر الطويل فانقض عليه وهاجمه تلاقيا في موضع سوق البلاد سد انكيدو الباب بقدميه ومنع كلكامش من الدخول امسك احدهما بالآخر وهما متمرسان ( بالصراع) وتصارعا وخارا خوار ثورين وحشيين حطما عمود الباب وارتج الجدار وحينما أثنى كلكامش ركبتيه وقدمه ثابتة في الأرض ( ليرفع انكيدو) واستدار ليمضي هدأت سورة غضبه كلمه ( انكيدو) وقاتل له : (( انك الرجل الأوحد ، أنت الذي ولدتك أمك )) ولدتك أمك (( ننسونا)) البقرة الوحشية المقدسة ورفع (انليل) رأسك عاليا على الناس وقدر إليك الملوكية على البشر )) إن اتحاد البطلين هنا يعني اتحاد الخير ضد الشر ، كما أن للصداقة أبعادها في تكشف المعطيات الإنسانية التي لا يختلف عليها اثنان بغاياتها وسمو أهدافها ، فلقد توحدت كلمة البطلين لقتل ( خمبابا) العفريت الذي يحرس غابات الأرز ، بعد أن لمس انكيدو صفات الإنسانية التي طالما حلم بها لدى كلكامش ، وراحا معا لينقذا مدينتهما من هول هذا العفريت . إن هذه الانعطافة الانقلابية التي حدثت للبطلين العظيمين ، تؤكدها الملحمة التي تنشد الإنسان هدفا وحجة وغاية في مكافحة الشر بشتى صوره وأشكاله المختلفة . وهذا ما أثار الآلهة وأجج انتقامها من الصديقين الحميمين . فلقد أفجعت قلب كلكامش بعد موت صديقه انكيدو ، وراح يمني النفس بالبحث عن عشبة الخلود التي وجدها بعد جهد ولأي . ولكنها سرعان ما راحت منه بعد أن أكلتها الأفعى . أما كلكامش فقد أدرك أن البقاء للخالق الأزلي الأول ، وأن كل الموجودات قابلة للفناء ، وأن الخلود هو صفة الرب الباقي ، الذي صنع كل المخلوقات التي ستؤول إلى الفناء لا محالة . (( يسكن في الغابات (خمبابا) الرهيب فلنقتله كلانا أنا وأنت لكي نزيل الشر عن البلاد ................................. فتح (انكيدو) فاه وقال لكلكامش :- يا صديقي لقد علمت حينما كنت أجول في التلال والبراري الواسعة مع حيوان البر إن الغابة تمتد مسافة عشرة آلاف ساعة في كل جهة فمن يجرؤ على الإيغال في داخلها و( خمبابا) زئيره عباب الطوفان تنبعث من فمه النار ، ونفسه الموت الزؤام فعلام ترغب في القيام بهذا الأمر ( خمبابا) لا قبل لأحد بهجومه مثل ماكنة الحصار ففتح كلكامش فاه وقال لــ أانكيدو) : - عزمت لارتقين جبال الأرز وأدخل الغابة ، مسكن ( خمبابا) وسآخذ معي فأسا لأستعين بها في القتال أما أنت فامكث هنا ، وسأذهب أنا وحدي ))
إن صورة البحث عن الحقيقة هي غاية وهدف الملحمة ، والتي تجسد لنا باعثا عقليا هو الرغبة في اكتشاف المعرفة ، والتعرف على سبل الخير والشر ، والصواب والخطأ ، وهذا بطبيعته يؤكد على أن الملحمة قد اهتمت بالجوانب المعرفية والاستقرائية التي لا تقتصر على صنف فكري ما . فمن المعروف أن نظرية المعرفة ( الأبستمولوجيا) هي مزيج من الوثائق المعرفية التي تشمل جميع الأفكار التي تؤدي إلى المعرفة من قبيل الإدراك والتيقن والتخمين والوقوع في الخطأ ، والتذكر والتبين والإثبات والاستدلال والتأكيد والتعزيز والتساؤل والتأمل والتخيل والتأويل . إلى غيره من العلوم والمعارف البشرية الأخرى . لذا فقد دللت الملحمة بأبعادها الفكرية على عمق الثقافة العالمية التي أفصحت عن تلاقح الحضارة العراقية القديمة مع الحضارات المعروفة المنتشرة آنذاك . لأنها عكست تأثيرا وتأثرا واضحا على محاور الفلسفات والثقافات التي حققت قفزات فكرية في تلك المرحلة . كما لا يفوتنا أن للغة الملحمة أثرا كبيرا في عكس بناء الذهنية العقلية للحضارة العراقية القديمة . هذا إذا ما سلمنا على أن اللغة أداة فعل يتسع الوجود الذهني للإنسان باتساع فعلها وانتظامها . وهنا يقول ( فايكوفسكي) : ( إن عملية الإدراك هي نتيجة لنشاط معقد تسهم في جميع وظائف الذهن الأساسية . وهي لا يمكن حصرها بالمشاركة او بالانتباه او بالمخيلة او بالاستدلال او بأية ميول محددة . إذ هي جميعا تكون ضرورية ، ولكنها غير كافية بدون استعمال الإشارة او الكلمة ، كواسطة توجه بها عملياتنا العقلية ونراقب بها مسيرتنا ونحدد لها اتجاه حل المشكلة التي تعترضنا )*. وهنا يتفق المعنيون في علم اللغات ، على أن اللغة السومرية تصلح لأن تكون أولى اللغات الحضارية ، لما حفلت به من أصوات وإشارات صوتية وإيحائية ، وهي اللغة ذات النصوص التصويرية ( البكتوغرافية) . يقول العالم الإنثربولوجي الفرنسي الشهير (كلود ليفي شتراوس ) : ( إن المرء يستطيع تنظيم نوع من الجدول التاريخي للبنيات اللغوية ، بحيث يجعل هذا الجدول مشابها لجدول العناصر الذي نظمه ( مندلييف) للكيمياء الحديثة . وعندئذ يبقى علينا فقط أن ننظر إلى مكان اللغات التي اضمحلت ، او التي لم تعرف ، او التي ستوجد ، او التي يمكن أن توجد )*. لان المهيمنات الحضارية التي أرادها سرجون الأكدي ، في أن تشكل الحضارة العراقية عالمية في نزعاتها ، هي جزء من طموحات الحضارة العراقية القديمة في عمليات التصدير المعرفي ، التي تنشدها اغلب الحضارات الراقية ، لتشكل حركة ثقافية عالمية النزعة . فقد أثبتت نوايا القائد الأكدي ، برنامجا واسعا في عملية البلورة والتفعيل ، لتأسيس إمبراطورية عالمية تدين لحضارة وادي الرافدين ، وتتعامل بلغتها التي حققت انتشارا شجع ذلك القائد على تعزيزه . إن نصوص ( بريتشارد) قد أكدت أن التعاملات الحضارية ، قد استخدمت الكتابات المقطعية المعبرة عن الصوت ، والتي تعززت مع مجموعة من المعارف والعلوم التي اعتمدتها بعض الحضارات القريبة ، وعلى الرغم من أن اللغة السومرية تعد لغة منقرضة الآن ، لأن الدراسات الحديثة لم تثبت أية علاقة لها مع اللغات الأخرى ، من حيث ألفاظها واستخداماتها . إذ يعتبر بعض المعنيين في شؤون اللغات ، إنها لغة بدائية ، إلا أنها برهنت على انتعاش أفقها بعد أن حققت طريقة خاصة في غزارة معانيها ، إذ تأخذ بعض الكلمات دلالات كثيرة ، ومعان شتى ، بل تصل مفردة ما إلى أن تأخذ أكثر من خمسة عشر معنى مثل كلمة (دو) التي من معانيها ( مشى – بنى- فتح- أصبح- غرز- جلد- كهف) إضافة إلى خروج بعض معاني هذه الكلمات إلى الإشارة والإيحاء والدلالة ، مما يؤكد انتعاشها وديمومته ... ولكننا نحمّل الباحثين والمعنيين العراقيين وغيرهم ، مسؤولية ضمور النشاط في هذا المجال ، ولو كانت هذه الحضارة وتلك اللغة في بلدان أخرى ، لحققت اهتماما هو غير الذي نراه ينصب في دائرة اهتماماتنا العراقية المحدودة ، ولكننا أيضا نقف إجلالا لبعض المعنيين والمؤرخين العراقيين الذين أفنوا حياتهم في تحري الوثائق التي تثبت عمق تلك الحضارة ولغتها . لقد اقتدت الحضارة التي تلت الحضارة السومرية بها ، فلم تقتصر النصوص الكلكامشية على الأختام التي وجدت في عيلام ، او الأختام التي حملت قيثارة أور الشهيرة ، بل وجدت في نقوش عاجية تمثل كلكامش وهو يصارع الثور الوحشي ، بينما وجدنا في ختم ( لوكال نبدا) حاكم لكش ، وهو يصور كلكامش وهو يصارع الأسد والوعل ، ويصور انكيدو وهو يصارع الأسد ايضا . مما يؤكد ويعكس دور الإنسان ورسالته التي لا تقف على حدّ ما ، لأنه خليفة الله في الأرض ، فقد عكست الملحمة أدوارا لا تختص بالرجل فقط ، فكان للمرأة دور مشهود في الملحمة ، مما يؤكد على اهتمام الحضارة العراقية القديمة بالمرأة ، وعدم اقتصار وتحدد أدوارها على البيت ، بل كانت المعينة للرجل والمؤازرة له في السراء والضراء . وهذا ما بينته الملحمة التي أعطت أدوارا رئيسة للمرأة . (ارورو – ننسون – عشتار تعال يا كلكامش وكن عريسي الذي اخترت امنحني ثمرتك التي أتمتع بها ستكون أنت زوجي وأنا زوجك ) نعم ، لم تقتصر وظيفة المرأة على التكاثر والولادة والجنس ، بل مشاركة الرجل في كل شيء ، والعمل على تشجيعه لخوض الصعاب ، وشد أزره وتشجيعه على الانتقال من الهمجية إلى التمدن ، ومن الصحراء إلى الحضارة ، ومن مراحل العزل الجغرافي إلى العيش في مركز المدينة ، وحثه على خلق مجتمع فاضل فاعل في الحياة . (سأعد لك مركبات من حجر اللازورد والذهب عجلاتها من الذهب وقرونها من البرونز وستربط لجرها ( شياطين الصاعقة ) بدلا من البغال الضخمة في بيتنا ستجد شذا الأرز يعبق فيه إذا ما دخلته إذا ما دخلت بيتنا فستقبل قدميك العتبة والدكة سينحني خضوعا لك الملوك والحكام والأمراء وسيقدمون لك الإتاوة من نتاج الجبل والسهل وستلد عنزاتك ( ثلاثا ثلاثا) وتلد نعاجك التوائم وحميرك ستفوق البغال في الحمل وسيكون لخيولك مركبات الصيت المعلى في السبق وثورك لن يكون له مثيل وهو في نيره) يكاد يكون هذا الإطراء المنبعث منقلب عشتار ، كلاما ينم عن عاطفة جياشة ، ولكنه لا يعكس حبا . فقد دللت الملحمة على أن عشتار لعوب غاوية متقلبة ، وان كلكامش هو خير من اكتشف شخصيتها المتقلبة ومصلحتها الراصدة . ولكننا نسلم هنا الى رأي المرأة كوجود هام له علاقة بتمام أحداث الملحمة التي عكست ثقل الجنس الآخر وأثره . كما أن الملحمة لا تحدد المرأة بمفاتنها وقوتها التي تثير في الرجل شحنة من الحيوانية ، فينصاع كلكامش وانكيدو كل إلى متطلبات الجمال والاهتمام بالملبس والنظافة والزينة والزي الحسن . وهكذا ينظف انكيدو جسمه ، ويزيل الشعر الكثيف بالزيت عن جسمه ، وكأن النظافة هنا هي إحدى متطلبات الحضارة الراقية . وكذلك الحال هنا بالنسبة إلى كلكامش ، الذي يعتني هو الآخر بجسمه فيغسل شعره الطويل ، ويرسل جدائل شعره على كتفه ، ويخلع لباسه الوسخ ، ويستبدله بحلة نظيفة مقبولة مزركشة ، ويغدو شخصية أخرى ، لينال اهتمام وود عشتار التي راحت تمني نفسها به وتشتاقه زوجا لها . ويهيم انكيدو مع البغي ن ليتعرف على مفاتن المرأة ، ويتمتع برجولته بعد أن تثيره البغي ، وتكشف عن ثورة مفاتنها فيكون الانجذاب والهيام الذي ينتهي بإشباع الرغبة في الإنسان . وهنا تبتعد الملحمة عن جعل الجنس امتهانا بشريا ، بقدر ما تصفه حاجة مهمة للإنسان ، وان إشباع الرغبات الجنسية كفيل بحد وتحديد الشهوات الحيوانية الجامحة ، التي تؤدي إلى الجريمة والانتكاس والنكوص . وهذا ما يؤكد على إن الإنسان ، لا يمكن أن يكون بمعزل عن المجتمع ، وهو كائن اجتماعي بحاجة إلى الإنسان ، حتى يكتمل مشواره وتتكلل رسالته ويتحدد مصيره وإرادته . لقد أفصحت الأدبيات الكبيرة للملحمة ، على انتقالات موسعة في الحدث والسرد القصصي ، واختلاف في الرؤى ، ولم تستقر أحداثها على دلالالة أحادية ، بل فسرت لنا الحياة بطرائق مختلفة متعددة . فتفاوتت فيها الأنساق والأنماط ، وفق نهج حياتي خاص ، له العلاقة المباشرة في تاريخ إنسان وادي الرافدين . ولذلك فقد لمسنا الفرح والحب والعداوة والقوة والاضطهاد والتعنت ، والصداقة والإخلاص والمثل والغدر والشهوة والإنسانية والحيوانية ، وغيرها من دروس الحياة وما تجود به عبرها على بني البشر. ولكن الملحمة تفاجئنا بالموت الذي يحدّ من جماح ورغبات كلكامش ، ويزيد من همته بحثا عن الخلود الوهمي الذي ينشده ويتطلع إليه ، وخاصة بعد موت صديقه انكيدو الذي تحدد لنا وفاته ، انعطافة محورية في تفكير بطل الملحمة . أقام كلكامش حفل فرح في قصره نام البطلان واستراحا في فراشهما مساء وعندما نام _ انكيدو) رأى حلما فنهض انكيدو وقص رؤياه على صاحبه وقال :- يا صاحبي أي حلم عجيب رأيت الليلة الماضية ! (رأيت) أن ( آنو) و(انليل) و(ايا) وشمش السماوي قد اجتمعوا يتشاورون وقال آنو لأنليل : لأنهما قتلا الثور السماوي وقتلا خمبابا فينبغي ذلك الذي اقتطع أشجار الأرز من الجبال ولكن أنليل أجابه قائلا :- (( أن انكيدو هو الذي سيموت ، ولكن كلكامش لن يموت) ثم انبرى (شمش)السماوي وأجاب انليل البطل وقال : ألم يقتلا ثور السماء و(خمبابا) بأمر مني ؟ فعلام يقع الموت على انكيدو وهو بريء؟ فالتفت انليل إلى (شمش) السماوي وأجاب حانقا : الأنك نطلع عليهم كل يوم حتى صرت كأنك واحد منهم رقد (انكيدو) مريضا أمام كلكامش وأخذت الدموع تنهمر من عينيه فقال له كلكامش : يا أخي العزيز علام يبرئونني من دونك ؟ وأف يقول: هل سيتحتم علي أن أراقب أرواح الموتى وأجلس عند بال الأرواح؟ وهل سيكتب عليّ إلا أرى صاحبي العزيز بعينّي ؟
إن حكت الموت باتت من أهم القضايا التي تشغل الإنسان . وأعتقد أن كل الكتابات والأدبيات لم تتوصل إلى سر وأبعاد تلك الحكمة الغريبة ، ناهيك من ادعاء البعض المعرفة او الإلمام بأبعادها ومقترباتها . حتى قال احد الأدباء مرة : ( لو ظهرت الآجال لافتضحت الآمال) .. يقول الشاعر : ألا يا ابن الذين فنوا وماتوا أما والله ما ماتوا لتبقى ولعلنا ندرك هنا أن التصوير الذي احتوته الملحمة ، هو خير معبر عن دلالاتها وانتقالاتها الإستقرائية خاصة في مجال العظة والعبرة والاعتبار . وكما هو معروف فأن التصوير هو أنجع الوسائل والطرق والأساليب ، وأفضلها في توصيل المعلومة والفكرة خصوصا إذا اقترنت أبعاده في تجسيد المعاني ، وفق صورتها الذهنية التجريدية والتشخيصية . يقول (سيد قطب) في هذا المجال : ( إن المعاني تخاطب الذهن والوعي ، وتصل إليهما مجردة من ظلالها الجميلة ، وهي أيضا تخاطب الحسّ والوجدان ، وتصل إلى النفس من منافذ شتى : من الحواس والتخيل بالتخيل والإيقاع ، ومن الحس عن طريق الحواس ، ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء . ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها الكثيرة إلى النفس ، لا منفدها المفرد الوحيد ) * يقول ( طاغور) هنا : دعني أصلي ليس من أجل أن تقيني من الأخطار بل من أجل أن لا يعتريني الخوف في مواجهتها دعني أصلي ليس من اجل أن يسكن الألم في أعماقي ولكن من أجل أن تمنحني قلبا لهزيمته لا تدعني أنظر إلى حلفاء في معركة الحياة ، بل إلى قوتي الذاتية لا تدعني أتمنى في خوف المضطرب إنقاذ نفسي بل في صبر يعطيني حريتي لا تتركني جبانا أشعر برحمتك في نجاحي فحسب وإنما لتمد لي يدك حينما يعتريني الفشل إن فكرة الإنسان الأم ، على الرغم من أحقية الموت ، هي رفضه لفكرة الموت ، لأنها فكرة تعني فجيعته التي لا تعوض . وهكذا تجددت لدى الإنسان الرغبة في تناسي الموت وإغفاله ، على الرغم من التصوير الإلهي الرائع ، الذي صور لنا تلك الفكرة التي تزاحمنا في سورة الحج بقوله تعالى : ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكن ، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ، ثم نخرجكم طفلا ، ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ، لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) . نعم ، فقد قلصت الآية الكريمة وقربت ، ذلك الفهم المؤجل بين الإنسان ومجهولية الموت ، ونظرة الإنسان المتشائمة لتلك الشمعة التي سرعان ما يكتمل احتراقها ، ومن ثم انطفاؤها يوميا . والفجيعة اليومية المتجددة لفقدان الأحبة من بيننا ، وعليه فقد بقيت فكرة الموت بالنسبة إلى الإنسان ، أمرا غير وارد إطلاقا على الرغم من مثوله بيننا ، وبقي العقل الباطن للإنسان يعتبره جاريا على الآخرين من دونه ، وعاشت فكرة التغاضي عنه قائمة إلى قيام الساعة . وهنا تقول الدكتورة ( اليزابيث كوبلر روس ) في كتابها الشهير (DEATH AND DAYING): ) لماذا كلما تقدم العلم ازدادت مخاوفنا ونكراننا للموت ؟ . وتضيف : إن ذلك يعود إلى أسباب عديدة ، أهمها أن الموت في أيامنا هذه شنيع في جوانبه العديدة ، فهو موت فردي ميكانيكي لا إنساني . وفي كثير من الأحيان يصعب تحديد الوقت الذي تمّت فيه الوفاة . إن الموت أصبح يتم في وحدة قاتلة مفتقرا إلى العلاقات الشخصية والإنسانية )* . واستطيع أن أقف هنا ( من جديد) أمام الكلمات الرائعة التي قالها (طاغور) يوما ( لا بد أن أترك ، قولوا لي وداعا يا إخوتي .. إنني أعطيكم مفاتيح بابي .. فامنحوني بعض الكلمات .. فأنا مستعد لرحلتي ) . وإذا كانت أهم غايات التاريخ هي إدراك الماضي كما كان لا كما نتوهم انه كان ، وكذلك ليس هو تصوير الماضي كما يجب أن يكون ، فلنسلم جميعا ومن خلال ما تقدم ، إننا لم ندرك إلى الآن حكمة الموت العظيمة ، التي سرعان ما تزاحم كل تفكيرنا وجلّ طموحاتنا ، ولكن الأمل لدى الإنسان قد كسر او كاد يكسر ذلك الحاجز الثقيل ، فجعل العمل حائلا دون تلك المحطة الشاخصة التي تبتسم بخبث وهي ترسم خطانا المتلكئة الوجلة ، التي دائما ما تغير من مشيتها عند تجدد فكرة الموت . ونعود إلى حكمة الموت التي صورتها لنا الملحمة بطريقتها الوعظية الرائعة لنرى أن الأساطير الإغريقية القديمة ، قد تطرقت إلى ذكر العالم الآخر وخصوصا في أوديسة (هوميروس) الذي عاش في القرن التاسع قبل الميلاد . إذ تصور لنا الأسطورة ان (هيذر) ويعني به العالم السفلي هي ارض مظلمة تهبط إليها أرواح الموتى ، ويقوم عليها الإله (بلوتو) الذي خطف ( برسفونيه) ربة الربيع لتقاسمه ظلامها ، بعد أن أبت الآلهات جميعا مشاركته ، ويستطيع بعض الأحياء أن يهبطوا إليها بطرق خاصة كما هبط (عوليس) بطل الأوديسة . وتصور لنا الملحمة أن تلك الأرواح في (هيذر) لا تقبل اللمس لأنها مجرد أشباح تركت أجسادها على الأرض ولا تعود إليها . وأن (عوليس) لم يستطيع ضم شبح أمه على شدة رغبته ولهفته ، لأنها باتت شبحا لا يلمس ، كما تصور لنا الملحمة أن تلك الأرواح تحتفظ بذكرياتها الدنيوية وعواطفها وانفعالاتها ، فنجد الحوارات الكثيفة التي يطلقها البطل (أجاكس) الذي كان عاتبا على (عوليس) لأن الأخير قد أستأثر بدرع (أخيل) بعد موته ولرغبته الشديدة بها . بعد أن قتل الأخير في معركة (طروادة) وبسبب حرمانه من تلك الدروع . وكذلك الحال بالنسبة إلى الإلياذة ، وخاصة في المعركة السابعة ، بعد موت (فطرقل) حيث نقرأ في النشيد السابع ، وحسب ما جاء في النسخة المعربة لسليمان البستاني : لم يخف ألف آرس منيلا هلاك فطرقل الفتى قتيلا فخف في صدر السرى إليه بعدة تألقت عليه ودار حولها العدى يباري كأنه ثنية الصواري ألا ترى أتريد عن فطرقل ذب وأبسل الطروادة او فرب ضرب ثم مضى عنه وفي الجيش ذهب وقلب هكطور من البث التهب سرّح ما بين الجموع النظرا وثمة القرمين حالا أبصرا ذا كصريع دمه ينفجر وذا إلى تجريده مبتدر فثار يحكي نار هيفست التي ما أن خبت قط إذا ما وهبت
ولا يتحدد الموت في أدب الملاحم ، مثلما هو معروف لدينا ، بل أن حكمت الوجود وسرها الذي يبين أن الإنسان لم يخلق عبثا ، وان حياته تعني امتحانه وابتلاءه بالجديد والغريب والمفاجئ مرتبط مع تجربته . لذلك فأن الموت حق لا بد منه بل هو حجة الخالق القدير على عباده . ولولا الموت لما عرف الإنسان الحذر ولم يتسلح به . وان غفلة غير متعمدة لذلك الإنسان ، قد تعني خسارة لبناء كبير كاد أن يحققه ، او ربما يضطلع به ويترجمه إلى أعمال وانجازات أخرى . ولكن الموت هنا منعقد أحيانا بالإنسان ، باستثناء الأجل المحتوم والمقدر ، وأراني هنا متحسبا من قضية ( المسير والمخير)تلك القضية التي ننتهي بها بانتهاء نتيجة( البيضة والدجاجة) ولكن الشاعر الجاهلي عمر بن كلثوم التغلبي قد قرب لنا يوما تلك النتيجة المؤجلة ، بمعلقته الرائعة التي حدد فيها نتيجة الموت ذلك ( الذي يصول بلا كف ويسعى بلا رجل) إذ يقول : وإنا سوف تدركنا المنايا مقدرة لنا ومقدرينا وهكذا بقيت تلك الحقيقة المرة ، تطوف حول فلك الإنسان من خسارة كلكامش لأنكيدو ، مرورا بالملحمة الطفية للصفوة الأتقياء ، التي قربت لنا حقيقة ذلك السر الغريب وعقدتها بسمو المبادئ والإيثار ... لذا فنطالع في إحدى روايات المقاتل الحسينية أن أفواج مسلمي الجن قد قدمت إلى الإمام الحسين (عليه السلام) وقالوا له يا سيدنا نحن شيعتك وأنصارك ، فمرنا بأمرك ما تشاء ، فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك . فجزاهم الحسين خيرا وقال لهم : أوما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي رسول الله (( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة )). لقد اهتمت الأدبيات الصوفية ، بحالة الموت والفناء ، وجعلت الموت هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي ، بل صورته في مشاهد أخرى ، على انه قمع لهوى النفس . فمن مات عن هواه فقد حيى بهداه ، وهم تفننوا في تقسيم الموت وحالاته ، فالموت الأحمر هو مخالفة النفس ، والأبيض الجوع لأنه ينور الباطن ، ويبيض وجه القلب ،فمن ماتت بطنته حييت فطنته ، والأخضر هو لبس المرقع من الخرق الملقاة التي لا قيمة لها لاخضرار عيشه بالقناعة .والأسود هو احتمال أذى الخلق ، وهو الفناء في الله لشهود الأذى منه برؤيا فناء الأفعال في فعل محبوبه ، أما الفناء فهو تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات . وهم يستشهدون بفناء موسى ، حين تجلى ربه للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا . وقالوا ايضا إن الفناء عن الخلق هو الانقطاع عنهم وعن التردد إليهم ، واليأس مما لديهم . وقالوا إن علامة فنائك عنك وعن هواك ، ترك التكالب والتعلق بالسبب في جلب النفع ودفع الضرر ، كما كنت مغيبا في الرحم وكونك طفلا رضيعا في المهد . ولكنهم يصفون ( الفنائية) بأنها فناء البشرية . إن أفضل ما لمسناه في الملحمة ، هو تلك الانتقالية الرائعة في تسلسل أحداثها ، أضف إلى ذلك مطاوعة الإنسان ونيته في الانصياع إلى التغيير ، كأثر لا بد له في حياته ، وكعامل مباشر في تجدده . إن الطغيان والشر الذي عرف عن كلكامش ، جعله متكيفا مع الخير والفضيلة ، بعد أن تأثر بأخلاق وصفات صديقه انكيدو . (يقول كروتشه) :( إن الشر هو المحرك الدائم للحياة الروحية) لكنما الحياة هي مواجهة حقيقية وتحد زمني ديناميكي واضح أمام قوى الشر ، لكنما الحياة هي مواجهة حقيقية وتحد زمني ديناميكي واضح أمام قوى الشر ، وما ذاك لعمري إلا إثباتا لهويتها وسرا لديمومتها . فالكفاح والصراع البشري المستمر ، يؤكد لنا أن الحياة هي حرب مستمرة قائمة متلاحقة ، مع قوى الشر التي لا تفتأ أن تفاجئنا بأصنافها وجنسياتها المتعددة ، وأشكالها الغريبة ، ووجوهها وأقنعتها المزركشة الفضفاضة ، التي دائما ما تسقطها الأحداث لتفصح عن كشراتها الخبيثة وابتساماتها الذئبية الحاقدة . وهكذا بقي حكم الإنسان على الشر ، هو حكم تحدد الخبرات قبل النظريات والتجارب ، وقبل التقولات ، وعليه فقد اجمع الفلاسفة على أن الأخلاق ترتد في خاتمة المطاف إلى مجموعة من القواعد الشكلية ، التي تفرض نفسها على سلوك البشر بطريقة أولية سابقة . وهم يجمعون أيضا على أن الخير والشر مجرد مفهومين أخلاقيين . لذا فأن من واجبنا أن نقرر أنهما خبرتان خلقيتان ترتبطان بحياة الإنسان . واعتقد أن الأسطورة المسيحية القديمة ، قد عدت خروج أبونا آدم (عليه السلام) من الجنة حدثا سعيدا لكي يبقى آدم مسمرا بالخير ، مادام الشر بانتظاره لا محالة . لذا فمن الضروري جدا أن يعرف البشر حتى يتطلع إلى نشيد الخير . إن السمات المستنبطة من ملحمة كلكامش ، لا تحصر في بحث او مقالة ، تختص بصنف تعريفي ما ، بقدر ما تنحو إلى الدلالات والقرائن المنطقية التي تتجدد مع أحداث الإنسان ، ككائن سام يستحق الأمانة التي حملها الله تعالى له في حسم المعضلات ، والتماس سبل الخير وإرساء دعائم العيش الرغيد لأخيه الإنسان ، لذا تبقى أدبيات الملحمة الكبيرة تبحث عمن يضيف لنا عظة او عبرة او درسا ، وما ذلك على الإنسان بجديد .
المراجع
القرآن الكريم1- 2- ملحمة كلكامش طه باقر / منشورات وزارة الثقافة والإعلام –سلسلة دراسات 202-1980 – الطبعة الرابعة 3- إلياذة هوميروس- نظم وتعريب سليمان البستاني – دار المعرفة بيروت 4- هنا بدأ التاريخ –س. ن. كريمر _ سلسلة الموسوعة الصغيرة 77) وزارة الثقافة والإعلام – بغداد 5- الموسوعة العربية الميسرة – محمد شفيق غربال / مكتبة الانجلو المصرية 6- مشاهد القيامة في القرآن – سيد قطب –دار الشرق 1983 7- في الموت والممات – اليزابيت روس – مجلة العربي الكويتية العدد .... 1979
#عادل_علي_عبيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوة الغيب / الكتاب - الانتشار والاندثار -
-
قصائد
-
صور
-
سطوة الغيب / ج1
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|