|
أقلام تنبض بالوفاء... أحمد الناصري وجمعة الحلفي في ذكرى صديقي شهيد الغربة
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 892 - 2004 / 7 / 12 - 06:26
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
لا شعورياً ما أن أكملت قراءة مقال أحمد الناصري المفعم بالوفاء عن زميله ورفيق دربه الذي عاشره في المنفى، شهيد الغربة الراحل طارق مولى وتوت، أبن مدينتي الذي ودعته بالأمس على أمل أن نلتقي يوما بعد انبلاج الصبح في العراق، حتى أمليتُ أوامري على المُقْوَدِ العولمي المطواع بين يديّ المدعو الفأرة، بالذهاب الى مقالات الأستاذ جمعة الحلفي لإعادة قراءة مقاله المعنون (عند حافة الشاهدة)، ذلك الذي لم يغرب عن ذاكرتي مذ قرأته، فقد حسبته عندما فرأته لأول مرة، صوت ملأ وليس صوتاً فردياً، يُرَتَلُ وفاءاً بجانب قبور أحبتنا المهجرين بالقسر، وما سعيّ اليه في هذه المرة إلا لاستكمال ما تفرضه أعراف الوفاء لمن يمتلك عذراً في تقصيره، فالقراءات السابقة لم تعد كافية للتواصل معهم في تلك الوحشة على ما أظن، ولا حتى الدموع الذي تغرغرت بها العيون. أسرتني تلك المقالة بحق، لأنني شعرت بين سطورها فيضاً من القيم الإنسانية النادرة في هذا الزمن الصعب، فالوفاء قد تجسد عبر مَنْ لا أعرفهم، جمع من أبناء بلدي الأوفياء في تلك الطقوس وذلك المقال، وأستميح كاتبه العذر إذا ما سطرت بعضاً من الصدق الذي جادت به تلك المقالة، أو استنجدت بما حفلت به، من مراسيم تم تأديتها في يوم العيد، وأحسبها كانت نيابة عن كل الأوفياء، الذين باعدتهم المسافات، وحالت ظروفهم دون أدائها، وفاءاً لمن دنت منيتهم في منتصف الطريق من شهداء العراق وضحاياه الكثر في بلاد الله الواسعة، ومنهم أولئك الذين توارت أجداثهم حيث ترقد تحت أديم أرض الشام. أما مقالة أحمد الناصري فقد هَيَجَتْ ما كمن في الروح من تراكمات للمواجع، ومنها بعضاً مما تلمسته عن قرب في عيون أبو زياد ذلك الإنسان الشيوعي المثقل بألأم الوطن، النقي المرهف الحس، والمثقف الحالم، الذي ناء بهموم الوطن بعيداً عن الوطن، تلك المواجع التي تأسر ذات الإنسان من دون مقدمات أو استئذان لفرط صدقها وواقعيتها، فهي تمتلك القدرة على شحذ انفعالية وعي نادرة، تمتزج فيها كل المشاعر والأحاسيس والعواطف، مع العقل، في كينونة إدراك قلما تصل اليها مديات التأمل حين تتوحد هواجس القلب سيد الحشا النابض، مع العقل الكرة المركونة فوق الأكتاف التي لا تهدأ قط. طَرْقُ ناقوس يفرض على استذكار صديق غيبه المنفى بعد أن هدت بلايا الوطن والغربة كل أوصاله، لا يمنحني فسحة تأمل فحسب في استحضار شريط ذكرياتي معه، بل يمتد فعله الى نكأ كل جروح السنين الطويلة، التي لم ولن تنمحي، وتهيظ من تحت رماد العمر، جمرات عذاب اللحظات، الأيام، السنوات، كل المعاناة التي أمل أن تبقى متقدة في المدارك، كي لا ننسى، فهي الحصاد المر، الباهض الثمن، عَمَ كل ربوع الوطن، دماً وأنيناً تفطر له القلب، ودمعت له مآقي العيون. ذات مساء في صوفيا شتاء1981، بالقرب من ضريح جورجي ديمترف، وفي طريق عودتي بالترنح المعهود الى سكني، علا صوت ينادني بالعربية، لم أكترث له في البداية، وتجاهلته على أمل التخلص من المنادي الذي لا أريد أن أستجيب لنداءه أو أعرف من هو، مُسَرِعاً من خطواتي، عل وعسى يخفت هذا النداء الذي ينقض عليّ، ويسلب وحدتي في تلك اللحظة من ساعات الغربة، فأبى الجميل أبو زياد إلا أن يُقَصِرَ المسافة بيننا عبر تعجيل خطواته، وبالتالي تمكن من اقتناصي بالحضن، وسط تعالي اللهاث وانهمار الدموع. امتدت ساعات اللقاء الأول الى الصباح، فضفض عما في دواخله من آهات، وقد كانت مشاغله نوازع الشقاء التي تعتري المثقف الحالم، الذي ينوء باستجلاء كل ما يحف بالدرب من مخاطر، يطمح من خلال ذلك الجدل الذي تأصل فيه الى تحقيق كل الآمال والتطلعات التي يرنو لها شعب طحنته مكائن الاستبداد والقهر والجور والاستلاب الفكري، ورغم تقطع خيوط الأمل في تلك اللجة المتلاطمة التي تمليها أحداث الوطن المذبوح، كان قلبه النابض يفيض بحزم من الضوء، يبثها عقل متنور، لم تغب عنه حتمية نهاية الديكتاتورية التي بعدت، ولم يسعفه الحظ برؤيتها حينما تحققت بعد ربع قرن تقريباً، سنزف له البشرى حين تكتمل الفرحة يوماً ما. أشهر معدودة، كل تواجدي في تلك المدينة، قضيناها نلتقي بفترات متقاربة على موعد مسبق، نلف بدفء أحاديثنا الأهل والأصدقاء في الوطن القفص، المكبل بالأغلال، والمحكوم بأعراف التدجين المستعرة، ونمر بالشوق على مدينتنا الحلة، نجوب كل الأزقة والشوارع، نستحضر طيبة ناسها، ووجوه الأصدقاء، وهدير ماء شطها الفرات الصغير، وعبق خضرتها وبساتين نخيلها الباسق، وكل خصبها المتجدد بالنسغ الصاعد المتجذر في رحم الأرض. كان لساني ينعقد حين يصل الحديث عن أخيه خالد، ليس بمقدوري تحميل ذلك الإنسان تعباً إضافيا أكثر مما يحتمل، فالغربة هذا النزيف الدائم كنت أتلمسها في وجه هذا المتعب، الذي لاوى الزمن الغدار بكبرياء المناضل الذي لا يلين، وركن جانباً نيل المغانم بالمقايضة، وحمل الفكر والمبدأ، وعناء التشبث بالرأي، حتى لو ناء لوحده عن الجمع، ولم يقبل المهادنة، وظل أميناً، وجنى التشرد وحيداً في كثير من الأصقاع، ورضيّ برفقة الجوع والمرض، لقد فضلت في هكذا حال السكوت، لا بل الخرس، على البوح بأمر إعدام أخيه ضابط المدفعية في الفاو، بأول وجبة يسفك فيها دماء الأبرياء من رافضي الشروع بتلك العبثية، فقد طاله الإعدام لرفضه تنفيذ أولى أوامر الحرب بإطلاق نار المدافع على الأراضي الإيرانية، في بداية الحرب، وقبل الإعلان الرسمي عن نشوبها. بعد طقوس الوداع المر والافتراق تقطعت الأخبار عنه في زمن الجدب، وتناهى الى سمعي بالهمس، فيما بعد سنين، وشوشة شؤم، تفت القلب، وتقطع نياطه، تعلن غياب هذا الطيب الى الأبد، وحيداً في الغربة، من دون وداع، وربما ثوى في قبره من غير شاهدة، يتحسر في نومته الأبدية، الى زائر يحمل اليه ورداً، كما يحضى الصامتون قربه من الميتين بطقوس وفاء الأقرباء والأصدقاء. ويصلنا صوت حراك الوفاء، تواصلاً مع مَنْ تسربلت أيامهم في الغربة، واحتضنوا الوطن وتوسدوا على ألامه بعيداً عنه، ممن كان قلبهم يخفق بالأمل لبناء عراق حر جديد، فقال الوفي: (حملنا زهورنا الصفراء وشموعنا الصغيرة، وكانوا بانتظارنا هناك، عند مقابر السيدة زينب ومخيم اليرموك، ومقبرة الشهداء في نجها. كانوا هناك، القينا عليهم التحية ونثرنا زهورنا الصفراء على أضرحتهم وقرأنا سورة الفاتحة، أشعلنا شموعنا الصغيرة وتفقدناهم واحداً واحداً ثم.. ثم مضينا تاركين أمواتنا في وحشة القبر).* سلاماً لأرواح شهداءك يا عراق في الوطن والمنفى سلاماً لتلك الأرواح المشرئبة، التي ترفرف، لا زالت في سماء العراق، تبصر الجرح، تنتظر الوعد وإكمال المسيرة، بالخروج من النفق الحالك، ونيل الاستقلال الناجز. تحية حب وفخر واعتزار لأقلام تنبض بالوفاء ملؤها المحبة والأمل بكبر العراق، ولصوت يرفل بالصدق في استذكار ضحايانا يرتد صداه: ( العراق قادم وهم قادمون، هو أول الحياة وآخر الأماني، هو طائر الفينيق وهم رماده، هو سينهض وسينهض موتانا معه، وسيعود وسيعودون معاً لا محالة، سيعودون كما ستعود الأعياد في كل مرة، وسنحمل زهورنا وبيارقنا الزاهية وأغنياتنا الشجية، فـ : بعد الغياب وبعد طول تشتتي، يصفوا فؤادي والرؤى والمورد).* *************************************************** * مقاطع من مقالة عند حافة الشاهدة للكاتب جمعة الحلفي
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإرهاب ينتهك قدسية نضال العراقيين في إنهاء الاحتلال
-
الوطنية على المحك في فهم ما بين سطور خطابين
-
ننشد العدالة.. ولن نفزع مهما كثر عدد المدافعين عن جلادنا
-
مقاربات بين احتلالين... ما أشبه اليوم بالبارحة
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 10 صحافة العراق خلال
...
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 9 حركة الجهاد ج2
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق 10- 8 حركة الجهاد ج1
-
اضاءات على معاناة الشاعر والانسان موفق محمد
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 7
-
وقائع ندوة الملتقى الديمقراطي المشترك عن الديمقراطية في مدين
...
-
( 10 -6 ) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
( 10 -5 ) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 4)
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 3
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 2 - 10
-
(10 - 1) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
بياض الوجه حصاد مجلس الحكم في عشرة أشهر ونيف
-
خطوة ستكون يوماً ما إرثاً في سفر التاريخ
-
لن نغفل عن مناهضة الاحتلال بالفعل الشعبي السلمي واللاعنف ـ ر
...
-
المتاجرة بالصور الفواضح وعذابات العراقيين
المزيد.....
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|