|
في مصر المخروسة.. شهادات التكدير للنابهين والملايين للاعبين
محمد فوزي عبد الحي
الحوار المتمدن-العدد: 2910 - 2010 / 2 / 7 - 02:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مر زمن طويل مذ كنت صغيرا وبريئا وساذجا، مر زمن بعيد عندما كنت أقف في الطابور كل صباح باعتباري خطيب المعهد وقائد كتيبة الإذاعة المدرسية المفوه رافعا تحية العلم كل صباح "الله أكبر والعزة لله ..ثلاثا، تحيا جمهورية مصر العربية ثلاثا".. كنت أنظر للسماء وأتخيل مصر محلقة بين عيني وأتخيل مصر هناك في السماء، وتكاد عيني تذرف الدمع فإذا ما انتهيت من النداء ومن ورائي يردد زملائي كنت أمقت من لا يعتدلون ويستقيمون كالأسود عند تحية العلم، كنت أعتبرهم طلابا فاشلين وغير جديرين بالاحترام.. مع ذكرى السادس من أكتوبر في كل عام تتردد أغاني الوطن، ونرى زملاء السلاح، وقصص الغلابة الذين أحبوا مصر ودفعوا ثمن هذا الحب من دمائهم وأعينهم وأرجلهم وحياتهم، ونبكي لهم ولأهليهم وللوطن ونحن نرى أن حياتنا أقل ما يمكن أن نهديه للوطن.. مع كل مباراة كرة قدم للمنتخب يتردد النشيد الوطني، ويصعد شيء من الداخل يستفيق مرددا صلاة خاصة في حب الوطن، ولكننا كبرنا يا مصر، فاكتشفنا أننا مجموعة من الحمقى وأننا كما الفلسطينيون بلا وطن.. وأننا مشردون في الأرض، ولكن بلا قلب يعطف علينا كما يعطف على لاجئي الحرب والفارين من المجاعات.. كبرنا واكتشفنا أن الطلاب الفاشلين أصحاب المجاميع الهابطة ومنتسبي كليات الحقوق العامة والخاصة بخاصة الذين لم يعزفوا لحن الوطن ولم يعرفوا معنى تحية العلم هم أصحاب القامات الكبيرة، وهم باشوات اليوم وقادة الغد وأعلام المستقبل.. وأن خريجي الجامعة الأمريكية دون مجاميع ومذاكرة ووجع قلب هم أهل الإعلام والسياسية والتجارة الخارجية والخارجية، وأن أصحاب الدكتوراه درجة ثالثة من الدول الأوربية المانحة هم أصحاب الحقائب الوزارية في مصر المنحوسة.. كبرنا واكتشفنا أن النفاق والولاء والتمثيل والكذب هي أهم مؤهلاتك لتكون من كبار المسئولين، أما أن تكون ناقدا للأخطاء، أن تحاول تعديل المعوج، أن تدلي برأيك بصراحة، أن تقول أن هذا فساد، أن تبتكر حلولا جديدة وأساليب مكلفة فأنت مغضوب عليك ومحذور التعامل معك ومحظور منحك الثقة.. فنصيحة مصر اليوم هي محو مفردات النقد والتغيير والابتكار والتقييم والجودة والكفاءة من قاموسك المهني.. كبرنا واكتشفنا أن التقدير العالي والمركز الأول على الفصل والفرقة والمدرسة والكلية والجامعة وحتى الجمهورية هي ألقاب شرفية، وجزاء السهر لتحصيلها وهجر النوم وعدم الإكثار من الطعام هو شهادة تقدير أو بالأحرى شهادة تكدير لا تعدل جنيها مصريا لا غير.. في العام 1998، وبعد عام من الكد والأمل أنهيت امتحان الثانوية الأزهرية وتوجوني ملكا لفقراء الثانوية الأزهرية فكنت الأول على الجمهورية، وبعد انتظار شهرين كاملين من إعلان النتيجة كان لقائي بشيخ الأزهر حيث منحني شهادة تقدير ورقية في ظرف أصفر ومنحني شهادة استثمار وحوالة بريدية ومبلغا نقديا وووووو وكان مجموع ذلك كله أربعمائة وخمسة وثلاثين جنيها مصريا لا غير، وهو ما لم يصدقه الأخصائي الاجتماعي الذي رافقني في الرحلة حتى اطلع عليه بنفسه فأسقط في يد الرجل وأدلى بدلوه في الدعاء على أولاد الحلال الذين اذلوا مصر ومن فيها.. ولكن الطامة الكبرى عندما التقيت الدكتور التلاوي محافظ البحيرة في ذلك الوقت بعد أربعة أشهر من إعلان النتيجة، حيث منحني شهادة تقدير صغيرة وباهتة ومكتوبة بالقلم الجاف، لا تساوي خمسين قرشا، وحتى لا تصلح لرفعها في المنظرة (حجرة الضيوف) للمنظرة بها أما الغلابة.. وهو ما أغضبني بشدة لأنني تركت الجامعة والمحاضرات وعدت من القاهرة لحضور لقائه على وجه السرعة بعد تأشيرة من رئيس مدينة الدلنجات وتوافد المسئولين واحدا تلو الآخر على البيت بضرورة الحضور في الموعد، حتى لم يطمئن والدي إلا بعد أن أرسل زميلا ليحضرني بنفسه فدخلت البيت في تمام الواحدة بعد منتصف الليل لأستعد لملاقاة الباشا في الغد.. وفي الغد اصطحبت الأهل والأقارب، وكل ذلك للقاء السيد المحافظ الذي كرمني أيما تكريم فجعل الأول على المحافظة في التربية والتعليم قبل الأول على الجمهورية في الأزهر في إشارة إلى أننا مواطنون درجة ثانية، على أي حال تحدثت إلى مسئول العلاقات العامة الذي وعدني بلقاء خاص بعد انتهاء الحفل الكبير الذي أعد لتكدير المتفوقين، وحصل اللقاء بعد شهر كامل عندما سمح وقت صاحب المعالي بهذا اللقاء الثاني الذي لامنى فيه أشد اللوم على احتجاجي السافر والمنحط على معاليه وعلى شهادته العظيمة التي تصنع المعجزات وأبلغني أن التقدير المعنوي أهم بكثير من المادة ومن شراء جهاز كمبيوتر وغير ذلك من توافه الحياة الدنيا التي لا يريدها الأزهريون من الزهاد لأنهم أهل الجنة إن شاء الله.. وفي النهاية كان لي ما أردت فقد منحني منحة كبيرة، قدرها: مئة وخمسة وعشرون (125) جنيها مصريا (لا غير)، موزعة على خمسة أشهر من مديرية الشئون الاجتماعية، كل شهر خمسة وعشرون جنيها. وكان عليّ أن أسافر إلى دمنهور كل شهر وأنتظر في الطابور حتى يأتي دوري في صرف الخمسة وعشرين جنيها، وهو المبلغ المعنوي الكبير الذي مكنني من شراء كافة الكتب والقواميس وحضور دورات خاصة في مراكز متخصصة وشراء سيارة (لعبة طبعا) وشقة للزواج على كوكب عطارد، ووضع المبلغ الباقي في مصرف (مصر للمصرين لا الصوص والنصابين!!) للمساعدة في إتمام دراستي الجامعية وحتى الدكتوراه.. وطبعا لم أنس الأهل والأقارب فأخرجت والدي في عمرة لزيارة جامع القرية الكبير بوسط البلد وكله من منحة الباشا الوزير المحافظ.. لقد كنت أتذكر ويتذكر معي كثيرون من أصدقائي الذين سبقوني في التفوق أو لحقوا بي ونحن نسكن في المدينة الجامعية هذه اللحظات المتشابهة حيث منحونا شهادات تكدير قيمة لا زالت تؤلمنا كلما تصفحناها ونحن نبحث عن أشياء قديمة في أوراقنا القديمة... وخاصة عندما نجد أن المسئولين يقومون ولا يقعدون لأهل الفن والطرب والكورة ولا يعطونهم شهادات تكدير مثلنا، ولكن يمنحونهم الملايين وكأنها من ورق كراتين مقوى ويهبونهم السيارات والشقق و:انها لعب أطفال.. إنني أسطر هذه الكلمات على أمل أن يمنحوا أوائل الثانوية هذا العام 1% مما يعطون للمتفوقين من اللاعبين والفنانين والمهرجين، وهل لنا أن نطرح سؤالا برئيا: ألا يساوي جميع المتفوقين المصريين في الثانوية العامة والأزهرية واحدا (لا غير) من لاعبي الكرة؟؟؟ ربما تكون الإجابة: لا، ولكنني أحمق كنت أظن خلاف ذلك، عموما لم يبق في مصر من يبكي عند تحية العلم حبا وعشقا وموتا في سحر مصر سوى فرق الكورة ومذيعيها وكورال المهرجين، فهنيئا لمصر وشعبها وحكومتها وعلمها الحزين أبطال الكورة والتهريج!!!
#محمد_فوزي_عبد_الحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
كان محكومًا بالسجن مدى الحياة.. لحظة لقاء فلسطيني بزوجته في
...
-
لافروف وفيدان يناقشان الوضع في سوريا والقضايا الإقليمية
-
كيف تصادمت طائرتان في أجواء واشنطن؟ تفاصيل غريبة عن حادث مطا
...
-
-نقوم بالكثير من أجلهما-...ترامب يصر على استقبال مصر والأردن
...
-
مظاهرة حاشدة لأنصار عمدة مدينة اسطنبول أثناء مثوله أمام القض
...
-
فرقة البيتلز تعود بالذكاء الاصطناعي وتترشح لنيل جائزة غرامي
...
-
الشرع رئيساً.. بداية لإرساء منطق الدولة أم خطوة نحو المجهول؟
...
-
الجيش الإسرائيلي: إطلاق صاروخ اعتراضي نحو هدف جوي في منطقة ز
...
-
هيئة الأركان العامة الأوكرانية تعترف بوضع قواتها المعقد على
...
-
شبكة -NBC- تكشف تفاصيل جديدة حول حادث تصادم الطائرتين في مطا
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|