|
قصة الشهيد شاكر
محمود شاكر شبلي
الحوار المتمدن-العدد: 2944 - 2010 / 3 / 14 - 07:29
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
أسرار عجيبة وغريبة يزدحم بها المشهد العراقي والمأساة المروعة التي كان يعيشها شعبنا العراقي في ظل أقسى أنواع القمع والإرهاب· إن آلاف الجرائم التي ارتكبها النظام الصدامي ما تزال غامضة وهي غالبا ما تنفذ بمواطنين تم اختطافهم بطريقة سرية بالغة وأصبح مصيرهم مجهولا منذ سنين· كذلك هناك أساليب لا تزال مجهولة يمارسها النظام في تصفية خصومه السياسيين، وهذه وتلك يجب الكشف عنها وتوثيقها واطلاع الرأي العام عليها ومحاكمة ومعاقبة مرتكبيها·
في الممر الذي يفصل الزنزانات عن الساحة، يجلس الدكتور فاضل البراك مدير الأمن العام ويقف أمامه خمسة رجال يبدو من ملاحمهم أنهم قساة ومتوحشون·· كانت عيونهم لا تستقر على موضع فهي تدور بدورة كرسي فاضل البراك! في هذه اللحظات طلب أن يجلبوا إليه شاكر - ذلك الوغد العنيد حسب تعبير البراك· وبسرعة البرق كان شاكر يجاهد ليقف أمام البراك بسبب شدة التعذيب الذي تحمله ومنذ خمسة عشر يوما··· ابتسم البراك وقال بعد أن دار بكرسيه دورة: "أنت شاكر··· لم يرد شاكر عليه، وأضاف: إنك أبله ومتخلف إذ ما زلت عند قناعات قديمة انقرضت وانتهت وأنا عايشت انهياراتها المتلاحقة ولاحقت خفاياها وأدق تفاصيلها ومفرداتها بكل دقة وعناية وأنت وأمثالك ما زلتم مؤمنين بها، تتحملون العذاب والأوجاع والإهانات من أجل أشياء لا وجود لها البتة، لقد اندثرت في طوايا النسيان (فاضل البراك - دكتوراه بالعلوم السياسية)·
* * *
نهض البراك من كرسيه ودار حول شاكر يتفحص جسده العاري الذي أضحى أزرق، أسود بفعل التعذيب وقال: أيعجبك هذا الوضع الذي أنت فيه؟! ثم صمت وفجأة صرخ: اخرج· أخرجوه ولكنه استدرك ولكن بعد أن تعترف بالتفصيل ثم تتبرأ من جماعتك وتتعهد لنا بأنك أصبحت إنسانا سويا وتدخل في خيمة الثورة فتكون آمنا مطمئنا· ألم تسمع من يقول: من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن وتكون لنا عينا وعونا ونكون لك عونا وملاذا· تعاون مشترك ومتكافئ· ستكون لك مصالح وامتيازات عندنا وستكون لنا عليك واجبات ثم صرخ: أخرجوه، اخرج·· ولكن ليس قبل أن تقول كل شيء ثم قال كلاما غير مفهوم (يبدو أن حالة من السكر بدأت تداهمه)·
* * *
لم يستطع شاكر الوقوف أكثر من هذا فجسمه يرتعش مثل سعفة في مهب ريح عاصف وسقط على الأرض مغشيا عليه·
* * *
البراك لم يلحظ سقوط شاكر إذ كان موليا الكرسي ناحية أخرى وفجأة رن جرس الهاتف وبدأ حديثا طويلا صاحبته ضحكات وقهقهات ووجوم أحيانا·
* * *
عندما دار بكرسيه ناحية شاكر، كان شاكر قد انتهى من غيبوبته وبدأ يفيق وتتفتح عيناه، البراك يمعن النظر ثانية في ذلك الجسد المشوه ثم أشاح بوجهه ناحية عناصره المتوحشة وقال: خذوه وأفيقوه ثم عودوا به اليّ مرة أخرى· أمسك الرجال الخمسة بذلك الجسد المدمى وبدأوا بسحله على أرضية الممر الذي ران عليه الصمت الكئيب والذي خلا تماما إلا من الدكتور فاضل البراك·
* * *
عندما عادوا بشاكر هذه المرة، كان فاضل البراك قد غادر الممر الى مكان آخر من مبنى مديرية الأمن العامة· أوقفوا شاكر قبالة الكرسي الفارغ بعد أن أفاق تماما ودب فيه قليل من الحيوية وهذه المرة كانوا قد ألبسوه ملابس وإن كانت فضفاضة إلا أنها ملابس سترت جسده المشوه·
* * *
كان شاكر يتحسس الملابس ويتفحصها ويقول في سره إنها ملابس أحد ضحايا هذا المكان المشؤوم· ولكن من يكون؟ ما تهمته؟ ما موقفه أثناء التحقيق؟ لكن رؤيته لبقايا دماء كانت متجمدة عليها أوقفته عن المضي في تساؤلاته·
* * *
الرجال الخمسة كانوا يتجاذبون أحاديث منوعة تتخللها كلمات نابية· يتبادلون الاتهامات أحيانا وأخرى يضحكون ببلاهة ويضرب أحدهم الآخر· انشغلوا تماما وتركوا شاكر···
* * *
عاد د· فاضل البراك مدير الأمن العام وجلس على كرسيه، أما الرجال الخمسة فقد صمتوا ووقفوا أمامه وقفة استعداد وخنوع بانتظار الأوامر· البراك أمعن النظر بشاكر وبدا عليه شيء من الضيق وكأنه يقول مع نفسه: لقد أتعبنا فعلا والأفضل تصفيته والتخلص منه ولكن ليس قبل جولات عدة أخرى من التعذيب ثم صمت وتذكر ضابطا متمرسا وناجحا في انتزاع الاعترافات· قال: احضروا اليّ قتيبة وبعد نصف ساعة كان قتيبة يقف أمام سيده·
* * *
قتيبة وحش لكنه بهيئة إنسان، قبيح جدا، فارع الطول، ممتلئ الجسم وشواربه سميكة غطت جانبي فمه، عيناه مثل عيني ذئب وكفاه ضخمتان· كان يرتدي قميصا وبنطالا· وقال مخاطبا البراك: نعم سيدي· قال البراك بعد أن ضرب كفا بكف· سنرى يا قتيبة ما الذي تفعله بهذا وأشار الى شاكر·· لا نريده الآن أن يموت قبل أن نستفرغ جميع ما يملكه ويخبئه· صمت قليلا وأضاف: أجل يا قتيبة سنعاقبك بشدة إن قتلته· وستنجح فأنت من العناصر المشهود لها ومع ذلك كن حذرا جدا لأن أي خطأ سيسبب كارثة لأنني أعتقد أن المعلومات التي يواريها في أعماق جسده ثمينة الى أقصى حد وسوف تفتح لنا مغاليق أبواب عديدة، وأنا أكثر ما يعجبني من صفات في ضابط التحقيق أن يكون بارد الأعصاب في اللحظة التي يكون فيها المعتقل قد وصل الى أقصى درجات التحدي والصمود والعناد، وفي هذه الحالة على المحقق ألا ينفعل ولا يفقد صبره ويستنفد محاولاته بل عليه أن يواصل التعذيب وينوع في استخدام وسائله وآلاته المتوافرة والتي لم تبخل القيادة في شراء أو صنع أو ابتكار أفضلها وأنت غني عن التعريف، لكن هذه الملاحظات ستفيدك كثيرا وتقف حاجزا أمام اندفاعك وتهورك· لسنا في عجلة من أمرنا وأن التأخر في انهيار المعتقل أسبوعا أو شهرا أفضل لنا من أن ندعه يلعق جراحه ويموت ونحن نتفرج على موته· نحن الذين نخسر، إذ ما أهمية معتقل أن يموت· ليست له أهمية ولا أدنى قيمة! إنما أهميته تتجسد فقط في المعلومات التي يملكها ومع ذلك فإن التأخير الطويل غير المبرر يجعل من العناصر التي يعرفها تهرب وتختفي· إنها مهمة مركبة متشعبة لها أكثر من بعد···أكثر من···
* * *
قال قتيبة: اطمئن سيدي· سوف أجعله يغرد لك مثل البلبل! ثم اصطحب شاكر وخلفهما الرجال الخمسة وبقي فاضل البراك يدور بكرسيه· أدخلوا شاكر في زنزانة عفنة ورطبة··· ومظلمة و·· ضيقة جدا·
* * *
ساعتان مضتا وشاكر داخل الزنزانة ينشغل ببعض الذكريات والملابس التي يرتديها ويستعد للمرحلة المقبلة· لقد أدرك أنهم لن يتركوه وأن استشهاده أمر مؤكد وقرر أن يموت بشرف، وفاء لآلاف الشهداء الذين سلكوا ذات الطريق، طريق الكفاح من أجل خلاص الوطن والشعب من العصابة الحاكمة التي أشاعت الإرهاب والرعب والمجازر والمقابر والأوبئة والأمراض والمجاعة وتمنى في سره أن يواصل زملاؤه الذين يتحمل الآن العذاب من أجل حمايتهم، أن يواصلوا المسيرة بنجاح وشرف واستعرض المآثر البطولية الرائعة لكواكب وشموس وشهب لا حصر لها من الأبطال الميامين الذين استشهدوا وقاماتهم عالية بصمود أرعب الجلادين وذهبوا بعد أن خلفوا وراءهم تراثا مجيدا خالدا ومعجزات لا نظير لها··· سأكون واحدا منهم يضاف الى سجلهم الناصع·· شعر بالنعاس لكن استنفار جوارحه وشحذ إرادته واستحضار تلك القصص، قلّص شعوره بالنعاس بل··· ولم يعد يشعر به بتاتا···
* * *
فجأة فتح باب الزنزانة فكانت يدان غليظتان تسحبانه بقوة وترميانه خارجها فيصطدم رأسه بالجدار المقابل· أحس بألم شديد ودماء تتدفق بهدوء أسفل رقبته أقتيد وأنزل الى سرداب عميق· الدم لم يتوقف عن النزيف، عرَّي من ملابسه ومدد على طاولة من الحديد مثبتة على كامل سطحها مسامير، المسامير بدأت تنغرس في جسده بصمت ويزداد انغراسها كلما تحرك وضغط بجسمه عليها· بعد دقائق أنزل من الطاولة ورش على جراحه الملح فشعر بألم فظيع· هذه المرة لم يكلمه أحد من الجلادين·· لكنه لمح من بعيد شخصا كان يجلس ويراقب ما يجري· لكنه لم يتكلم· بعد ذلك ربطوه على الحائط، وفي غمرة الألم وتدفق الدماء والعرق والإرهاق شعر بأن إحدى عينيه قلعت من رأسه وبعد لحظات لم يشعر بشيء·· إذ دخل في غيبوبة، واصلوا تعذيبه ثم تركوه هكذا وذهبوا الى الشخص الذي كان يجلس بعيدا هناك ودار حديث بينهم لكنه غير واضح···
* * *
عندما عاد له وعيه خرجوا به فورا الى الطابق الأرضي وبقي اثنان يمسكان به في وضع الوقوف· بعد لحظات حضر فاضل البراك وقد علم بالنتيجة وكان منفعلا وقال اتركوه، تركوه فسقط على الأرض لكنه كان واعيا· قال البراك: وبعدين· أريد أن أعرف ما الذي تستفيده من عنادك هذا؟· ها أنت الآن بعين واحدة· قل ما عندك واخرج فورا· اخرج وروح بوك (يعني اسرق) واجمع فلوسا! مثل غيرك·· شعليك بالناس (يعني اترك الناس)·
* * *
لم يستطع شاكر الصبر· لقد مست كلمات المجرم السفاح فاضل البراك مبادئه وقيمه الإنسانية الرفيعة وقال وبكل ما يملك من قوة: "أنا إنسان شريف· ما أعرف أبوك (أي ما أعرف أسرق)· في هذه اللحظة أشار فاضل البراك الى الجلادين الذين يقفون أمامه كالتماثيل الخشبية أن يبطش بهم لفشلهم في مهمتهم الدموية وأمرهم أن يقتلوه ثم قال لهم: "وبعدين تعالوا حتى نتفاهم" ويقصد التحقيق معهم عن الفشل ومن ثم العقاب·
* * *
وهكذا استُشهد شاكر بكبرياء وشرف وشموخ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم·
#محمود_شاكر_شبلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أياد جمال الدين .. متنبيء سياسي جديد
-
الشيخ معروف الكرخي ..مثال التعايش بين الأديان والمذاهب
-
الأخوّة السنية - الشيعية
-
عثمان العبيدي يغرق لينجو العراق
-
شخصيات من بلادي ..(هرقل العراق)
-
رسالة مفتوحة من مواطن عراقي الى كل العرب
-
نصيحة الى العلمانيين الجدد
-
المقامة اليهودية
-
المقامة العمياء
-
المقامة القماشية
-
المستكشف( فاليه ) يقع في غرام ( معاني ) البغدادية
-
الوسطية ضرورة العصر
-
نخلة لها تاريخ تربط بين جامعة أريزونا وكلية زراعة أبوغريب في
...
-
قائد النعماني ..
-
المقامة الحزينة
المزيد.....
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|