|
ثورة في مصر أم بعث لأسطورة المخلص ؟
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 2930 - 2010 / 2 / 28 - 00:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يعتقد البعض أن الزعيم سعد زغلول هو من صنع ثورة 1919 لارتباط اسمه بمجريات الأحداث السابقة والتالية على هذه الثورة . بيد أن هذا الاعتقاد - من وجهة نظر علم اجتماع السياسة – فادح الخطأ ، لا يحد من فداحته كثرةُ معتنقيه ، تماما ً كما لم يمنع إجماع البشر على ثبات الأرض [ فيما قبل جاليليو] كونها فعلا ً تدور . فالحقائق إنما تقوم على البرهان العلمي وليس على ما يتوهمه الناس . من هذا المنطلق " العلمي " يصح القول بأن ثورة الشعب المصري ضدا ً على الاحتلال البريطاني عام 1919 هي التي صنعت سعدا ً وليس العكس ، وذلك تطبيقا ً لقاعدةٍ مفادها أن الظروف الموضوعية ، المتمثلة في المعطيات المادية أو الجغرافية أو التاريخية ...الخ لابد أن تتوفر أولا ً قبل أن يحاول الشرط الذاتي [ الجهد البشري ] التعامل معها . وتوضيحا ً لهذه الحقيقة دعنا نتصور أن لينين ( أكبر ثوريي التاريخ ) قد ضل به قطاره السويسري عام 1917 وبدلا ً من توصيله إلى روسيا ذهب به عبر بغداد إلى الحجاز ؛ هل كان ممكنا ً أن يفجر ثورته " الاشتراكية " في منطقة لم تكن سمعت بعدُ عن الرأسمالية ، ولا ُعرفت بها طبقتا البورجوازية والبروليتاريا ؟! هذا الظرف الموضوعي الغائب في الحجاز وقتها ، كان يتأهب للنضج في مصر بما يسمح لثورة وطنية ديمقراطية أن تبدأ . فلمن تكون قيادتها ؟ لطبقة وسطي ( بورجوازية ) هيأت لمولدها ونموها حرب ٌ عالميةٌ فرضت انقطاع الواردات من الخارج حتى صار لزاما ً دخول الرأسمالية المصرية ميادين الصناعة المختلفة ، والتي كان ضروريا ً لحمايتها أن تخلص مصر لأبنائها بعد انتهاء الحرب ، حماية لصناعاتها الناشئة من عودة الهيمنة الاقتصادية لدولة الاحتلال . فكان مطلب الاستقلال جزء ً لا يتجزأ من المصالح المادية للطبقة البورجوازية ، وهي مصالح كانت جديرة ً بأن تقاتل تلك الطبقة من أجلها ، وأن تجمّع حولها سائر الطبقات الشعبية التي عانت من ويلات المحتل ماديا ً ومعنويا ً. هذا الظرف الموضوعي هو ما سمح للإرادة الإنسانية أن تكون فاعلة ً في تفجير الثورة ، حيث انطلقت هذه الإرادة من رفض الشعب القاطع لما قامت به سلطة الاحتلال من سفه تجسد في اعتقال زغلول ورفاقه ونفيهم خارج البلاد .
لا ثورة ولا إصلاح بدون نظرية قبل أعوام شيد مقاول مغامر عمارة من ثلاثة عشر طابقا ً لصق مسكني ذي الأربعة طوابق ، وسرعان ما تصدعت الأعمدة منذرة بسقوط المنزل على رؤوسنا نحن ساكنيه التعساء ، وعليه لجأنا لصديق هو الأستاذ الدكتور فتحي عبد ربه استشاري الهندسة المدنية المعروف . فماذا فعل ؟ وضع برنامجا ً تفصيليا ًعمليا ً لمعالجة الصدوع ، ويومها أجهد الرجل نفسه مشكورا ً ليشرح لي أنا غير المتخصص كيف أن برنامجه مستمد من نظرية علمية صالحة للتطبيق . وبهذه النظرية وذاك البرنامج تم إصلاح الأعمدة ونجونا نحن من الموت . تذكرت هذه القصة وأنا أتابع " ثورة " الدكتور البرادعي أو نيته في " إصلاح " أحوال مصر .. والحق أنني لم أجد في كل ما قال إلا عناوين طيبة ، لا تنم عن وجود برنامج متكامل ينتمي إلى نظرية واضحة تسدد خطي " الأجندة " وترتب مهامها . مثلا ً يقول الدكتور إنه يريد تغيير النظام السياسي ! فهل خطر بباله إن النظام السياسي شئ وسلبيات وعيوب المسئولين عنه شئ آخر ؟ فإذا كان مقصده السلبيات والعيوب فأي جديد أتى به وجميع القوى السياسية تطالب بعلاجها بما فيها عناصر لا يستهان بها من الحزب الحاكم . أما لو كان القصد التغيير الشامل فأي نظام يراد له أن يكون بديلا ً للنظام الحالي ؟ الجمهورية البرلمانية ؟ هنا لابد وأن نسأل عن كيفية حدوث ذلك في دولة ذات واقع جيبوليتيكي خاص ، وارثٍ لما يسمى في الأدبيات السياسية بالنمط الآسيوي للإنتاج ، كانت فيه الدولة – لألوف السنين - بحكومتها المركزية القوية وجهازها البيروقراطي العتيد نقطةَ ارتكاز وحيدة ٍ للأمن كما للعمل . فإذا افترضنا أننا بلغنا المرحلة التي يحل فيها المجتمع الصناعي تدريجيا ً محل هذا النمط الجامد ، فإن الانتقال إلى اللبرالية السياسية الكاملة لا غرو يحتاج إلى تدرج أكبر ، وإلا أفرخ بيضُ الفوضى طيرا ً برؤوس الشياطين [ والعراق مثال واضح ] سيما وأن لدينا قوى تدعي أنها سياسية ، تغذي الجماهير بأيديولوجيات نيئة أولها ضرورة العودة إلى الماضي الذهبي ، وثانيها نظرية المؤامرة التاريخية التي تتربص بديننا وعقيدتنا ، وثالثها انتظار البطل الفرد الذي يهبط علينا فجأة بالخلاص المنشود ! وجميعها أيديولوجيات مدمرة للوعي ، بقدر ما تهدهد معتنقيها المستسلمين لحالة المفعولية ، ليمكثوا خارج واقعهم (المشتبك بالغير محليا ً وإقليميا ً وعالميا ً ) بعيدا ً عن دروب الفاعلية "المؤلمة " غير ملتفتين إلى ضرورة حل مشكلاتهم جمعيا ً لا فرديا ً ، كتـّابا ً للائحة الحاضر لا مجرد قراء على هوامش نصوص الماضي .
الشخصية المصرية بين الحقيقة والوهم ينتقد الدكتور البرادعي مسيرة الخمسين عاما ً الماضية ، مستسلما ً لإغراء تعميم طالما حذر منه مفكرون كبار على رأسهم الفيلسوف هيجل ، ومع ذلك يمكن قبول هذا النقد لو اقتصر على نطاق العمل السياسي الداخلي ، فما أشاعه الزعيم عبد الناصر من دعوة المصريين ليكونوا " الكل في واحد " إنما كان تأسيسا ً لفكر فاشيّ لا شبهة فيه . وقد كان منتظرا ً من البرادعي أن ينقد الفكر الناصري تفصيلا ً ، لكنه بدلا ً من هذا راح يربت أكتاف الناصريين والإسلاميين (وبالمرة الماركسيين واللبراليين ) باعتبارهم معبرين عن الشخصية المصرية ، كما لو كان لدينا ثمة ما يسمى بالشخصية المصرية ، تلك الحالة الوهمية التي أرادها ناصر أن تكون نسخة واحدة منه ، ويريدها البرادعي اليوم نسخا ً للاتجاهات المتعددة الموجودة على ساحة النخب وليس للشعب بها من أواصر . يقول ماكس فيبر إن خلع شخصية قومية موحدة على الانجليز في القرن السابع عشر كان مصيره ببساطة تزييف التاريخ . كذلك نقول إن الزعم بوجود شخصية قومية موحدة للمصريين اليوم ، لا غرو يعني تجاهل الفروق المفزعة بين طبقاتهم العليا والدنيا ، وتجاهل الشقاق الديني بين مسلميهم ومسيحييهم ، وتجاهل تنامي التفرقة بين الذكر والإناث ، وتباعد السلوكيات الاجتماعية بين نخبهم المتعلمة وعوامهم الجهلاء . فكيف يمكن إذن تجسير كل تلك المهاوي ، وجبر كل هاتيك الانكسارات والشروخ لدى المصريين دون نظرية ثقافية تشرح الأسباب وتعلن النتائج ، ثم تبتكر نموذجا ً Paradigm ذا أبعاد فلسفية وإمبريقية ، مهمته إعادة تكوين الشخصية المصرية التي عرفها تاريخ ما قبل الأسرات الفرعونية : مروضة لنهرها الجموح ، بناءةً ، شجاعةً ، واسعةَ الأفق فياضةً بحب الحياة ؟ واليوم حسب ُ وبأدواتنا المعرفية المعاصرة يمكننا أن نرى كيف عاشت وتألقت هذه الشخصية المصرية الرائعة ثم ما لبثت حتى بددها الطغاة فالغزاة قرنا ً بعد قرن ، وجيلا ً بعد جيل ؟! ليكن حق للبرادعي أن ينادي بإصلاح سياسي طال الشوق إليه ، ولكن يبقي القول بأن ما ينادي به سوف يظل محاصرا ً في شوارع النخب لا يتعداه إلى جموع الشعب في أزقتها وحواريها وقراها ونجوعها ، ما لم يسبقه – أو بالأقل يواكبه – إصلاح ثقافي راديكالي شامل ، والإصلاح في هذا السياق ترجمة للكلمة الانجليزي Reform ومعناها إعادة تشكيل ، وما من شك في أن إعادة تشكيل أي بناء لابد يستهدي بنظرية علمية لا يعكر على استيعابها تسرع ، أو يستقطب تمثلها نموذج سابق التجهيز [ راجع مثال الدكتور فتحي عبد ربه في صدر المقال ] كما أن المقصود هنا بالثقافة ليس مجرد إنتاج أو استهلاك الأعمال الفكرية والأدبية والفنية .. ذلك خليق بحبس المعنى في القالب المهني البحت ، بل المقصود بالثقافة طرائق العيش وتوجهات الروح وتقاطعات الرؤى على خطوط الحياة الإنسانية الكريمة الحرة . وبغير هذا التوجه " الثقافي " يظل الدكتور محمد البرادعي واحدا ً من تجليات أسطورة المخلـّص في زمن مفترض فيه أن أهله نبذوا الأساطير ، مستبدلين بها الوعي العلمي .
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الإسكندرية
-
المثقفون بالاسكندرية يتضامنون مع شيخ النقاد العرب د. جابر عص
...
-
هل تصبح سيناء وطنا بديلا للفلسطينيين ؟
-
مغامرة الكتابة مع نجيب محفوظ
-
المتشددون المسلمون يرقصون على موسيقي العدو و يهددون بحرب صلي
...
-
هل يمكن للشعب أن يتنازل - بحريته - عن حريته ؟
-
الشعر سفيرا ً فوق العادة
-
لماذا يرتعب المتدينون من كلمة الحرية
-
متى يعتذر الغرب للشعب المصري
-
المرأة العربية في المخيال الجمعي
-
مقاربة مصرية لرباعية الإسكندرية
-
رواية أن ترى الآن لمنتصر القفاش
-
النقد الذاتي قطار المصريين إلي الديمقراطية
-
عوليس الحمساوي وارهاب العودة للبيت
-
الولاء لمصر ولو كره الفرس المعاصرون
-
كل ضد إلى ضده
-
مياه الأمن القومي بعد إنفلوانزا الخنازير
-
هل يستقيل الكاتب من ديوان العولمة ؟
-
الإسكندرية والتهاب العصب الخامس
-
من عصاها تهرب الحواسب الكونية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|